نفذ الأسرى المحررون اللبنانيون من السجون الاسرائيلية قبل أيام اعتصاماً مفتوحاً واضراباً عن الطعام أمام السرايا الحكومية "وسيلة أخيرة ووحيدة تمكننا من الحصول على حقوقنا في هذا البلد الذي أوصلنا الى اتخاذ مثل هذه الخطوة كما كان يحدث في المعتقلات الاسرائيلية للحصول على الحد الأدنى من مطالبنا المحقة". وانهى المحررون اعتصامهم بعد يومين حين استقبلهم رئيس الحكومة رفيق الحريري ووعدهم بتأمين وظائف لهم خلال ثلاثة أسابيع. لم يرد الأسرى المحررون من اعتصامهم الا "ايقاظ الحكومة من سباتها العميق". وايقاظها من السبات يعني في ما يقوله المعتصمون، تذكير المسؤولين الذين "طوى النسيان ما كتبوه في محضر المجلس النيابي حين كانوا معتصمين أمامه لحظة منحه الثقة للحكومة قبل أشهر"، مؤكدين ان "المسؤولين لا يقولون الحقائق والبيانات أسهل أمر يمكن للحكومة ان تقوم به". وأخطر تشبيه استخدموه في توصيف حالهم في بيان وزعوه انهم كانوا في المعتقل يطلبون من السجانين الحصول على أبسط حقوقهم الانسانية، وكان السجانون لا يلبون المطالب الا عندما تهدد سمعة سجونهم اذا ما عرف العالم ان الأسرى يجوعون. واليوم يؤكدون أنهم "جياع في بلدنا الذي منحناه أعمارنا ودمنا واستشهد كثر منا في المعتقلات في سبيله، وحكوماتنا قصيرة الذاكرة ولعل اضرابنا ينعش ذاكرتها اذا ما خافت على سمعة القصر الحكومي الذي ربما يموت أحدنا أمامه جوعاً". ولخص المعتصمون مطالبهم بالآتي: تأمين وظائف للأسرى والمعتقلين العاطلين من العمل، واعتبار كل واحد جندياً في الجيش ومنحه وسام الحرية، وتأمين القروض السكنية من دون فوائد. وعدم توافر هذه الأمور جعلت الأسير المحرر غسان سعيد 36 عاماً غاضباً جداً من الوضع وغير راغب في الكلام كثيراً. ويقول على عجل لسائله بعد تمنع عن الكلام، أسرت في عملية لجبهة المقاومة الوطنية في حاصبيا. وغسان الذي يتقن مصلحة الميكانيك لا يزال من دون عمل ويقيم عند أهله الذين خطبوا له قبل أشهر متكفلين بدفع كل نفقات الخطبة لا لشيء "بل ليفرحوا بي". ويقول: "اذا لم يتجاوبوا مع مطالبنا سأطلق نداء الى كل سفارات العالم أطلب فيه لجوءاً سياسياً لمقاوم قاتل من أجل بلده الذي لا يحترمه ولا يرضى به". ولم يعد الأسيران المحرران محمد رمضان وزوجته كفاح عفيفي، يحتملان العيش مع ولديهما عند أهليهما على رغم انهما لا يستطيعان فعل شيء في وضعيهما اذ لا يمكنهما استئجار منزل خاص بهما وكذلك لا يمكنهما الاستمرار في العيش بين منزلي أهليهما. حملت كفاح طفلها أيمن، وحمل محمد بعضاً من الطعام له وجاءا ليعتصما مع زملائهما في الأسر أمام السرايا الحكومية. ومحمد وكفاح كانا دخلا معتقل الخيام على اثر تنفيذهما عمليتين عسكريتين مختلفتين في بلدة كفركلا الحدودية اثناء الاحتلال، وعرفا بعضهما بعضاً خلال الاعتقال بالاسماء أولاً ثم بعد تحررهما خلال تحركات كان يقوم بها المحررون. وكان محمد شارك في عملية في العام 1989 ضد دورية اسرائيلية قتل، بحسب اعتراف اسرائيل، من عناصرها ثلاثة، واعتقل بداية ثلاثة أيام في اسرائيل ثم نقل الى الخيام وأمضى سبع سنوات ليفرج عنه وعمره 28 عاماً. أما كفاح فشاركت ايضاً في تنفيذ عملية عسكرية في كفركلا واعتقلت نحو سبع سنوات في الخيام وكانت الوحيدة المعتقلة في عمل عسكري مع سهى بشارة التي اطلقت النار على قائد "جيش لبنان الجنوبي" آنذاك اللواء انطوان لحد. ويختصر الزوجان حديثهما عن العذاب في المعتقل بأنه كان كثيراً وكبيراً، لكنهما تجاوزاه وتزوجا بمساعدات قدمها لهما "مجلس الجنوب" غداة تحرر كل منهما، وانجبا ولدين سمياهما أيمن وسهى التي سميت تيمناً بسهى بشارة، معتبرين انها أي بشارة أصبحت رمزاً ولا يوجد أفضل من هذا الاسم. ويتمنيان أن تصبح ابنتهما مثلها عندما تكبر. وعمل محمد بعدما تزوج، سائق أجرة ثم عتالاً في المطار لكن أوجاع الظهر التي حملها مذ كان في المعتقل من أثر التعذيب، حالت دون استمراره في هذه الأعمال. أما كفاح فتقول انها مستعدة لتعمل خادمة "لكن هذا العمل لا أجده". ويقول محمد: "أقفلت كل السبل أمامنا ولم نجد الا هذا المكان أمام السرايا. نحن لا نطلب صدقة من أحد بل التفاتة صغيرة". ويسوق مثال المعلمين الذين يضربون منذ سنوات مطالبين بتصحيح أوضاعهم. ويضيف: "المعلمون موظفون وعندهم منازل وحياتهم طبيعية ولا يزالون يضربون ويقولون ان شيئاً ينقصهم في هذا البلد". ويسأل "ماذا نفعل نحن وأقل مدة أمضاها بعضنا في السجن سبع سنوات؟". وعلى رغم ما يعانيه محمد وكفاح، فانهما غير نادمين على ما فعلاه من "أجل الوطن" وهما مستعدان للقتال ثانية طالما اسرائيل موجودة. ويقول محمد: "لم نقاتل من أجل ان نحصل على شيء لكننا لا نطلب أكثر من الاستمرار في الحياة ولا نريد ان نصبح ملوكاً". أما زوجته فقالت: "نحن مستعدون للهجرة علّنا نلقى الأمان والحرية اللذين لا نجدهما في وطننا، في الخارج". وأضافت وطفلها على يدها: "لسنا هواة اعتصامات واضرابات، نحن نحترف المقاومة وحمل السلاح للدفاع عن الأرض، أيواجه من واجه الاحتلال بالبندقية بالنسيان؟". وعن تشبيه الاضراب بالاضرابات التي كانوا ينفذونها في السجن قال: "كيف نشببه؟ نحن لا نشبه دولتنا باسرائيل ولكن ماذا نقول في وضعنا غير هذا، الاسلوب نفسه اي الطريقة نفسها". وبلال نبعة من شبعا 30 عاماً الذي دخل معتقل الخيام عام 1998 وبقي فيه عامين ونصفاً وخرج يوم التحرير بعد ما عانى المآسي، له خمسة أولاد أصغرهم توأمان رزق بهما بعد خروجه من السجن ولهما من العمر أربعة أشهر. وكان نبعة يعمل قبل الاعتقال معلماً متعاقداً في المدرسة الرسمية في البلدة أربع سنوات. وتعامل اثناء الاحتلال مع مخابرات الجيش اللبناني "من أجل وطني وتحريره"،عامين ثم اعتقل وتعذب كثيراً في المعتقل بالكهرباء ليخرج مريضاً والاوجاع في ظهره وكليتيه ومفاصله، ما حال دون تمكنه من العمل منذ تحرر الى اليوم. ويشير نبعة الذي أحضر معه كيساً فيه دواؤه الى الاعتصام، الى ان الناس في شبعا كانوا يعيشون خلال الاحتلال من مصدرين: التجنيد في "جيش لبنان الجنوبي" وتهريب الدخان الى سورية. يقول: "هذان المصدران الوحيدان اما التهريب وإما العمالة، فانا لم أعمل في هذا ولا في ذاك بل مع الدولة اللبنانية وبقيت في منزلي الذي بنيته بعرق جبيني محافظاً عليه وعلى كرامتي". ويضيف: "وبعد هذا النضال لم أحصل على شيء لا من الدولة ولا من المعنيين". يعرف نبعة ان هذا قدره ويقول: "الله كتب لي ذلك ولكن من آثار المعتقل والحال التي كنا نعيشها لم أعد قادراً على فعل شيء". يعيش في صيدا عالة على أخيه الجندي في الجيش مع أمه وأخته، اللتين ابعدتا حين اعتقل و"رميا في الشارع هنا ولم ينظر اليهما احد". ويأسف ان تفعل دولته "هكذا بأمه وأخته ثم به وبعائلته". لكن نبعة لم ينسَ العذاب في المعتقل ومعذبيه، ويحمل في جيبه ورقة دوّن فيها اسماء أكثر من خمسين لحدياً أو متعاملاً معهم، مؤكداً "أنهم الآن خارج السجن ولهم الأفضلية يعاملون جيداً في الجنوب".وهم اصحاب الأسماء التي حفظها مذ كان في السجن وطبعها على الكومبيوتر، كانوا يحققون معه وبينهم من ابناء بلدته، ومن عائلته. ويقول: "اذا التقيت بأحدهم لا أعرف ماذا أفعل به". وهذا ما يثير الأسير المحرر سليمان رمضان الذي كان عميداً لأسرى الخيام اذ أمضى 15 عاماً، وتحدث في غضب أمام وزير الاعلام غازي العريضي. وسأل "هل يعقل ان يعامل العملاء بأفضل منا عشرات المرات؟". وساق مثالاً عن تعويضات يتقاضاها "اللحديون"، وقال: "يقدم للعميل من الصهيونية العالمية تعويضاً تتفاوت قيمته بين 50 ألف دولار ومئة ألف، والدولة تعرف ذلك. وهناك مؤسسات فرنسية توزع بطاقات على العملاء بقيمة 75 دولاراً في الاسبوع لشراء البضائع. ماذا ترد علينا الدولة؟ قيل لنا ان نرفع دعاوى شخصية علىهم. هناك من رفع دعوى على أحد الاشخاص فسجن شهرين أو ثلاثة. هل يكفي ذلك لمن كسر أضلعي وطحن يدي؟ انا لا يرضيني الا تصفية هؤلاء العملاء". واذا كانت هذه حال المحررين حديثاً فان حال من تحرر قبل اعوام لا تختلف كثيراً حتى وان كان اعتقاله بطولة وخروجه من السجن بطولة ومن صنعه ولا فضل لاحد بتحرره سوى لشجاعته. فداوود فرج 30 عاماً من عيناتا، الذي اعتقل في العام 1992 بعد انكشاف انتمائه الى المقاومة وحيازته سلاحاً ومشاركته في عمليات عسكرية، تمكن من الهرب مع ثلاثة رفاق له بعد عامين في عملية "خرقت اسطورة الأمن الاسرائيلي". وداوود الذي بدا خلال الاعتصام في صحة جيدة وثيابه أكثر اناقة من ثياب نظرائه المعتصمين ولسانه أكثر فصاحة يتحدث عن قصة هروبه - المفصلة في رواية "على بوابة الوطن دهاليز الخيام"، مفاخراً- بتمكنه مع رفاقه من كسر حديد باب الزنزانة وخرق أسوار السجن وحراسه وحقل ألغام حيث فقدوا واحداً منهم بانفجار لغم وراحوا يركضون حتى أشرقت الشمس عليهم ووصلوا الى بيروت بعد ثلاثة أيام. ومنذ خروجه من السجن سعى فرج الى العيش وتحسين أوضاعه، فدرس أولاً برمجة الكومبيوتر، وبسبب ظروف البلد الصعبة سافر الى زائير حيث يقيم أخوته، لكنه لم يحصل على الاقامة "لأن جوازات السفر اللبنانية تذهب الى السفارة الاسرائيلية هناك، ولأن أسمي كان مدوناً على لائحة المطلوبين من اسرائىل فلم أعطَ اقامة" بحسب ما أوضح. عاد بعدها الى لبنان مقرراً ألا يغادره واقام مع والديه في مدينة صور وتسجل في الجامعة اللبنانية في علم النفس في صيدا، وحصل على إجازة والآن يتابع الدراسات العليا في بيروت. لكنه لا يزال مقيماً في صور اذ عاد والداه الى البلدة بعد التحرير مؤكداً ان "المنطقة المحررة تشهد تهجيراً جديداً لكنه اختياري هذه المرة". ويتحدث عن محاولاته ايجاد وظيفة في الدولة من خلال التقدم الى مباريات في مجلس الخدمة المدنية لكنه لم يوفق. ورداً على سؤال عن طريقة عيشه قال: "أطرح على نفسي هذا السؤال مراراً لكنني لا أجد جواباً عنه".