هل تصبح سونيا غاندي توني بلير الهند؟ لا يزال الجواب "لا" حاسمة، لما كان قبل بضعة أشهر عندما أرسلت الى بريطانيا عدداً من زعماء حزب "المؤتمر" الذي تأسس قبل مئة وستة عشر عاماً، لدراسة أسباب الفوز الباهر لحزب العمال على حزب المحافظين في الانتخابات الأخيرة. إلا ان السؤال المذكور لن يثير اليوم مقدار السخرية الذي أثاره حينها. اذ لم يعد في الامكان تجاهل احتمال عودة "المؤتمر" بشخص سونيا الى الحكم. وأصبح فظاً اختصار دورها بتهيئة الساحة لأحد أبنائها، خصوصاً ابنتها بريانكا غاندي التي تحظى بشهرة واسعة في الهند، والتي من المتوقع ان تواصل السير على درب اسلافها الذين تولى ثلاثة منهم الحكم في البلاد طوال أربعة عقود. ومع ذلك يبقى ترشح سونيا الى منصب رئاسة الحكومة غير مقبول على الأقل من أحد أقطاب المعارضة، الذي يعتبر تعاونه معها أمراً ضرورياً لتشكيل ائتلاف يحل محل الائتلاف الحالي الحاكم بزعامة الحزب الهندوسي المتطرف "بهارتيا جاناتا". واعترف رئيس الوزراء اتال بيهاري فاجبايي بموقع سونيا الوسط في السياسة الهندية، خلال كلمة القاها في دلهي قبل أسبوعين. وشن هجوماً عليها وعلى حزب "المؤتمر" لمطالبتهما باستقالة حكومته بعد تورط عدد من رموزها في قضايا فساد، أبرزها ابرام عقود عسكرية مع شركة الانترنت "تيهمالكا كوم"، على رغم ان احزاب المعارضة شاركت بأكملها من شيوعي الى اشتراكي مروراً بالأحزاب الدينية والمناطقية، في الحملة الداعية الى استقالته خلال الأسابيع الأخيرة. وتميزت حملة فاجبايي على سونيا التي تتزعم المعارضة في مجلس البرلمان الأدنى، ما يمنحها رتبة وزير في الحكومة، بحدة ملحوظة. واعتبر كلامه بمثابة اعلان حرب على "المؤتمر" الذي يلجأ الى سياسات وضيعة ووسائل غير ديموقراطية. وقال انه مستعد لمواجهة معركة بقاء حكومته التي شنتها سونيا. وحذر من "انهم نفخوا في أبواق الحرب، ولا تراجع بعد الآن". وجاء هجوم فاجبايي رداً على ما قالته سونيا غاندي خلال افتتاح الدورة الواحدة والثمانين للجان "المؤتمر" في بنغالور، مطلع نيسان ابريل الماضي. واستندت المعارضة الهندية في شن حملتها، الى فضائح النساء التي هزت الحكومة وأثارت احتمالات اللجوء الى صناديق الاقتراع باكراً. وأعلنت سونيا ان الرسالة التي توجهها من بنغالور هي "اننا سنخوض كل معركة وسنشن كل حرب وسنقدم كل تضحية لنحرر هذا البلد من حراب هذه الحكومة الفاسدة والمخجلة". وطالبت باستقالة الحكومة على أسس أخلاقية. وقالت ان "المؤتمر" سيكشف عن خططه لفضح الفاسدين والمرتشين في حزب بهارتيا جاناتا وحلفائه". وأفادت سونيا من التوقيت الذي اختارته الحكومة لمحاكمة مساعدها الخاص فينسنت جورج بتهم فساد، اذ عزز ذلك موقعها الوسط في الهند. وبغض النظر عن مدى صدقية التهم وجديتها، تحولت بسبب توقيت الحكومة موضوعاً مثيراً للشبهات، ما شكل دفعاً كبيراً ل"المؤتمر". ومما لا شك فيه ان في البروز الجديد لسونيا غاندي، على الصعيد السياسي أمراً خارقاً للطبيعة. فهي ارتكبت خلال تعاطيها الشأن العام كل خطيئة يمكن سياسياً ان يرتكبها، وعلى رغم ذلك، وعلى رغمها، كما يبدو، زالت كل العقبات من طريقها، سواء كانت من داخل "المؤتمر" أم من خارجه. وكان على سونيا، بداية، ان تتعامل مع متمردي حزبها الذين شككوا في قدرتها على ايصالهم الى السلطة. لكن غالبيتهم تعرضوا لضربات شبه قاضية، من دون ان تحرك زعيمة "المؤتمر" ساكناً. وأبرزهم وزير النقابات السابق راجيش بيلوت الذي قتل في حادث سير على طريق المطار بينما كان يقود سيارته في سرعة جنونية. اما جيتاندرا براساد، العضو البارز في "المؤتمر" والذي ينافس غاندي في ولاية اوتار براديش، وكان حاول انتزاع الرئاسة منها في الانتخابات الأخيرة، فأصيب بتورم في الدماغ ثم فقد وعيه... وتوفي. ... ومات زعيم "المؤتمر" السابق سيتارام كيسرمي الذي أزاحته سونيا في انقلاب درامي. وانفصل عن الحزب القديم وزير الدفاع السابق شاراد باوار ورئيس البرلمان بي. اي سانغما، وكلاهما مرشح بارز الى رئاسة الحكومة. وخارج الحزب احتفظت سونيا بمقدار الحظ نفسه. ومع بروز فضيحة صفقات الأسلحة التي تورط فيها مسؤولون حكوميون رفيعون، قال أحد معلقي التلفزيون ان ما على غاندي "سوى الجلوس واحتساء فنجان قهوة ومشاهدة الائتلاف الحاكم يتهاوى". لكنها فعلت أكثر من ذلك بقليل. إذ تركت البلاد تغلي سياسياً وذهبت الى هونغ كونغ لتفقد احوال الجالية الهندية. وجاء في افتتاحية لصحيفة "تايمز اوف انديا" الأكثر توزيعاً في الهند: "ان في طليعة ميزات سونيا قدرتها على التواصل مع الناس. وليس في المعارضة سياسي يقدر على حشد اعداد من المؤيدين بمقدار ما تستطيع هي، بمن فيهم رئيس الوزراء الذي اضطر الى الاستعانة بزعماء محليين ارسلوا مناصريهم الى دلهي لرفع عدد المشاركين في تجمع اقامة". واضافت الصحيفة ان لسونيا القدرة على التحرك عبر الولاءات المتناقضة لأجنحة "المؤتمر" المعروف بتعدد الاتجاهات. وهذه ميزة لا يملكها سوى افراد عائلة غاندي وفي مقدمهم رئيس الوزراء الراحل نهرو غاندي، اذ من المستحيل ان يلقى سياسي قبولاً بين كل أجنحة المؤتمر ما لم يكن سليل هذه العائلة. صحيح ان "المؤتمر" شهد عدداً من الساسة الطموحين الذين حاولوا التمتع باستقلالية وشعبية واسعة، الا انه ظل موصوماً بأنه ينقل الحكم بالوراثة في اطر ديموقراطية. ومن ميزات سونيا أيضاً موهبة انتقاء الأعوان والمسؤولين، الأمر المهم جداً في السياسة. ولحسن حظها كان اداء المسؤولين الذين اختارتهم لتولي حكومات الأقاليم ممتازاً، في وقت بدت الهند في حاجة الى حكام جيدين. وهذا الأمر لن يؤدي الا الى مزيد من الاعجاب بها بين الناخبين، في مقابل اداء سيئ لمسؤولي حزب "بهارتيا جاناتا"، اعترف به حتى رئيس الوزراء فاجبايي. وقال رئيس تحرير "هندوستان تايمز" فير سانغوي ان "المؤتمر" يقدم اداء ممتازاً بالمقارنة مع بهارتيا جاناتا، وان "زعماءه على رغم انقسامهم حيال عدد من القضايا، متفقون من دون شك على زعامة سونيا غاندي". ولتقويم اداء "المؤتمر"، يجب النظر الى الولاياتالهندية، كل على حدة. ففي كارناتاكا أصبح رئيس الوزراء المحلي أس أم كريشنا أكثر الحكام شعبية جنوبالهند، وفي المقابل تدنت شعبية نظيره "بهارتيا" شاندرابابو نايدو في ولاية اندرا المجاورة. وينطبق الأمر نفسه على بقية الولايات التي يتولى انصار "المؤتمر" حكمها كمهارشاترا وراجاستان ودلهي. ولحسن طالع سونيا، فقد "بهارتيا جاناتا" شعبيته في الولايات التي كانت خاضعة له تقليدياً. ويصف شانغوي الائتلاف الحاكم في الولايات الشمالية بأنه غير قادر وغير مستقر. ففي غوجرات مثلاً لم يعرف الائتلاف الهندوسي كيف يتعاطى مع الأقليات المختلفة، الأمر الذي أدى الى خسارته الانتخابات المحلية في آذار مارس الماضي. وكتبت صحيفة "تايمز أوف انديا" ان الهنود بدأوا يعون حقيقة ان "المؤتمر" هو الحزب السياسي الأكبر في البلاد، وانه يتقدم أقرب منافسيه "بهارتيا جاناتا" بخمسة في المئة من مقاعد البرلمان على الأقل، وان أشهر شخصيات الهند جاءت من صفوفه، منها خمسة رؤساء وزراء، ثلثهم من عائلة غاندي. ويغيب عن كثر ان "المؤتمر" هو الحزب الأول في البلاد، لا الحزب الهندوسي القومي "بهارتيا جاناتا". وينطبق الجهل هذا على بعض أعضاء "المؤتمر" أيضاً، لأن الحزب، على ما تقول الصحيفة، مارس منذ خروجه من السلطة قبل خمس سنوات سياسة تدمير ذاتي. لكن الأمور بدأت تتغير. ويبدو ان "بهارتيا جاناتا" آت لانقاذ سونيا على الأقل في ما يتعلق بتوجه الناخبين المسلمين الذين استغرق تخلصهم من أوهام "المؤتمر" طويلاً، لكنهم ازدادوا قلقاً أخيراً من سياسات "بهارتيا" التمييزية، مثل بقية الأقليات التي تشكل ما بين 25 و30 في المئة من عدد الأصوات. وفي ظل التشرذم هذا، يبدو ان خيارات المسلمين الهنود تضاءلت ولم يعد أمامهم سوى التحالف مع "المؤتمر" من جديد على رغم تجاربهم السابقة والمريرة معه. وما ينطبق على المسلمين، ينطبق أيضاً على الأحزاب الاقليمية والمحلية التي أصبحت الآن أكثر قابلية للتحالف مع "المؤتمر". والمثال الأبرز على ذلك زعيمة حزب "ترينامول كونغرس" وزيرة النقل السابقة في حكومة فاجبايي مامتا بانرجي. ويقع اقليم "ترينامول" في البنغال الغربية حيث الغالبية من المسلمين، وكانت بانرجي انشقت عن "المؤتمر" خلال زعامة سيتارام كيسرمي بسبب اقصائه سونيا، وتحالفت مع "بهارتيا" في مواجهة الاحزاب الشيوعية في المنطقة. لكن تحالفها قلص من فرص فوزها على التحالف اليساري في الانتخابات، لذا لم تنتظر تفجر فضيحة الأسلحة حتى فرطت تحالفها مع الحزب الهندوسي وانضوت تحت لواء "المؤتمر" من جديد بزعامة محبوبتها سونيا غاندي. ومن المؤشرات الى تطور سونيا وجدية نياتها، استعدادها للتحالف مع احزاب اقليمية وقبولها بدور الشريك الثانوي في بعض المناطق ما دامت مصلحة المؤتمر العليا تقضي بذلك. وهي وافقت على التحالف اخيراً مع بعض احزاب اقليم نادو تاميل، الأمر الذي كان صعباً عليها، اذ ان بعض هذه الأحزاب يؤيد علناً قضية "نمور تحرير التاميل" في سري لانكا المشتبه في تورطهم في اغتيال زوجها رئيس الوزراء السابق راجيف غاندي. صحيح انها رفضت الظهور علناً مع زعماء هذه المجموعات، لكن مجرد التفكير في التحالف معهم يكشف أهمية المسافة التي قطعتها في السياسة الهندية الواقعية، ومداها. وللتذكير، فإن سونيا أسقطت سابقاً حكومة كومار غوجرال، بعدما تسرب ملخص عن تقرير للحكومة في شأن اغتيال زوجها وأظهر ان الائتلاف الحاكم بزعامة "المؤتمر" آنذاك كان متحالفاً مع حزب يؤيد "النمور". ولا تقتصر أهمية تحالف من هذا النوع على ولاية "تاميل نادو" بل تتعداها الى كل الهند. إذ يظهر، بحسب ما يقول رئيس تحرير صحيفة "انديان اكسبرس" اجيت كومارجها، تفهم سونيا قواعد السياسة الائتلافية التي أطلقها رئيس الوزراء السابق في بي سينغ، عندما قال ان الهند "امة ائتلافات". واستطاع فاجبايي من بعده ان يرسي القاعدة عبر شبكة تحالفات واسعة، ادت الى تشكيل حكومة ائتلافية وضمان استقرارها. ومن الواضح ان سونيا غاندي تخلت عن غطرستها وقررت مد يدها الى اي كان وفي أي مكان ما دام متوافراً. فالسياسة في الهند ومن دون أدنى شك، تؤدي الى المساكنة مع الأشرار سواء كانوا فاسدين أو مرتشين، كما في ولاية بيهار، أم من التاميل كما في نادو تاميل، وحتى حاكم ولاية غوجرال الذي حال دون فوزها على فاجبايي في آخر انتخابات عامة والذي أعرب عن استعداده لعقد صفقة معها في الانتخابات اللاحقة. ويبقى على سونيا، كي يأخذها بجدية أكبر الناخبون والانتليجنسيا الهندية، ان تحسم موقفها من بعض القضايا ذات الأهمية. وقالت صحيفة "تايمز اوف انديا" ان ظلالاً من الشك تحوم حول اسلوب تفكيرها، هل هي يسارية أم يمينية؟ وهل هي "هندوسية" سياسياً لإرضاء غالبية السكان أم لا؟ يذكر ان زوجها عندما ابتعد من سياسات "المؤتمر" العلمانية المباشرة، أفقد الحزب هويته، الأمر الذي أدى الى أزمته الراهنة. وعليه، فلسطوع نجمة ايطالية المولد، مسيحية النشأة، في الهند التي تسيطر عليها سياسات هندوسية متشددة، مغزى كبير. وانظار المؤمنين بوحدانية العالم المتعدد والمتنوع الثقافات والأديان واللغات، تتطلع باهتمام ملحوظ الى التجربة الهندية الفريدة. وقدر سونيا غاندي الذي تقف "قوى كونية" وراءه، وقدر الساسة الهنود والهند نفسها، يكتسب أهمية مميزة في هذه المرحلة. واذا كان العالم يراقب بحماسة ما يحدث، فإن له كل الدوافع الى ذلك.