يتناول كتاب "تاريخ الامبراطورية العثمانية" الصادر بالفرنسية عن دار "فايار" في باريس في اشراف المؤرخ روبير مانتران، تاريخ الدولة العثمانية منذ إنشائها على يد عثمان في غرب آسيا الصغرى 1302 حتى نهايتها 1918 - 1923. وقد أسهم في وضعه أحد عشر باحثاً بينهم باحثتان كل هو ثقة في الفترة التي عهد إليه بالكتابة فيها. لذلك فقد جاء كتاباً وافياً للإمبراطورية العثمانية. الكتاب يمكن قسمته إلى سبعة أقسام أصلاً فيه ستة عشر فصلاً هي: 1- نشوء الدولة وتوسعها الأول ص 7 -138. 2- العصر الذهبي للدولة العثمانية ص 139 - 226. 3- الدولة العثمانية في الميزان ص 227 - 286. 4- الولايات العثمانية ص 287 - 420. 5- المسألة الشرقية والتنظيمات ص 421 - 522. 6- الأزمنة المتأخرة ص 523 - 684. 7- المدنية العثمانية ص 649 - 724. ويلي ذلك الملحقات ص 725 - 810 وفيها مقارنات بين تواريخ الإمبراطورية العثمانية وغرب أوروبا، وجدول بأسماء السلاطين، ومصادر الكتاب ومراجعه، ومعجم الألفاظ التركية، والفهارس. وفي الكتاب أربع عشرة خريطة ومخططان لاستانبول وقصر طوب قبي. نشوء الدولة وتوسعها قامت الدولة العثمانية، على ما أثبتت الروايات علمياً، سنة 1302 على أيدي عثمان. وكان ذلك في غرب اسيا الصغرى، وتوسعت في هذه الرقعة شرقاً بعض الشيء. وبعد ذلك بفترة قصيرة عبر العثمانيون البحر إلى أوروبا واستولوا على رقعة واسعة في البلقان. وأثار تقدمهم خشية بعض الأمراء الأوروبيين فهيأوا حملة اتجهت نحو الحدود العثمانية. لكن هذه الحملة انكسرت في نيكوبوليس سنة 1396، فكان ذلك إيذاناً بتوسع آخر نحو أواسط أوروبا. لكن حملة تيمور لنك المغولي على الشرق وصلت آسيا الصغرى واشتبك مع بايزيد في معركة أنقرة 1401 وكسر الأخير وأسره خصمه. لذلك فإن الأمر اقتضى من الحكام التوقف بعض الشيء عن الفتوح وإعادة ما كان قد ضاع منهم موقتاً. وعلى ما يمكن أن يحدث في أسرة ملكية لم يكن لولاية العرش، عند وفاة السلطان، ضابط، قامت خصومات ونزاعات داخل الأسرة. لكن لما سويت الأمور، وفي أيام محمد الفاتح وبايزيد 1451 - 1512 عادت الدولة إلى التوسع، فافتتحت القسطنطينية 1453 - وجعلت العاصمة - واحتلت أجزاء في شرق آسيا الصغرى وفي البلقان في اتجاه أواسط أوروبا. وحريّ بالذكر أنه خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر انصرف السلاطين العاقلون إلى تنظيم للإمبراطورية كان أساسه الشريعة، إلا أن الأعراف المحلية أُخِذَتْ في الإعتبار في الولايات الأوروبية. وكان أساس الإدارة السلطة المطلقة للجالس على العرش يساعده وزير أكبر. وكان ذراع الدولة الحربي أساسه الجيش بفرسانه ومدفعييه، وبالإنكشارية المشاة الذي قام تنظيمهم في هذه الفترة. وكان ثمة عناية بالبلاد المفتوحة من حيث تقسيمها ولايات وسناجق وتعيين حكام أتراك لأكثرها بحيث يكون إلى جانب هؤلاء الحكام قضاة ينظرون في ظلامات الناس. والمقولة المهمة هو أن الفتوح العثمانية وضعت حداً للفوضى في آسيا الصغرى والبلقان ص 138. العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية يمثل القرن السادس عشر العصر الذهبي في تاريخ الدولة العثمانية. ففيه تولى العرش سليم الأول 1512 - 1520 وسليمان القانوني 1520 - 1566 وسليم الثاني 1566 - 1574 ومراد الثالث 1595 - 1603، وفيه تم فتح بلاد الشام 1516 ومصر 1517 وترحيب شريف مكة بالسلطان سليم وقبول سيادته، وفتح اليمن والعراق وشمال أفريقيا سوى المغرب وقبرص ورودس وهنغاريا وجوارها. وحاصرت الجيوش العثمانية فيينا. كما أوقف العثمانيون الدولة الصفوية عند حدها بعد أن انتزعوا منها أذربيجان. لكن الأمر لم يقتصر على الفتوحات، فقد عرفت هذه الفترة تنظيماً للدولة أساسه أن السلطة كانت بيد السلطان الذي كان جيشه قوياً وأسطوله ناجحاً في البحر المتوسط، وكانت الولايات، وبخاصة العربية منها، تقبل السلطة الجديدة التي أنقذتها في بلاد الشام ومصر من حكم المماليك، والتي ضبطت، لبعض الوقت على الأقل، تصرف رجال الزعامات المحلية، ولو أنها لم تقضِ عليهم. وكان الإنكشارية، وهم درع السلطان داخلاً وخارجاً، بعد منتظمين. ومما هو مهم في هذه الفترة تطور التجارة مع أوروبا والنشاط الإقتصادي الفلاحي في الولايات. ويمكن القول إجمالاً بأن الدولة، وكان هذا أسلوب العصر، كانت تسيطر على الناحيتين، التجارية والزراعية. وبسبب أهمية الإتجار مع الأجانب في هذه الفترة، وهو أصلاً إستمرار إلى ما كان قبلاً، يجدر بنا أن نذكر أن التجار الأجانب في القرن السادس عشر كانوا البنادقة والجنويين والراغوسيين والملدافيين والفلاخيين والبولونيين والمسكوبيين الروس: الجماعات الثلاث الأولى بحراً، والباقون براً. لكن فرنسا أخذت تنافس في التجارة البحرية. وفي سنة 1536 عقدت معاهدة بين سليمان القانوني وفرنسوا الأول تعطي التجار الفرنسيين بعض الإمتيازات وأهمها أن يكون لفرنسا قناصل في إستانبول والإسكندرية وطرابلس لبنانوالجزائر" وقد عيّن هؤلاء سنة 1569 فكان هذا تثبيتاً للوجود الفرنسي سياسياً بثوب تجاري. وفي أواخر القرن السادس عشر كان الفرنسيون قد حلّوا محل البنادقة، أقوى تجار البحر المتوسط، وكانت السفن الإنكليزية والهولندية تتاجر تحت العلم الفرنسي. لكن الإنكليز تدبروا أمرهم بين 1580 و1583 فصارت لهم إمتيازات مثل الفرنسيين. وفي سنة 1612 جاء دور الهولنديين. ولنذكر أن معاهدة سنة 1536 توسعت بنودها وامتيازاتها تدريجاً بحيث أصبحت أساس "الإمتيازات الأجنبية" في ما بعد. والمتاجر التي كانت تنقل إلى أوروبا في هذه الفترة تشمل الكثير من الصناعات الشامية - الأقمشة والأدوات النحاسية والسيوف. والمواد الخام وأهمها الزيت والسكر ورماد كان يستعمل في صناعة الزجاج في أوروبا. أما التجارة الشرقية، في مصر وبلاد الشام، فكان يدخل فيها الأقمشة الثمينة والتوابل والعطور والحلى والأصبغة. وفي القرن السادس عشر كان ثمة نقدان فضي وذهبي، ويسمى الأول أُقجة، وهو الشائع إستعمالاً، فالذهب كان ظهوره قليلاً. وكانت عملات الدول الأجنبية مقبولة في التجارات الكبيرة. وقد رأينا أن ننقل هذا الجدول للنقد الفضي لتبيان تدهور قيمة النقد: 1 بين 1491 و1566 يسك من مئة درهم فضة 420 أُقجة في الأُقجة الواحدة 731،0 غرام فضة. 2 1566 يسك من مئة درهم فضة 450 أُقجة في الأُقجة الواحدة 682،0 غرام فضة. 3 1584 - 1586 يسك من مئة درهم فضة 800 أُقجة في الأُقجة الواحدة 384،0 غرام فضة. 4 1600 في الأُقجة الواحدة 323،0 غرام فضة. 5 168 في الأُقجة الواحدة 306،0 غرام فضة. قطعة نقد الذهب تساوي 517،3 غرام. 1491 - 1516 52 أُقجة. 1517 - 1549 55 أُقجة. 1550 - 1566 60 أُقجة. 1574 - 1595 120 أُقجة. القرن السادس عشر كان عصر القوة العظمى التي بلغتها الدولة العثمانية لكن القرن نفسه كانت فيه عناصر الضعف التي نخرت جسم الإمبراطورية في ما بعد. ومما يلفت أن تدني قيمة النقد بدأت سنة 1566 واستمرت في الهبوط وهو أول إشارات التصدّع. وهناك ثقل الضرائب الأمر الذي اقتضته الحملات العسكرية الكثيرة. صحيح أن هذه وسّعت حدود الإمبراطورية، لكن هذا التوسع اقتضى نفقات باهظة أتعبت السكان. ومع أن الإنكشارية كانوا منضبطين في هذا القرن فإنهم بدأوا، في مطلع القرن التالي، يصبحون عنصراً مزعجاً للدولة في العاصمة والولايات. الدولة العثمانية في الميزان في معركة ليبنتو البحرية 1571 كانت خسارة الدولة تامة، لكن هذه كانت بعد قوية بحيث أن المعركة لم تؤثر كثيراً في إضعاف الإمبراطورية. لكن في سنة 1622 قامت ثورة ضد السلطان لم تنتهِ بعزله فحسب بل بقتله. وكان هذا يحدث للمرة الأولى. وهنا يبدأ قرنان السابع عشر والثامن عشر هما فترة كانت الدولة فيهما في الميزان. صحيح أن الدولة العثمانية استطاعت أن تحتل العراق نهائياً وتحتل جزءاً من أذربيجان وجزيرة كريت، لكن، في مقابل ذلك، كانت الخسارة كبيرة في أوروبا، وحتى أذربيجان إضطرت إلى إعادتها إلى الصفويين في معاهدة قصر شيرين 1639. وكانت خسارتها في أوروبا كبيرة فقد استعادت النمسا معاهدتي كارلوفتز 1699 وبساروفتز 1718 أكثر الأملاك العثمانية في أواسط أوروبا، واستعادت روسيا معاهدة كوجك قنارجه 1774 أجزاء كبيرة في شمال شرق الإمبراطورية. ففي الوقت الذي كانت فيه الدول الأوروبية تبني نفسها وتقوي إدارتها ووسائل القتال، كان السوس ينخر في جسم الدولة العثمانية. ومع أن الفترة عرفت محاولات للإصلاح أيام عثمان الثاني 1618 - 1622 وأيام الوزراء كوبرلي 1656 - 1683 فقد انتهت هذه المحاولات بالفشل. وثمة نقاط أربع نود أن نشير إليها، من دون تفصيلها لأن المكان لا يتسع لذلك، وهي: أولاً أن السلطان، الذي كاد أن يعتبر من قَبل شخصاً مقدساً تقريباً، أصبح يُنظر إليه أنه أمير عادي ومن ثم يمكن قتله 1622. ثانياً أن عدد الرحالة والزوار الأجانب إزداد في هذه الفترة، وأصبح بإمكانهم الإطلاع على نواحي الضعف الداخلي. ثالثاً أن ما كان أمراً إقتصادياً عادياً يفيد من الفريقان الأوروبي والعثماني ولو أن فائدة الأول أكبر أصبح في هذه الفترة "إمتيازات" سياسية، بحيث أخذت الدول الأوروبية تتدخل في شؤون الدولة العثمانية لا في الولايات وبين الأقليات فحسب، ولكن حتى في البلاط نفسه. رابعاً أن الهالة التي كانت تحيط بالدولة العثمانية من أنها لا تقهر، زال ألقها. "لما عقدت معاهدة كارلوفتز 1699 بدا أن الإمبراطورية العثمانية لم تعد لها القوة الكبيرة التي عرفتها الأيام السابقة" ص 263. الولايات العثمانية كانت الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر أوروبية عربية، لكنها خسرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر أجزاء كبيرة من أملاكها الأوروبية، فأصبحت شرقية الطابع عربيته، وكان أكثر سكانها من المسلمين. ومع أنه ثمة فصل طويل عن الولايات البلقانية، فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى بضعة أمور مهمة تتعلق في أيام السيادة العثمانية الواسعة هناك. فقد كانت الشعوب الأوروبية داخل الدولة متعددة الأعراق واللغات والتاريخ والثقافة. ورأت الدولة أن تراعي هذا الأمر فتركت لكثير من هذه الشعوب نوعاً من الحكم الذاتي. لكن الهجمات الأوروبية وما تتطلبه عملية الدفاع عن الدولة من نفقات حملت الدولة على الضغط على الشعوب مالياً. وازداد تدخل الدول الأوروبية حتى انتهى الأمر بخروج الكثير من الولايات عنها. وفي القرن التاسع عشر قامت الحركات القومية بانتفاضات، بمعونة أوروبا، فخرجت اليونان والمناطق المجاورة عن طوق الدولة. لكن الأمر اختلف بالنسبة للمناطق العربية، فقد ظل أكثرها تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. لكن المشكلات التي لقيتها الدولة، في إدارة الولايات، كانت كبيرة. منها ما يتعلق باضطراب الإدارة المركزية الذي أدى إلى تبديل الولاة بحيث أن القاهرة تولى أمرها بين سنتي 1517 و1789 من الولاة 110 وكان الوالي يسمى باشا، وعرفت حلب بين سنتي 1701 و1750 ثلاثة وأربعين "باشا"، ودمشق بين سنتي 1516 و1600 تسعة وثلاثين، وفي القرن الثاني حكمها 65 باشا، وولي أمر صيدا في النصف الأول من القرن الثامن عشر أربعون باشا. وظل المماليك حكام مصر الفعليين حتى مجيء بونابرت سنة 1798. وجميع الباشاوات كانوا أتراكاً. ومثل ذلك يقال عن الدفتردار وهو مدير المالية والقاضي وقائد الأوجاق الذين كانوا يرسلون من استانبول. وشر ما يدل على ضعف الإدارة المركزية سوء تصرف الإنكشارية خصوصاً في بلاد الشام. فضلاً عن إستمرار عدد من زعماء القبائل والمناطق بالإستبداد بالسلطة. وقد جربت الإدارة المركزية أن تهتم بالمالية، لكن النفقات الكثيرة للإدارة المركزية والمحلية جعلت الضرائب عبئاً ثقيلاً على كاهل السكان. وانتهى الأمر بانتشار الإلتزام سبيلاً لتحصيل الضرائب. ذلك بأن يفرض على كل أرض مبلغ من المال يلتزم أحد أصحاب النفوذ دفعه للدولة ويحصل هو أضعاف ذلك لنفسه. عندنا أرقام عن الضرائب التي كانت بعض الولايات تدفعها للدولة. في أواخر القرن الثامن عشر كان يتوجب على مصر أن تدفع خراجاً للدولة مقداره 87 مليون بارة، يضاف إليه 49 مليوناً للوالي. أما "البراني" فكان يبلغ 274 مليوناً. فيكون المجموع 410 مليوناً من البارات! وكان الفلاح في فلسطين يدفع بين سد نتاجه وربعه رسمياً في أواسط القرن الثامن عشر. وفي الفترة نفسها دفع الفلاح التونسي بين 20 و25 في المئة من ريعه. لكن شر ما كان يصيب الجميع هو "البلص" الذي يفرضه الباشا لمناسبات مختلفة. ولكن مع هذا التفسخ الذي يبدو في إدارة الدولة، فقد كانت هناك أمور تربط يبن أجزاء الإمبراطورية. أولها التلاحم الديني والخلقي باعتبار الدولة العثمانية حامية للإسلام والمسلمين في وجه الهجوم الأوروبي العنيف في القرن التاسع عشر خاصة. وثانيها الروابط التجارية بين الولايات. ففي آخر القرن الثامن عشر كانت مصر لها تجارة ناجحة، فكان منها 30 في المئة مع الشرق و50 في المئة مع الولايات العثمانية و18 في المئة فقط مع أوروبا. وقد صدّرت مصر وخصوصاً القاهرة إلى أفريقيا الشمالية نسيجاً بقيمة 125 مليون بارة، وإلى سورية بنحو 56 مليون بارة. وكانت القاهرة السوق الرئيسية للبُن الذي يُحمل إليها من اليمن. وثالث ما كان يربط هذه الولايات ببعضها الحج إلى بيت الله الحرام. فقد كانت دمشقوالقاهرة مركزين لتجمّع الحجاج، وكان على الوالي أو من يتصدر لذلك من الزعماء في بلاد الشام تأمين سفر الحجاج، وكان السلطان شديد العناية بهذا الأمر، حتى أنه كان ينتظر من أمير الحج أن يدفع "الصرّة وهي مبلغ من المال للقبائل التي تقيم على طريق الحج دفعاً لأذاها وشرّها كان يدفعها باسم السلطان. ولنختم هذا الجزء بالإشارة إلى الثورات المختلفة التي عرفتها بلاد الشام ومصر في القرن الثامن عشر مثل أحمد باشا الجزّار وظاهر العمر وعلي بك الكبير ومحمد أبو الذهب، وقد استطاعت بعض الأسر تمكين نفسها في حكم أجزاء من البلاد مثل آل العظم في دمشق والجليلي في الموصل. أما الشمال الأفريقي فقد قامت فيه الدايات في الجزائر والبايات في تونس والقرمنلية في ليبيا وأخيراً جاء استقلال محمد علي باشا في مصر في القرن التاسع عشر. إلا أن أوروبا لم تسمح للدولة بأن تجمع أنفاسها. فالقرن التاسع عشر شهد الضغط الشديد على الدولة فاحتلت فرنساالجزائر 1830 وتونس 1881 وبريطانيا مصر 1882. والواقع هو أنه من الغرابة بمكان أن الدولة العثمانية صمدت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.