إذا انطلقنا من الفرضية التي باتت مقبولة ومطبقة على نطاق واسع والتي تقول إن الصور تبنئ عن المجتمع الذي يراها أكثر مما تنبئ عن نفسها، فإن البرنامج التلفزيوني Loft Story أو قصة شقة الذي بدأت القناة الفرنسية M6 ام 6 بثه منذ 26 نيسان ابريل ويستمر حتى آخر حزيران يونيو، يحمل الكثير من الكشف الجدير بانتاج العديد من الأبحاث السوسيولوجية عن حالة المجتمع الفرنسي اليوم. احتل هذا البرنامج المانشيت العريض للصفحة الأولى من جريدة "لوموند" الجادة، وذلك لعدة مرات. ولوحظت الظاهرة نفسها في الجريدة الفرنسية الثانية، أي "ليبيراسيون". وخصصت الجريدتان له صفحات مزدوجة عدة. أما جريدة "لوفيغارو" التي تعتبر محافظة، فلم تكتف بتخصيص عناوين عريضة وصفحات مزدوجة للظاهرة، بل انشأت موقعاً على الانترنت خصيصاً للنقاش حول البرنامج. وبالقياس على ذلك، يصبح عادياً تماماً احتلال هذا البرنامج لغلافات المجلات الأسبوعية، الجادة منها والوضيعة. بل صدرت مجلة متخصصة بالبرنامج. وهناك بالطبع، وكما هو متوقع، مئات المنتجات المتحدرة عنه في طريقها إلى السوق: تي شيرت وشرائط فيديو وكاسيت وكتب وصور... أما "أبطال" المسلسل، فأعيد توظيفهم في برامج أخرى، تجارية أو إعلامية، لا علاقة لها بالموضوع الأصلي، وإنما تستغل هذه الشهرة المصنوعة والعابرة. يقوم Loft Story على اختيار 11 شاباً، خمس فتيات وستة فتية - من بين 38 ألف متقدم - شديدي العادية، وحملهم على العيش معاً لمدة عشرة أسابيع في شقة مفتوحة، تحوي أقل ما يمكن من جدران تتسبب بانشاء، ما يسمى في لغة التصوير، الزوايا الميتة، أي التي لا تصل إليها الكاميرا. تراقبهم في الشقة وعلى مدار الساعة، 26 كاميرا منها ثلاث تحت الحمراء تستطيع نقل الصورة في الظلمة، و50 ميكروفوناً مبثوثاً في كل الزوايا ومحمولاً أيضاً وبصورة لصيقة بالجسم وعلى مدار الساعة من قبل المشتركين الاحدى عشر. كانت هناك شروط للترشح: أن يكون المتقدم عازباً وأن يكون دون الخامسة والثلاثين. وهناك شروط أخرى للعبة: انقطاع تام عن العالم الخارجي، لا هاتف ولا تلفزيون ولا ساعة يد أو حائط. ومرور لمدة عشر دقائق يومياً وبصورة افرادية في "غرفة الاعتراف"، الاسم الرسمي لهذا المكان المنعزل، حيث يقوم كل لاعب بترشيح نفسه والآخرين أمام عدسة الكاميرا، ومن أجل المتعة السادية لملايين المشاهدين الذين سيُدعون الى التوصيت لبقاء أو إلغاء المرشح، حين تتم تسميته من قبل رفاقه. إذ يقوم الشبان بصورة افرادية وفي معزل الاعتراف ذاك، بتسمية الفتاة التي يرغبون برؤيتها تخرج. وتفعل الفتيات الشيء نفسه في الأسبوع الذي يلي، فتسمي كل فتاة مرشحها للشطب. ثم يجري بناء على هذه التسمية حصر المنافسة بين اسمين ويصوّت الجمهور. هناك ملايين عدة تصوّت - حوالي أربعة ملايين بصورة شبه ثابتة - ويمكن للفرد الواحد أن يصوّت قدر ما يحلو له، أي أن المسلسل قضى، فيما قضى عليه، على المبدأ الديموقراطي القائم على صوت واحد لشخص واحد. يربح الثنائي الذي يتمكن من البقاء حتى النهاية منزلاً قيمته ثلاثة ملايين فرنك، وسيتعين عليه الاستمرار في العيش داخله لمدة ستة أشهر إضافية، مصوراً ومسموعاً على مدار الساعة حتى يتم له الفوز النهائي. ويمنح المشتركون الأحد عشر تعويضاً مالياً صغيراً مدفوعاً أسبوعياً، ما حمل نقابات العمل على الاعتراض لأن الاتفاقيات الموقعة تخالف القوانين الناظمة لشروط الاستخدام. كما اعترضت جمعيات أخرى متنوعة على التصوير والتنصت المستمرين وأجبر ذلك هيئة الرقابة على التلفزيون، وهي هيئة حكومية، على التدخل لدى القناة المعنية لتخصيص ساعتين في اليوم تقطع فيهما الكاميرات للحفاظ على شيء من الحميمية، كما قيل. كما أن الكاميرات المنصوبة في غرف الحمام لا تبث صورها إلا لجهاز المراقبين المكون من علماء نفس كثيرين، يمكنهم التدخل في ما لو بدا أن أحد نزلاء الشقة ينهار بطريقة يمكن أن تقوده إلى الانتحار! وكان حجب التلصص المسموع والمرئي لساعتين واعفاء الحمامات منها، بخلاف ما يحدث في برامج أميركية وأوروبية مشابهة، تعزيزاً لما يسميه الفرنسيون بتلذذ "الاستثناء الثقافي"، العائد اليهم. وهو تعبير استعمل في سياق آخر، بقصد تبرير الممانعة التي أبدتها السلطات الفرنسية في توقيع بعض بنود تحرير التجارة، بشكل يبقي على ما يكفل عدم إلغاء الحواجز أمام غزو العولمة الثقافية، وهو غزو أميركي بامتياز. بينت الاحصاءات التي قامت بها كبريات المؤسسات المختصة، أن ثلاثة أرباع المشاهدين هم من الفئة العمرية 15-24 عاماً، وان جزءاً من الربع الباقي هو من الفئة 10-14 عاماً. كذلك هم زائرو الموقع على الانترنت الذي يبث وقائع الأربع والعشرين ساعة من حياة الشقة، من دون الرقابة الممارسة على القناة التلفزيونية الرئيسية التي تبث مختارات يومية تقع في ما يقارب الساعة. وجدير بالعلم أن هناك قناة تلفزيونية مخصصة تقوم على الاشتراك المالي، تبث هذه الوقائع على مدار الساعة أيضاً. واعترضت جمعيات على هذا الذي يجري وحاولت واحدة منها التظاهر أمام الشقة، داعية إلى اقتحامها وتحرير هؤلاء المعتقلين الاراديين. وقامت أخرى بإلقاء أكياس من القمامة أمام مقر القناة التلفزيونية الرئيسي، للاشارة إلى انحطاط هذه البرامج، دون طائل. لأن البرنامج استمر طبعاً وتفرع، كما أوضحنا، وغزا مشاهدين تتضخم أعدادهم يوماً بعد يوم، بحيث تشير الاحصاءات إلى بلوغ العشرة ملايين مشاهد يومياً على الأقل. في فرنسا جمعية اسمها "ابتسم، انت تصوّر"، وهي تعنى بفضح نظام الرقابة البوليسية الذي تخضع له بعض الضواحي، حيث تُنصب الكاميرات في الشوارع. ورأت هذه الجمعية في المسلسل ما يعزز هذا المفهوم البوليسي، كما هو قائم في الضواحي وفي السجون وفي المصحات العقلية. ومعلوم أن الرقابة هي الجناح الآخر للاخضاع وانه لا يمكن الفصل بين الآليتين. لذلك، ينحدر هذا البرنامج مباشرة من آخر هو أبوه الروحي، وذاك اسمه "الأخ الأكبر" Big Brother، وبثته منذ سنوات التلفزة الهولندية، مستخدمة دون عذاب ضمير، الاسم الشهير لشخصية رواية جورج اورويل "1984"، والتي قصدت تحليل ثنائية الرقابة - الخضوع بوصفها ركيزة أساسية - إن لم تكن الركيزة الأساسية - للأنظمة التوتاليتارية. ولم تتوقع الرواية أن الديموقراطيات أيضاً يمكن أن تعرف أشكالاً محورة من هذا البناء المرعب. وعلى أية حال، فهناك برامج مشابهة في أكثر البلدان الغربية، يقف على رأسها Survivor أو "الناجي" في الولاياتالمتحدة الذي يحصد 50 مليون مشاهد يومياً. ثم أنه مضى وقت - عقد من الزمن على الأقل - منذ طرح انتشار الصورة المنقولة بسرعة واقع حدوث الحدث، مسألة الحقيقة والزيف. طرح الموضع بإلحاح بعمقه السياسي والاجتماعي أثناء حرب الخليج، وخرجت الفصلية الأميركية "ميدل ايست ريبورت" بما أصبح شعارها مذاك "كلما رأيت أكثر، عرفت أقل"، داعية الناس إلى تنمية وعي نقدي تعمل الصورة - البرهان - بما هي ليست مزيفة وإنما ليست حقيقية أيضاً - لأنها مجتزأة ومنتقاة - على طمسه. فقد مضت الصور المتعلقة بحرب الخليج في ارساء ضبابية شديدة حول حدود الخيال والحقيقة، الصدق والكذب، فحولت الصور المبثوثة بشكل مباشر، Life، الحرب إلى ما يaبه ألعاب الفيديو القتالية المنتشرة، وكأنما ليس هناك ضحايا، وكان ذلك يعني أن الضحايا العراقيين غير منظورين ولا يدخلون في الحسبان. أما الضحايا الغربيون فكانوا صفراً أثناء الحرب نفسها. وأما الآثار المتوسطة والبعيدة المدى، فيمكن السيطرة على نشرها أو تشويش هذا النشر لجهة تحديد المسؤولية عن الكارثة، كما يحدث اليوم في ما يخص التشويهات الناجمة عن تعرض جنود التحالف الغربي لإشعاعات. هناك أبعاد أخرى يثيرها المسلسل. منها وجود أربعة مشاركين، فتاتين وشابين، يتحدرون من أصول عربية. كان وجود عزيز وكنزه وحكيمة وستيفي واسمه على الأرجح مصطفى مربكاً للجاليات العربية وللأفراد العرب على السواء. إذ تمت عملية اسقاط ذاتية على هؤلاء، فأصبحوا ممثلين ل"نحن" في مقابل "هم"، في تقويم السلوكيات، سلوكياتهم والسلوكيات الموجهة إليهم، كواقعة اختيار عزيز للتصفية منذ الأسبوع الأول، ولحاق كنزه به بعد برهة، مما أثار من ناحية شعوراً قائماً أصلاً باستهداف واضطهاد العرب، وشعوراً معاكساً بالفخر لأن عرباً اختيروا على رغم كل شيء ليصبحوا نجوماً - أو أبطالاً - وإن عابرين، وشعوراً ثالثاً بالحرج تجاه تجاوز الاصول المتعارف عليها في المجتمعات العربية لجهة الحشمة والحياء. وهناك مأسسة للكذب والرياء حيث تتطلب شروط المسابقة أن يتنافس المشتركون بلا رحمة، لأن البقاء للأقوى، مما جعل كاتب الافتتاحية الأساسية لجريدة "لوموند ديبلوماتيك" لهذا الشهر، يقارن بين وقائع هذا المسلسل ورواية "انهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" التي تحولت فيلماً شهيراً يجسد البعد القاتل والعبثي لأزمة 1929، معتبراً أن Loft Story هو تعبير عن الثقافة المنتجة في ظل الأزمة، بمعناها العميق والشامل. وهناك أيضاً انفلات الرقابة على هذا النوع من الاستخدام الدائم للتلصص الرقابي بحيث تتهيأ شركات تجارية عدة لدرس سلوكيات عائلات عدة من المستهلكين، ستخضع للتصوير والتنصت لفترات طويلة، حتى يجري تحديد اتجاهات الاستهلاك. بل ان مرشحاً ألمانياً للانتخابات المقبلة، أعلن، كما تقول الصحف منذ أيام، انه سيخضع نفسه طوعياً للرقابة المرئية والمسموعة حتى يثبت لناخبيه أنه ليس كسولاً وسكيراً كما تقول عنه دعاية منافسه! أما أنا، فقد شد انتباهي حادث لا علاقة مباشرة له بالمسلسل. فقد خرجت الصحف الفرنسية منذ أسبوعين تنقل، ليس على صدر صفحاتها الأولى وإنما في الصفحات المخصصة للحوادث الاجتماعية، واقعة لا تصدق: قام أربعة شبان تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة، باغتصاب طالبة جامعية في العشرين من عمرها، على مرأى ومسمع جمهور مؤلف من حوالي 200 مسافر كانوا يستقلون قطاراً سريعاً يربط بين مدينتين فرنسيتين في الشمال. حدث ذلك في الخامسة بعد الظهر وهو وقت اكتظاظ. ولم يتدخل أي من المسافرين والمسافرات لردع المعتدين أو لحماية الفتاة وانقاذها. كما، وهذا أضعف الممكن والمتوقع، لم يقم أي منهم بالضغط على أزرار الانذار المتوافرة في القطارات. لقد كانوا مشاهدين محايدين ومعطلين لجريمة يطالها القانون الجزائي، كما يطالهم هم لأنهم لم يمارسوا الواجب القانوني في نجدة من يتعرض لخطر. ومن الطبيعي أنهم بعدها لم يبلغوا عن الحادث. واحتموا بالصمت والاختفاء. لقد حدث ما يتجاوز كل خيال. وهو يكشف، في ما يكشفه، ان ازالة الحدود بين العام والخاص، والمسموح والممنوع، والواقع والخيال، والصدق والكذب، والمقدس والعادي - وهي ثنائيات قام الاجتماع البشري وأصبح اجتماعاً على أساس تنظيمها، وذلك منذ لحظته الأولى وقبل ظهور الأديان السماوية بكثير - لا تقود إلى الحرية، بل إلى البربرية. وليس في ذلك أدنى انتصار للطهرانية بما هي رياء منظم، بل للإنسان بوصفه كائنا ثقافيا قبل أن يكون مستهلِكاً ومستهلَكاً من دون حدود.