التطورات السياسية التي شهدتها الساحة الهندية خلال شهر نيسان ابريل الجاري تطرح السؤال التالي: ما حقيقة الازمة السياسية في الهند وأين مكمن الخلل في ما تشهده هذه البلاد من بعد طول استقرار سياسي تجاوز العقود الأربعة؟ هنا تقديرات عبدالله المدني: المتابع لشؤون الهند وشجونها المتداخلة الكثيرة لا يجد امامه سوى الاعتراف من دون تحفظ بأن الازمة الاخيرة لا علاقة بها البتة بحالة المؤسسات القائمة. فالمؤسسة التشريعية تعمل بكفاءة وتشهد ساحاتها مناظرات ثرية، وقد اثبتت المرة تلو المرة انها ملتزمة بالقواعد والاصول التي تفرضها الديموقراطية التعددية. وليس أدل على هذا من ان حكومة فاجبايي الموصومة بالتطرف القومي وصاحبة البرامج المثيرة للجدل والمتمحورة حول اقامة دولة هندوسية احادية الثقافة والتي لم تصل الى السلطة المركزية الا بشق الانفس، رضخت فوراً لمتطلبات التناوب الديموقراطي على الحكم وقدمت استقالتها فوراً ودونما مداورة او تلكؤ، رغم سقوطها برلمانياً بفارق صوت وحيد. اما مؤسسة الرئاسة فظلت دائماً حريصة على ان تكون بمثابة الحارس الامين للدستور، وأن تقف فوق الاحزاب السياسية وصراعاتها على نحو ما جسده مؤخراً رئيس الجمهورية نارايانان صاحب السجل الحافل بالخبرة والنزاهة والعصامية، والذي لئن كان مديناً في صعوده الاكاديمي والديبلوماسي لحزب المؤتمر ومديناً في وصوله الى سدة الرئاسة لقوى الجبهة المتحدة من تيارات اليسار ويسار الوسط، فانه لم يوال هذا او ذاك وركز همّه على تطبيق مواد الدستور تطبيقاً اميناً وصادقاً. وأخيراً فان مؤسسة الجيش اثبتت وبصورة لا تدعو الى الشك انها ابعد ما تكون عن الانغماس في وحول السياسة تماماً مثلما يجري في اعرق الديموقراطيات وأكثرها تطوراً، ولم تغرها الازمات السياسية المتلاحقة وحالة اللااستقرار السياسي في الخروج من ثكناتها والاستيلاء على السلطة او حتى تهديد الساسة المدنيين بشيء من هذا القبيل، على خلاف ما يحدث في دول العالم الثالث بصفة عامة وما يحدث في جارة الهند الباكستانية بصفة خاصة. كل ما سبق يؤكد ان ديموقراطية الهند القائمة على المؤسسة بخير وانها تتجذر يوماً بعد يوم داحضة بعض المقولات عن أن هذه الصيغة المتقدمة للحكم لا تصلح الا للمجتمعات الاكثر تطوراً ولا تتجسد مضامينها الا في العالم الأول. اذاً فهذه النتيجة تقودنا الى القول بأن ازمة الهند الراهنة لا تكمن في مؤسساتها وإنما في ساستها! ونعني بهؤلاء الساسة تلك الفئة التي فرزتها الساحة الهندية منذ نهاية الثمانينات وكلهم من ذوي القواعد الاقليمية ومن الذين لا يتجاوز نفوذهم وتأثيرهم حدود ولاياتهم وان قالوا بخلاف ذلك. صحيح ان هؤلاء يتزعمون احزاباً ولكل حزب برامج مصاغة على المستوى القومي الا انهم عند التطبيق العملي لشعاراتهم لا يكترثون الا بمصالحهم المحلية والشخصية الضيقة رامين خلف ظهورهم بمقتضيات المصلحة الوطنية العليا. وهذه الحقيقة تؤكد انه لا يوجد في الهند سوى حزب وحيد يملك التأثير والنفوذ على مستوى الوطن كله، هو حزب المؤتمر الذي قاد البلاد الى استقلالها وكل انتصاراتها التاريخية وحَكَمها طيلة اكثر من اربعة عقود وترك بصمات واضحة عليها، على الرغم من تضعضع مكانته في السنوات الاخيرة بفعل رحيل زعمائه التاريخيين من الأسرة النهروغاندية ووقوعه فريسة للانقسام وتسلط اشخاص تحوم الشكوك حول نزاهتهم مثل ناراسيمها راو على مقدراته في فترة ما. ذلك انه حتى حزب بهاراتيا جاناتا لا يستطيع الادعاء بوجود تأثير حقيقي له خارج ولايات الشمال الهندي. ومن هنا لم يكن غريباً ان يحاول حزب المؤتمر العريق التصدي لسياسات بهاراتيا جاناتا المناهضة لما تم تأسيس الهند عليها من مبادئ العلمانية والتعددية الثقافية والتسامح، وان يجتهد في شق صفوف الائتلاف الحاكم المكون من 18 حزباً، ململماً كل القوى المؤمنة بالعلمانية حوله سعياً وراء العودة الى حكم البلاد، خاصة وانه في الترتيب البرلماني يأتي في المقام الثاني بمقاعد مجموعها 139. وحينما لاحت للمؤتمر فرصة ضرب هذا الائتلاف في 17 نيسان ابريل الجاري من بعد 13 شهراً من الصبر والانتظار والعمل المضني، فانه لم يتأخر مراهناً على امكانية تشكيل حكومة بديلة خلال يوم واحد. لكن اتضح له سريعاً ان رهانه لم يكن في محله وان اسقاط فاجبايي كان البداية لمرحلة من المتاعب أشد قسوة وإيلاماً. فمن يا ترى أفشل عودة حزب المؤتمر الى السلطة، فحال بالتالي دون عودة الهند مجدداً الى صورتها التقليدية المتناغمة مع جوهر حضاراتها وفلسفاتها القديمة؟ لقد راهنت السيدة سونيا غاندي، وهي تطلق بشرى عودة حزبها الى السلطة وتكثر من التصريحات المخالفة لما عُرف عنها من حذر وصمت تسببا في الماضي في اطلاق اسم "أبو الهول" عليها، على دعم ساسة وأحزب كانوا الى ما قبل ايام يتحدثون عن ضرورة اسقاط حكومة المتطرفين الهندوس بأي ثمن واستعدادهم لدعم حكومة بديلة بقيادة حزب المؤتمر، فاذا بها تصطدم بعد انجاز المهمة بحرصهم الشديد والمركز على نيل اكبر جزء من كعكة السلطة المرتقبة ودخولهم معها في مساومات مريرة متمحورة حول مصالحهم الشخصية الضيقة. وكانت البداية مع جايا لاليتا التي تحتفظ ب18 مقعداً في البرلمان ولا يمكن تجاهلها في أي تشكيل وزاري خاصة وانها لعبت دوراً حاسماً في اسقاط حكومة فاجبايي بتغيير تحالفاتها، ناهيك عن حاجة المؤتمر لها مستقبلاً في انتخابات ولاية تاميل نادو - حيث معقلها - لضرب الحكومة المحلية القائمة برئاسة حزب "درافيدا مونتيرا كازاغام" الذي يعتبره المؤتمر متواطئاً مع نمور التاميل السريلانكيين وشريكاً لهم في عملية اغتيال زعيمه الاسبق راجيف غاندي. ومع تمسك رموز حزب جايا لاليتا في ان يتمثلوا في الحكومة المقبلة بأي ثمن وإلا سحبوا دعمهم لها، ومع ظهور اصوات تعارض ذلك من قبل زعماء حزب "المؤتمر تاميل مانيلا" 3 نواب الذين قالوا بأن هذه السيدة بسجلها السيئ وفسادها والدعاوي القضائية الكثيرة التي تلاحقها يجب ألا تكافأ، موجهين تحذيراً الى السيدة غاندي مفاده ان دعمهم لها مشروط بتشكيل حكومة نظيفة وخالية من المشبوهين، وقع حزب المؤتمر في أول المآزق، وتطلب الأمر توفير دعم بديل بما يتراوح ما بين 15 - 20 نائباً ان هو قرر التخلي عن جايا لاليتا وتهميش مطالبها. وللوهلة الأولى بدا للمؤتمر امكانية الرهان على جذب اصوات بعض الاحزاب الصغيرة مثل ساماتا وحزب المؤتمر تراينامول وبيجو جاناتا دال وأكالي دال، على فرضية ان هذه الاحزاب وقد سقط حليفها الاكبر بهاراتيا جاناتا يسعدها دعم اي حكومة بديلة عبر منحها بعض الوعود القليلة. لكن اتضح سريعاً خطأ مثل هذا الرهان على ضوء تمسك كل حزب من هذه الاحزاب بمطالب تعجيزية تفوق حجم تأثيرها وقوتها البرلمانية. اما المأزق الثاني الذي واجهه المؤتمر فقد تمثل في مواقف مولايام سينغ ياداف زعيم حزب "سامجوادي" 20 نائباً والمحسوب على تيار يسار الوسط والذي اشترط التوصل الى ترتيبات وعلاقات انتخابية معينة مع حزب المؤتمر في معقله بولاية اوتاربراديش الشمالية الهامة كثمن لتقديم الدعم للحكومة المقبلة، منطلقاً من مخاوفه حول احتمالات صعود المؤتمر مجدداً في هذه الولاية وبالتالي كسبه أصوات الناخبين المسلمين فيها كما كان الحال الى سنوات قريبة قبل ان تذهب هذه الاصوات مضطرة الى مولايام على خلفية تذمر مسلمي الشمال الهندي من تساهل المؤتمر في ما يتعلق بقضية المسجد البابري. وحينما رفض المؤتمر هذه الشروط لما تمثله اوتار براديش انتخابياً، سل مولايام سيفه لمهاجمته والادعاء بأن سونيا غاندي تحاول تصفية حزبه عبر اجندة سرية، وهو الذي كان قد قال قبل عام مضى ان القوى المناهضة للمؤتمر ماتت وان الاولوية يجب ان تكون لهزيمة بهاراتيا جاناتا وتشكيل حكومة بقيادة المؤتمر. وازاء هذا التطور لم يكن امام غاندي وحزبها سوى الرهان على شخصيتين رئيسيتين اخريين، وان لم تقطع الاتصالات مع مولايام على امل اقناعه بابداء المرونة. ولم تكن هاتان الشخصيتان سوى لالو براسادياداف زعيم حزب "راشتريا جاناتا دال" 17 نائباً وحليف مولايام في ما يسمى بكتلة "راشتريا لوكتانتريك موركا" 37 نائباً، والسيدة ماياواتي زعيمة حزب "بهوجان ساماج" 5 نواب التي لعبت دوراً هاماً في اسقاط حكومة فاجبايي في اللحظة القاتلة حينما اوعزت لنوابها بالاقتراع بلا. لكن هذا الرهان ايضاً اصطدم بعقبات كبيرة! فمن ناحية اصرت ماياواتي على عدم الاشتراك في ائتلاف يضمها مع غريمها اللدود ومنافسها الاصعب في ولايات الشمال مولايام سينغ ياداف، بل رفضت تقديم الدعم لمثل هذا الائتلاف من الخارج. ومن ناحية اخرى اصطدم المؤتمر بعقبة اخرى مماثلة تماماً مصدرها حزب "جاناتا دال" بزعامة رئيس الوزراء الاسبق المعتل صحياً في. بي. سينغ الذي اعلن صراحة عن رفضه لأي تعاون مع حكومة بزعامة المؤتمر يشترك فيها او يؤيدها لالو براسادياداف، بل كتب الى رئيس الجمهورية قائلاً ان تصويته ضد بهاراتيا جاناتا لا يعني تلقائياً تأييده للمؤتمر. اما لالو الزعيم الرئيسي في ولاية بيهار، كبرى ولايات الهند من حيث الثقل الانتخابي وأكثرها تخلفاً اقتصادياً، فقد ظل مؤيداً للمؤتمر كرد جميل لمواقف الاخير المضادة لحل حكومة بيهار المحلية التي تتزعمها زوجته واسناد ادارتها الى السلطة المركزية مباشرة، وكعملية استباقية لحث المؤتمر في حالة تشكيله للحكومة القادمة على اسقاط تهم الفساد واستغلال النفوذ التي تلاحقه. والمأزق الآخر وليس الاخير في وجه سونيا غاندي كان مواقف تيار اليسار الهندي الذي يضم في صفوفه مجموعات شيوعية وماركسية متنافرة، على رأسها بطبيعة الحال الحزب الشيوعي الهندي في ولاية البنغال الغربية بزعامة رئيس حكومتها المخضرم جوتي باسو 32 نائباً، والذي لا يزال على ما يبدو واقعاً تحت تأثير ما فعلته انديرا غاندي في السبعينات بقياداته من تشريد واعتقال. فجوتي باسو الذي قال في العام الماضي ان سونيا غاندي مجرد ربة بيت لا تفهم ألف باء السياسة وبالتالي يجب الا تقود البلاد، عاد في بداية هذا العام ليقول ان قرار تشكيل حكومة بديلة لحكومة فاجبايي ليس بيديه وانما بيدها معلناً استعداده لتأييدها من الخارج، بل اوعز الى شريكه الشيوعي البارز هاركشين سينغ سورجيت بلعب دور برلماني خفي من اجل اسقاط بهاراتيا جاناتا. الا ان هذا كله لم يمنعه بعد سقوط فاجبايي من مساومة المؤتمر على السياسات الاقتصادية للحكومة المقبلة كثمن لتقديم الدعم لها. وبكلمات اخرى فان الشيوعيين ارادوا ابتداء من حزب المؤتمر ان يصوت معهم ضد الموازنة العامة التي اعدتها حكومة فاجبايي والمتناغمة كثيراً مع سياسات حزب المؤتمر الاقتصادية التي شهدت مرحلة انفتاح منذ بداية التسعينات، وذلك على امل ان تقوم غاندي بعد استلامها للسلطة باعداد موازنة جديدة تلتقي مع برامج الشيوعيين الى حد ما. وبطبيعة الحال رفض المؤتمر ذلك لأنه كان يريد تخطي مأزق الانشغال بالموازنة في وقت يوجد فيه امامه ما هو اهم على صعيد تثبيت الاقدام. وازاء كل هذه المآزق والمماحكات والمناورات المريرة قررت غاندي انها ليست في وارد الائتلاف مع اي قوة وان حكومتها ستكون حكومة اقلية مدعومة من الخارج. وهنا بدأ ساسة ورموز الاحزاب الاقليمية التي قطعت عليهم غاندي طريق التلذذ بجزء من كعكة السلة في التخلي عن حزب المؤتمر في مساعيه لحكم البلاد، وذهب بعضهم مثل الانتهازية وصاحبة المواقف المتقلبة جايا لاليتا الى اقتراح تشكيل حكومة بزعامة الشيوعيين ومسنودة من الخارج من قبل المؤتمر اي قلب المعادلة السابقة رأساً على عقب. وهكذا فان سونيا غاندي حينما ذهبت لمقابلة رئيس الجمهورية لاطلاعه على نتائج مساعيها ومشاوراتها لم تكن تحمل في جيبها سوى اسماء تدعمها اقل بكثير من تلك المطلوبة لنيل الثقة البرلمانية بواقع 39 اسماً. وجملة القول ان ما حال دون صعود سيدة 10 شارع جانابات الى السلطة مجموعة من المشاكسات والخلافات في صفوف من يدعون التمسك بعلمانية الهند وضرورة التصدي للقوى الهندوسية المتطرفة بأي ثمن، وهو ما ادى الى الدعوة الى انتخابات تشريعية مبكرة، ستكون لها نتائج كارثية عليها جميعاً ان استطاعت بهاراتيا جاناتا حصد المزيد من اصوات الناخبين، الامر الذي يتوقعه البعض معللاً السبب بالطريقة التي اقصي بها فاجبايي من السلطة والمحاولات التآمرية التي جرت خلف الكواليس لتحقيق هذا الغرض من دون وجود بديل جاهز وقوي لخلافته، مما سوف يكسبه تعاطفاً شعبياً في القادم من الأيام.