تعيش الثقافة المغربية في المدة الأخيرة على إيقاع صمت يجعل من أنشطتها أحداثاً عابرة متماثلة الحضور ضعيفة التأثير. وباستثناء اهتمام الصحافة الصادرة بالفرنسية خصوصاً ببعض جوانب وموضوعات الحياة الثقافية يكاد الباحث عن صدى هذه الأحداث في الصحافة المغربية ان يصاب بخيبة الأمل لغياب الاهتمام النقدي والنقاش حول بعض القضايا التي لها اهميتها في السياق المغربي. وهي إن ظفرت بمثل هذه الفرصة ففي أحسن الأحوال بالتباس إيديولوجي وسياسي كما حدث لدى صدور كتابات متزامنة عن سجن تازمامارت. نشير في هذا المقام الى أحداث لم تلق صدى. فعدا مهرجان الفيلم المتوسطي لم تهتم الأوساط الصحافية ولا النقدية بالتظاهرات التي عرفها المغرب في المدة الأخيرة كمهرجان الشعر المغربي الذي تشهده مدينة شفشاون سنوياً منذ ثلاثين سنة والذي شكل عبر مراحله الأولى خصوصاً لقاء حراً حول القصيدة المغربية المعاصرة واحتضن في مناسباته اهم الأسماء الشعرية في تجاربها ونقاشاتها التي قادت الى تحرير القصيدة المغربية من قوابلها الجاهزة وكانت مناسباته دافعها الى الاحتكاك مع الخارج العربي والعالمي على السواء. كما لم يهتم منبر إعلامي بالكتابة عن صدور الجزء الرابع من مشروع محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي" والذي خصصه كما كان منتظراً منذ أكثر من سنتين ل"نقد العقل الأخلاقي" عن "المركز الثقافي العربي" في الدار البيضاء وبيروت. فإلى حد الآن لم تتجاوز العناية به الإعلان عن الصدور في صحافة الحزب السياسي الذي ينتمي إليه محمد عابد الجابري وفي مجلة "فكر ونقد" التي يصدرها بنفسه، كما يظهر الغياب لافتاً هذه المرة أيضاً عندما أطلقت صحيفة التجديد التي يصدرها تنظيم سياسي مغربي معترف به بخلفية دينية حملة واسعة وصلت أصداؤها الى عدد من المساجد من دون ان يكون الأمر كذلك بالنسبة الى الصحافة المكتوبة على قصيدة لحكيمة الشاوي المجهولة الاسم والحضور الشعري كانت قراءتها في لقاء عبر الإذاعة الوطنية الرباط وفي بعض التظاهرات العامة المنظمة في العاصمة لدعم المشروع المثير للجدل والمعروف بخطة "إدماج المرأة في التنمية". فمثل هذه الأحداث قلما استرعى الاهتمام النقدي: تجاهلاً أو إحساساً بلا جدوى إثارتها، أو تأكيداً لذلك الرأي الذي يذهب الى القول بانعدام وجود الناقد المغربي. وفي هذا السياق يفهم مثلاً الغياب والاعتذارات الكثيرة من الشعراء والنقاد الذين وجهت لهم دعوة المشاركة في المهرجان الشعري السادس عشر الذي احتضنته مدينة شفشاون 239 كيلومتراً شمال الرباط واختار له المنظمون هذه السنة أن يكون وقفة مع الفعل الفلسطيني عبر "دورة الانتفاضة". وإذا كانت غالبية المشاركات أتت المهرجان بحرفية المعنى الذي فهمته بسذاجة من الشعار فإن أخرى وهي قليلة العدد، تمثلت فعل المقاومة من خلال قصيدة سعت الى أسطرة جعلها أسطورة المقاومة الفلسطينية المستجدة على الأرض. ولعل ذلك المد الخطابي الغالب على بعض الأمسيات الشعرية استفز في الجمهور الحاضر العودة من جديد الى صرخة محمود درويش: أنقذونا من هذا الحب القاسي! وذكّرَ بما استدركته الورقة التي صاغها المشاركون في ختام لقاءاتهم الشعرية والنقدية، إذ لاحظت ان اقتراح الانتفاضة شعاراً للدورة يأتي "إضافة موضوعية وتجربة تأملية تبحث عن التلاقي بين سؤال الماهية الجمالية الخاصة وآفاق المعنى الملتزم قضية وجود إنساني محوط بالعنف في ذاته وتجلياته الكتابية. إنها بحث عن المعنى المطلق الذي يخلده الشعر باعتباره مقاومة وجودية مستمرة وليس مجرد شكل تعبيري عن فعل المقاوم الفلسطيني...". وغير بعيد من شفشاون 60 كيلومتراً استضافت تطوان مهرجانها السنوي الحادي عشر للسينما المتوسطية الذي أريد به هذه السنة ان يمثل تعدد الألوان والرؤى الثقافية والحضارية التي تزخر بها منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأن يكون نافذة للسينما المغربية على الصورة التي يصنعها الفن السابع في الجوار، الجغرافي والثقافي. لمسابقة الأفلام الطويلة من المغرب عرض شريط "الممر المطرز" لعمر الشرايبي، الذي يحكي قصة استاذ جامعي شغوف بالشعر عثر على مخطوط لشاعر مغمور فأراد إعادة الاعتبار إليه. كما قدمت في المسابقة ذاتها "الهاربات" للإسباني ميكيل هيرموسو و"جسر ميلفو" للإيطالي روبيرتو ميدي الذي استحوذ على حصة الأسد من الجوائز الجائزة الكبرى وجائزة النقد... وهو يجعل من الساحة القريبة من جسر ميلفو الشهير في روما مسرحاً للقاء حساسيات وأفراد من مختلف الأعمار انتهت بهم حال التشرد واللاجدوى الى جعل الساحة مستقرهم اليومي وفضاء الأحداث التي ينسجونها، بما يعكس الروح الشعبية السائدة بينهم كمجتمع إيطالي. كما عرف المهرجان تنظيم ندوة دولية في موضوع "البحر الأبيض المتوسط: رؤية الكاتب ورؤية السينمائي"، شارك فيها كتاب ومخرجون سينمائيون من المغرب والجزائر وتونس ومصر وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا... تجاوزت تركيب الصورة السينمائية إلى إعادة بناء صورة للحوض باعتباره مكاناً للصراع والتنافس والجراح التاريخية التي لم تندمل بعد. ولذلك إذا كان بعض المشاركين في الندوة تبين أن مقاربة حضور المتوسط في الممارسات الأدبية والسينمائية لا يمر من غير كتابة تاريخ للأشكال الإبداعية لهذين الفنين، فإنه لا الكاتبُ ولا السينمائي، تلاحظ بعض المداخلات، يمكنه تعويض دور المؤرخ في إعادة بناء الأحداث وإقامة رؤية تستطيع إدراك معناها في الزمن، ولعله بسبب ذلك يفسر البعد الواقعي الغالب على الكتابة السينمائية في تجارب البلدان المتوسطية في كون مفهوم الحقيقة بها لا يتحدد بحسب درجة الفارق بين زمن وقوع الأحداث التاريخية وزمن السرد، بل يُتبين ويُحكم عليه مفهوم الحقيقة في كتابة السينما من خلال تناسق وانسجام استراتيجيات السرد والعناصر المشاركة في بنائه... تدخل في هذه الرؤية أفلام الخيال والأفلام الوثائقية على السواء ما دامت الحدود بين النوعين غير ميكانيكية. في بقية الأحداث يمكن الإشارة المقتضبة الى انعقاد الجمع العام العادي لبيت الشعر في المغرب الذي عرف انتخاب مكتبه الجديد الذي حافظ على رئاسة الشاعر محمد بنيس وتقليد تجديد الأسماء، ولكن هذه المرة بمفاجأة عدم ترشيح صلاح بوسريف أحد أربعة موقعين على بيان إنشاء بيت الشعر في المغرب قبل سنوات لأية مهمة في مكتب البيت. وعلى مستوى الإصدارات كان من اللافت هذا الشهر ظهور الجزء الرابع من كتاب محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي" العقل الأخلاقي العربي وخصصه لدراسة وتحليل نظم القيم وحضورها في الثقافة العربية والفكر الإسلامي، منطلقاً من رغبته في دحض تلك الفرضية الاستشراقية التي ترى أن العرب لم ينتجوا فكراً أخلاقياً لا في الجاهلية ولا في الإسلام باستثناء بعض ما ورد لدى بعض فلاسفتهم من آراء استقوها من فلاسفة اليونان. اعتمد الجابري على كتابات فلاسفة إسلاميين ليعكس من مواقعهم تعدد المنظور الأخلاقي وانفتاح القيم التي سادت في التاريخ الإسلامي.