"ليس لدينا سجناء وحسب، بل هم فنانون وممثلون ورسامون وموسيقيون". بهذه الكلمات وصفت كاترينا بينيفيلد كيرستن مديرة سجن ساليننمو في المانيا حال السجناء في بلادها حين اطلاقهم بفعل رعاية الدولة لهم وتأهيلهم. أما الأسرى المحررون في لبنان الذين امضوا سنوات طويلة من التعذيب والاعتقال في سجن الخيام الشهير والمعتقلات الإسرائيلية، فبدلاً من ان تحتضنهم دولتهم وتكرمهم، تجاهلت وجودهم وتركتهم لمصيرهم مهمشين في غياهب النسيان. يعاني كثر من الأسرى المحررين صعوبة الاندماج في مجتمعهم. وتقطعت بهم السبل حتى بات بعضهم يعيش متسولاً في وطنه، بعدما كان يشعر انه بطل في سجنه الصغير الذي خرج منه ليجد نفسه في سجن كبير، من دون ان تشفع له معاناة سنوات من الأسر امضاها دفاعاً عن وطنه وتضحية في سبيله. هؤلاء، في معظمهم، يعانون امراضاً مزمنة واعاقات جسدية ناتجة من التعذيب، ويفتقرون الى المبادئ الأساسية للعلاج واعادة التأهيل النفسي والاجتماعي لانقاذهم من اثر رواسب الاعتقال، وما زاد من معاناتهم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة التي باتت تؤرق يومياً معيشتهم. كيف يعيش الأسرى المحررون بعد عام على التحرير؟ يقول الأسير المحرر منيف حمود 35 عاماً: "انني اعيش أزمة نفسية كبيرة لا أدري كيف أعيش. فالوضع المعيشي صعب جداً". ويضيف: "اعتقلت ثلاث مرات بين العامين 1985 و1999 وفي المرة الأخيرة تعرضت لتعذيب شديد، نتيجة وشاية بتهمة مساعدة المقاومة اذ كنت وقعت عنوة في المرة الثانية تعهداً ألا اعود الى "الارهاب"، بحسب زعمهم، صبوا جام غضبهم عليّ تعذيباً بكل الوسائل، الأمر الذي تسبب لي بألم شديد في عمودي الفقري وكسور في قفصي الصدري". ويتابع حمود وهو متزوج وله ابنتان: "بالكاد أستطيع ان أؤمن لعائلتي قوت يومها. لا أتقن مصلحة سوى العمل بالباطون، ولكن بمقدار ما تسمح صحتي، وتوافر العمل. فالسجن سبب لي أمراضاً كثيرة واحتاج الى أدوية عدة، بعضها يوفرها لنا مجلس الجنوب وأدفع نصف ثمنها أجرة للسيارة". ويضيف وعيناه تدمعان: "اسكن وعائلتي في غرفة في منزل والدي بالقرب من "بوابة فاطمة" في كفركلا. بدلاً من ان اعيل اهلي، على كبر سنهم، اصبحت عالة عليهم، فلترحمنا الدولة وتساعدنا. قدمنا الكثير في سبيل الوطن وكدنا نصبح في عداد الأموات، فهل تصدق الدول هذه المرة وتوفر لنا وظيفة نعتاش منها أو تعويضاً كما وعدت خلال عيد التحرير؟". ويشعر ديغول بطرس بعد عام على التحرير بالمرارة "لأن قياداتنا تحضّر للاحتفال بالانتصار، في حين تتجاهل من اسهم في صنعه من أسرى ومعتقلين وجرحى وشهداء". ويعاني بطرس الذي اعتقل في اطار العمل مع المقاومة وحُرر مع بقية الأسرى في 24 أيار مايو 2000، أزمة معيشية خانقة "كنت أملك معملاًَ للقطنيات في بلدة رميش الحدودية وتوقف بعد اعتقال قوات الاحتلال لي، وقد أمعنت فيه تخريباً ونهباً بحجة التفتيش، ولدى خروجي من المعتقل وجدته اثراً بعد عين". وعبثاً يحاول بطرس اعادة تشغيل المعمل لعدم توافر الامكانات المادية له. ويقول: "تقدمت بطلب تعويض للأضرار، ولكن لا جواب حتى الآن". ويسأل: كيف نحتفل بالتحرير والأسرى مرميون على اهلهم وأصدقائهم، ولا من يسأل؟!". وتواجه الأسيرة زينب دروبي التي تابعت تحصيلها العلمي غداة تحريرها صعوبة في الحصول على وظيفة على رغم نيلها اجازة في الفلسفة العامة. وتستذكر زينب التي اعتقلت عام 1989، ثلاث سنوات خلال قيامها بإحدى المهمات لمصلحة المقاومة، مراحل التعذيب التي تعرضت لها، خصوصاً ان الصليب الأحمر الدولي لم يسمح له بدخول المعتقل الا في العام 1995. وتضيف: "لست نادمة على التضحيات التي قدمتها، لا بل حاضرة لخوض هذه التجربة في اي وقت"، وتسجل عتباً كبيراً على الدولة التي "تركتنا للقدر على رغم تضحياتنا. ولا نسمع منها الا الكلام والثناء". وتضيف زينب التي تزوجت بعد خروجها من السجن وانجبت ابنتين: "اننا نعاني وضعاً اقتصادياً صعباً، فزوجي يعمل بالفاعل في حراثة الأرض، وأجره الشهري، في أحسن الأحوال، لا يتجاوز المئتي دولار. ثمة مجالات كثيرة يمكنني العمل فيها. لا اطلب سوى وظيفة ثابتة تقينا العوز ونعيش منها بكرامة وتمكنني من ادخال ابنتي المدرسة". وتعبّر الصحافية المحررة كوزيت الياس ابراهيم عن صدمتها "لتعاطي الدولة بازدراء مع الأسرى الذين يعيشون حالاً مأسوية حقيقية". وتقول في اتصال اجرته معها "الحياة" في باريس حيث تتابع دراستها الجامعية: "انتابني شعور حزين حين قرأت ان الأسرى امضوا ليالي في العراء تحت المطر قرب مقر رئاسة الحكومة وهم مضربون عن الطعام لأن الدولة ترفض تأمين عمل لهم". وتقول كوزيت التي اعتقلت عام 1999 بتهمة امتلاك معلومات عن المقاومة واختارت السجن بدلاً من التعامل مع الاحتلال: "لا اصدق ان دولة تبنت خيار المقاومة تعامل ابناءها الذين ناضلوا في سبيل تحرير وطنهم بهذه الخفة واللامبالاة". وسألت: "أليس من المخجل ان يكون وضع العميل أفضل من المقاوم الذي اعتقل وعذّب؟ اسرائيل تقدم عشرات ألوف الدولارات لعملائها وتؤمن لهم السفر الى الخارج للعيش بكرامة، فيما المقاومون عندنا مهملون ومنسيون". ويلخص استياء سليمان رمضان 36 عاماً الذي تقطعت به السبل شعور عشرات الأسرى الذين يعيشون وضعاً اقتصادياً مزرياً. ويقول رمضان الذي بتر الإسرائيليون ساقه اليمنى بعد اعتقاله اثر اصابته في عملية لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في جبل حرمون الشيخ: "اشعر كأنني انتقلت من سجن صغير عشت فيه 15 عاماً ومارس عليّ الاحتلال فيه أبشع أنواع التعذيب، الى سجن كبير أواجه فيه عذاباً نفسياً لا حدود له". ويضيف بنبرة لا تخلو من التعصب: "لم أعد اثق بأي من المسؤولين لكثرة الوعود الكاذبة. ألا تخجل الدولة؟ كيف تحتفل بعيد المقاومة والتحرير وكثر من المقاومين يعتاشون على الصدقة؟ لا نلتقي أحداً الا يغدق علينا الوعود ويكيل لنا المدائح ثم يدير ظهره ويذهب كلامه ادراج الرياح". ويتابع كلامه بشيء من المرارة: "لا تسألني كيف أعيش لأنني لا اشعر انني انسان. فالحاجات الأولية لم احصل عليها، لا منزل لي ولا اسرة ولا معاش يسندني في ما تبقى لي من عمر. رجلي قطعت، واضلعي مكسورة ويدي سحلت واعاني التواء في العمود الفقري وألماً فيه نتيجة التعذيب، وصحتي تمنعني من ممارسة اي عمل كالآخرين لأعيش كأي انسان بكرامة. الألم متواصل ونعاني كثيراً للحصول على دواء مسكّن من مجلس الجنوب". وينهي بصوت خافت: "أشعر كأنني اموت ببطء"، أهكذا يرمى من ضحّى وأمضى نصف عمره خلف القضبان دفاعاً عن الوطن؟". لم يعدم المحررون وسيلة الا جربوها للحصول على وظيفة أو عمل يمنع عنهم شبح العوز حتى دفع غياب الرعاية والاهتمام ببعضهم الى التسكع على أبواب السفارات الأجنبية طلباً للهجرة واللجوء السياسي، علّهم يشعرون بالكرامة خارج وطنهم الذي قدموا اليه الكثير فبخلت عليهم دولتهم. لكن الشروط كانت قاسية فرفضت طلباتهم، فلا هم يتقنون لغاتها، ولا شهادات عليا لديهم ولا خبرة. وتشير الاحصاءات الرسمية الى نحو 5200 أسير توزعوا بين معتقلات انصار والخيام وفلسطين منذ العام 1982. أما الذين يحتاجون الى رعاية عاجلة وملحة فلم يتجاوز عددهم ال500، على ما قال ل"الحياة" الأمين العام للجنة المتابعة للمعتقلين محمد صفا. وأشار الى ان "قضية الأسرى تتجاذبها صراعات سياسية وكل واحد يريد ان يمسك بها ويجيرها لمصالحه". وتحدث صفا عن مشروع رعاية اجتماعية صحية نفسية ومالية وتقنية للأسرى طرح في مؤتمر المنظمات غير الحكومية الذي نظمته السفارة الايطالية والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة، يفيد في مرحلته الأولى 1500 محرر بحسب سنوات الأسر، وكلفته الأولى مليون دولار تسعى الآن الجهات المعنية الى تأمينها. فهل تفي الدولة التي استنفرت خطباءها وقادتها استعداداً للاحتفال بعيد المقاومة والتحرير بوعودها فتعلن في هذه المناسبة توظيف بضع مئات من الأسرى الذين اسهموا في صنع هذا التحرير، هدية لهم في هذا العيد تتناسب وتضحياتهم وتقيهم وعيالهم العوز وتحفظ لهم كرامتهم؟