ربما لا أبالغ إذا قلت إن رحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري هو فاجعة كبيرة بحجم ومساحة الوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء، ولا أذهب بعيدا إذا قلت أيضا إن غيابه هو غياب لأحد أبرز العقلانيين العرب الذين أسسوا لمرحلة جديدة في الحياة العربية على مستوى الفكر، والتي ترتكز على أهمية إعمال العقل وفق أسس منهجية حديثة ذهبت إلى أقصى ما يمكن الذهاب إليه وفعله واستعماله في قراءة نصوص التراث الديني والفلسفي والسياسي، وفق الهامش والمتاح في عالم عربي ثقافي واجتماعي لا يسمح إلا بما هو قليل من حرية الفكر. وأهمية الجابري تكمن في أنه أعاد أو أحدث ما يمكن أن يكون انقلابا وثورة في الثقافة العربية، وجعل من الفلسفة زادا معرفيا يتناوله ويستزيد منه الجميع.. إنه مفكر النخبة ومثقف الجماهير، لقد جعل من الفكر الفلسفي أكثر مقروئية بين النخبة المهتمة بقضايا الفكر والفلسفة، وبين أولئك القراء الذين يقفون خارج النسق الفلسفي والفكري. ومنذ طه حسين الذي شكل خطابه الثقافي انعطافة في الثقافة العربية لم يحظ مفكر ومثقف عربي بمثل هذا الحضور الطاغي والمضيء والمؤثر في تجليات الكتابة الفكرية كما هو الحال مع الجابري. لقد شكل خطابه الفكري والفلسفي حالة جديدة من خلال ذهنية تتكئ وترتكز على المفاهيم والمصطلحات الغربية، وبين عمق قرائي ومعرفي هائل في الثقافة العربية والغربية على السواء وبوعي حاد، وعقل جاد وفي كيفية قراءة وتأويل النصوص ثم وضعها وطرحها على أرضية معرفية ومنهجية تضيء المرتكزات الأساسية لفهم ما مضى واستلهام ما سوف يأتي في المستقبل، لقد أعلى الجابري من قيمة العقل وأن لا قيمة لهذه المجتمعات الآسنة فكريا واجتماعيا إلا بجعل العقل هو تاج الحياة العربية وعنوانها وطريقها للتقدم والنهوض. وبالرغم من أن هناك مشاريع فكرية تتساوى وربما تتوازى مع مشروع الجابري الفكري بدأت مع حسين مروة في «النزعات المادية في الفلسفة العربية»، والطيب تيزيني في «من التراث إلى الثورة»، ومحمد أركون في «نقد العقل الإسلامي»، وحسن حنفي في« من العقيدة إلى الثورة»، وأدونيس في «الثابت والمتحول»، إلا أن مشروع الجابري يظل مشروعا عربيا نهضويا بامتياز؛ ذلك لأنه أعاد قراءة ما هو مسكوت عنه في الموروث الثقافي والفلسفي وعزز بذلك ذهنية قامت باختراق ذلك المسكوت عنه برؤية عميقة. وهنا تكمن أهمية وعبقرية الجابري.. رغم ما عاناه كأي عقل يمتلك القلق الخلاق والأسئلة الحائرة والمحيرة والكونية.. من هجوم اتسم بالقسوة غير الأخلاقية، وبالفجوة الشخصية من مثقفين ربما لم يقرؤوه ويفهموه ويعوه عقلا وفكرا وكتابة، وثمة مسافة معرفية بين أن تقرأ.. وتفهم.. وبين أن تحاكم وتخاصم، هناك مسافة بين الوعي بالأشياء والكون ومعاداة ومخاصمة كل ما هو مختلف، وغير معتاد ومألوف، ومن هنا سيظل الجابري لسنوات طويلة حالة فريدة في الفكر العربي، لأن مثل عقل الجابري لا يتكرر حضوره في المشهد العربي إلا نادرا.. ربما كل مائة عام أو ربما أكثر من ذلك. إن العقول الكبيرة لا تظهر إلا في الأزمنة الكبيرة والمجتمعات الكبيرة، حيث تضيء قيم الحرية، وحيث تحترم المجتمعات «العقل» بوصفه قيمة كبرى. لقد التقيته في السنة الثانية أو الثالثة من الفعاليات الثقافية للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»، حيث شاركت في إحياء أمسية شعرية مع آخرين، ووجدتني وقتها ضمن ضيوف المهرجان أمام ثلاثة مفكرين بارزين في وقت واحد، كان ذلك في فندق قصر الرياض.. محمد عزيزي حبابي.. محمد عابد الجابري.. ومحمد أركون، وقد أتيحت لي فرصة اللقاء مع هذه الأسماء الكبيرة وكنت حينها أكثر اهتماما وانحيازا للشعر مني للفكر، وكل ما يتعلق بالقضايا الفكرية بكل تشعباتها وفضاءاتها المختلفة كنت كائنا شعريا بامتياز، كنت مسكونا بالشعر قراءة وكتابة إلا من قراءات تأخذني هناك باتجاه ضفة الفكر والفلسفة التي بدأت إرهاصاتها مع كتب زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وحسين مروة. كان وقوفي ووجودي أمام هذه الأسماء أنا القادم من جيزان الباحث عن ضوء وعن موقع مهيبا. وكان حينها الجابري يملأ سماء الثقافة العربية بطروحاته الفكرية، كان ذلك في الثمانينيات الميلادية، حيث كان يكتب حينها في مجلة «اليوم السابع» مقالاته الجادة.. مع آخرين من أمثال المفكر المصري حسن حنفي والمفكر التونسي هشام جعيط، كانت هناك لقاءات في بهو الفندق مع الجابري وأركون والحبابي، وأتذكر الجابري بتلك الهيبة، أتذكره مثل كل المهمومين بالقضايا الكونية الكبرى.. وأتذكره الآن متواضعا بسيطا في هيئته، ولكن تشعر وأنت تصافحه وتجلس معه أنك أمام قيمة فكرية وفلسفية وهو كذلك، وكما وصفه أحد كتاب المغرب من أن الجابري بما صنعه وصاغه في مشروعه الفكري خاصة في نقد العقل العربي والمكون من أربعة أجزاء «التكوين.. والبنية والعقل السياسي.. ثم الأخلاقي» بأنه يجلس مع ابن خلدون وابن رشد وبقية فلاسفة العرب في نفس المكان.. والمكانة.. خاصة أنه قدم مشروعا فكريا كبيرا ولافتا تمثل ذلك في أعماله الأولى التي كانت بمثابة مقامات وهي «نحن والتراث» «الخطاب العربي المعاصر» ثم الدخول في صلب وصميم مشروعه الفكري والفلسفي «تكوين العقل العربي»، «بنية العقل العربي»، و«العقل السياسي»، ثم «العقل الأخلاقي». نعم كان الجابري فريدا واستثنائيا في مشروعه، وهو يؤكد أن العبقرية العربية تكمن في «الأفراد»، وليس في المؤسسات والذين يبدون في كثير من الأحيان كما لو أنهم أكبر من هذه المؤسسات، وهو يبرز هنا كنموذج مضيء مع الراحل عبد الوهاب المسيري. وأخيرا يمكن القول لقد كان هناك فكر عربي قبل الجابري.. مختلف وثمة فكر عربي بعد الجابري أكثر اختلافا.. وأكثر جذرية أيضا، لقد كان مثالا لروح جديدة وعقلية جديدة لجدل الفكر وللعقل الخلاق. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة