كانا زوجتي وابني واقفين ينتظرانني، ويتأملان ويخشيان أيضاً أهل الله الجالسين على الأرض بأسمالهم المتسخة وعيونهم ذات البريق الغامض، ووراءهم أو أمامهم جميعاً كان البحر، واسكندرية كلها تغتسل فيه، والشمس تحاول الهبوط أيضاً، وكنت أفكر في القطار الذي سيقلنا في السابعة مساء الى القاهرة، وأنه يجب أن أغادر ساحة المسجدين، مسجد أبي العباس المرسي، ومسجد البوصيري، ولا أعرف لماذا شممت رائحة بخور ظننتها تهب من خلوة بعيدة جداً، خلوة سيد الشيخ الأكبر، ولا أعرف لماذا سعيت خلف الرائحة، استزيد واقترب وأرجو أن أرسو، والرائحة تتدانى جزئياتها وتتلاحم، وتستقر عند مكان قرب البحر، أبلغه، فأجدها قد اصبحت على هيئة شيخ في الثمانين، له لحية طويلة وهشة، وعلى جبينه لمعة بيضاء تخالف لون جسده من غير سوء، لها نور يتلألأ. "السلام عليكم" واستندت على درابزين الشاطئ، ووقفت أمامه، وقبل أن يرفع رأسه، وينظر في وجهي، سألني: من القاهرة أنت؟ قلت له: نعم. سألني: هل تعرف زقاق القناديل؟ أجبته: لا. سكت طويلاً، فتهيبت وتهيأت للانصراف، وأنا أوشك أن أفعل، فاجأني: كنت سأذهب الى زقاق القناديل، لي أصحاب خلّص هناك، أبو العباس الحريري الإمام، وأخوه محمد الخياط، وعبدالله الموروري، ومحمد الهاشمي البشكري، ومحمد بن أبي الفضل، هل تعرف، إنني أفر من قبري، منذ أيام وفد مشيعون ورجال حكم، ولحادون حفروا وأدخلوا رجلاً عراقياً، سمعتهم يندبونه ويرثونه، مات عبدالوهاب البياتي، قلت لنفسي بعد أن ينصرف المشيعون واللحادون سأتعرف عليه وأرحب به، وأعينه على التآلف والاعتياد، إن كل إنسان هو ابن الأرض كلها، ولا تهمني جنسيته، ولكن هل تعرف أنني قابلت في بغداد الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي صاحب "عوارف المعارف"، نظر كل منا الى الآخر وقتاً طويلاً، كنا صامتين جداً، وانفصلنا دون أن ينصرف الصمت، وبعد زمن أبلغني تلاميذه أنه قال لهم: إن ابن عربي بحر الحقائق، وفي مكة كانت عين الشمس والبهاء، ست المملوكين، وست الدنيا، النظام نبت مكين الدين أبي شجاع، والتي تجلت دائماً ساحرة الطرف، عراقية الظرف، ابهجتني النظام، وشعشعت، فأوحت بكتاب هو قصائد غزلية موجهة إليها في الظاهر، جعلت عنوانه "ترجمان الأشواق"، وخارج الموصل، وبالتحديد في بستان علي بن عبدالله بن جامع، تلقيت لثالث مرة، خرقة الخضر، أشهد وأعترف أنني تلقيتها من يدي ابن جامع الذي تلقاها مباشرة من يدي الخضر نفسه، وحرصت في احوالي ومقاماتي أن اضع العراق في عيون أحبابي، وأن أضع احبابي في عيوني، ونتوكل على الله، ولكن عندما وفد اللحادون، وحفروا وأدخلوا رجلاً عراقياً يقال له: عبدالوهاب البياتي، قلت فلأتذكر موتي، كانت الليلة التي قبضت فيها، ليلة جمعة، حولي أهلي وأصحابي، ودمشق النائمة تتأرجح بين آخر الخريف، وأول الشتاء، وابن الزكي لا ينفد حياؤه ولا يستنفد كرمه، وبعد أن زارني الملاك الضائع وانطلقنا معاً، تركنا خلفنا حجرتي وعصاي وجلبابي وجسمي، لم يعترض سبيلي أحد، فقط قام ابن الزكي مع السيدين ابن عبدالخالق وابن النحاس بواجبات الضيافة، وحملوني الى خارج دمشق حيث القرية القائمة على سفح جبل قاسيون، قرية الصالحية، همس أحدهم، لقد زارها الانبياء جميعاً، ونظفوها، خصوصاً الخضر غسلها بدموعه، وبينما أتذكر موتي، إذ بالعراقي الوافد يستيقظ وينهض ويخبط الأرض بقدميه وينشد كأنه شاعر: النهر للمنبع لا يعود النهر في غربته يكتسح السدود قلت: لعل لوثة اصابت الرجل وأذهلته، لا بد أن خياله ما زال يلتصق بالتراب والغبار وصناديق الوقت، فلنتركه، ولننشغل عن عباراته البرانية، وننتظر، بعد قليل سمعت فاصل شهيق، وفاصل زفير وبكاء، وسمعت كلاماً من النسيج نفسه، كلاماً برانياً، كان كأنه يعرفني، ويختال عليّ، ويتمادى، سمعته يقول: أتيت لأطردك فأنت أيضاً سارق نار. لم أفهم معنى قوله، استمعت بجد خالص الى صراخه: الفنان الثوري إذن هو تجسيد لإرادة الكائنات المتناهية المكبوتة المضطهدة، وامتداد لها على مدى التاريخ عبر لحظات التجدد الى ذات أكثر اكتمالاً، هنا نصل الى أن الطبيعة بالرغم من تآكلها وميكانيكية قوانينها، تتفوق على الكائن المتناهي، وأنها تستطيع أن تسحقه وتعيده الى صدرها تراباً، وعظاماً نخرة، ولكن المتناهي هو الذي يحول أحلام الفنانين والثوريين والفلاسفة الى واقع وعمل، وفي ذلك سر عظمته، الفنان الثوري، الفنان الثوري. انتهى كلام العراقي الجديد الوافد، لم استطع أن احتمل المزيد من رطانته، فاستوحشت، وخرجت أبحث عن أصحابي واستشيرهم، وأبحث عن اصحابه وأسألهم عنه، والحمد لله. كان وجه ابن عربي في هذه الاثناء، قد اصبح وجه شيخ في الثمانين حقيقة، عرفت اسمه من روحه وحكاياته، واشفقت عليه، وقلت له: ستسمعني طويلاً يا أبت. أنفعل وأمرني: لا تقلها ثانية، هل تذكر ابنتي زينب هي فقط المسموح لها أن تصيح: هذا أبي هذا أبي، وأن ترمي بنفسها في احضاني وتضحك: يا أبت يا أبت، لذا لا تقلها ثانية والآن، أين تفكر أن تذهب، هل نذهب الى قلعة قايتباي؟ قلت له: نذهب الى القاهرة. قال: كيف؟ قلت: بالقطار التوربيني، الاسباني. عبس وقال: لن أجد محمد الحصار في انتظاري ولن أجد أبا الحسن البجائي، اسمع، قابلني عند أقدام الجبل قرب ضريح ومقام ابن الفارض، هيا، قم ناولتي العصا، وقبل أن نفترق سأروي لك شيئاً آخر عن بغداد، رأيت في واقعة وأنا ببغداد سنة ثمان وستمائة، أنه قد فتحت أبواب السماء، ونزلت خزائن المكر الإلهي مثل المطر العام، وسمعت ملكاً يقول: ماذا نزل عليه من المكر؟ فاستيقظت مرعوباً، ونظرت في السلامة من ذلك، فلم أجدها إلا في العلم بالميزان المشروع، فمن أراد الله به خيراً وعصمة من غوائل المكر، فلا يضع ميزان الشرع من يده وشهود حاله. ابتسم الشيخ، كان يضغط كفي ويوصيني: حدثني عن عبدالوهاب أثناء سفرك، لا تخف سأسمعك، هل هناك من سيسافر معك؟ اشرت بإصبعي الى الجهة الأخرى حيث تقف زوجتي وابني، نظر، وقال: من هذان؟ - قلت: سامية وأحمد، العفو زوجتي وابني. قال: أبشر، وجه زوجتك يذكّر بوجه النظام، ويذكّر بوجه زينب ابنتي، هل يمكن أن تدلني على اسماء النساء في زمنكم؟ قلت: خالدة سعيد، مها بيرقدار، فريال غزول، حنان الشيخ، ليلى بعلبكي، هدى بركات، غادة السمان، فيروز، سعاد حسني، ميرفت امين، درية شرف الدين، ألفت الروبي، نجاة الصغيرة، فاطمة المرنيسي، أناييس نين، سيمون دي بوفوار، كيم نوفاك، اليزابيث تايلور، فرجينيا وولف، مي عضوب، اسماء عبدالوهاب البياتي. قال: تمهل تمهل، يكفيني ذلك، هه، في القطار أحك لزوجتك عن عبدالوهاب البياتي، وبهذا تخدع الجمهور العام ولا يظنونك معتوهاً يكلم نفسه، وثق انني سأسمعك. أعطاني ظهره، كنت أخشى من يقظته، وأخشى من غفلتي، وأفكر كيف أغسل اللغة من رؤاها وأدرانها، وهل ستفسد، وأين أتخلص من ماء الغسل، وأفكر هل استقر عبدالوهاب البياتي بجوار الشيخ ليجبره على الرحيل، والبحث عن منفى. في القطار، جلست جنب النافذة، وحشرت البياتي في جماعات غفيرة من قومه، ليصبح صغيراً، واحتمله، وعلى حافة صحيفة "الأهرام" المفرودة أمامي، بدأت أدون الاسئلة اللازمة، خيل لي أن الشيخ يريد تقريراً، ويجب أن أصوغه بموضوعية وحذق، يمكن إذن أن أطلب من شبح عبدالوهاب البياتي أن يجلس على المقعد المواجه لي بدلاً من ذلك الشخص، وأن أسأله: 1- عبدالوهاب من أنت؟ وأين ولدت ومتى؟" 2 - ماذا تعمل؟" 3- كيف تقرأ شعرك؟" 4- لماذا أنت متجهم جداً؟" 5- لماذا أنت نمّام لهذه الدرجة؟" 6- هل تحب الروايات؟" 7- أتظن أنك شاعر فرد؟" 8- متى اخترت المنافي لتستفيد منها؟" 9- هل تعرف القتلة الحقيقيين للسياب؟" 10- وهل استخدمك بعضهم؟" 11- من هم إذا كان الأمر كذلك؟" 12- عندما تنصت من بعيد الى وطنك ماذا تسمع؟" 13- صحيح انك لا تسمع سوى صوت الحاكم؟" 14- هل تزور الأضرحة؟" 15- أرجوك أشح بوجهك عني وأن تجيب.." 16- هل تذكر مقدمة عبدالرحمن الشرقاوي المبتذلة لديوانك "المجد للأطفال والزيتون"؟" 17- ماذا فعلت بها فيما بعد؟" 18- لماذا توقفوا عن إخراجها في المناسبات؟" 19- سمعت انك مصاب بعقدة النقص؟" 20- هل ضايقتك؟" 21- قبل أن تنصرف أعطني كتبي، أرجوك وهدوئي.. حين تعب شبح عبدالوهاب وذهب، قلت لنفسي: كان من الخطأ أن استدعيه لأن الشيخ لا يحب هذه الطريقة، ولا يحب خضوعي لمناطقة الأدب والفن والسياسة إنه يريدني أن افتح قلبي، وأن أحذر الكلام عن تعاستي أو سعادتي، ومن الأفضل ألا أفكر، تنحنحت، ونظرت الى زوجتي، كانت مسترخية، نبهتها، فانتبهت، كنت أعلم أنها لم تقاطعني قلت لها بعد أن طويت الصحيفة وأهملتها: للعراق قامة تشبه قامات النخيل، حيث جذع كل نخلة هو ظل لقتيل أو شهيد أو منتدب لموت، وأغلب نخيل العراق كلما انسدل الليل بكى، وفي الصباح تشرق الشمس، وتغطس رأسها في البحيرة، وترفعها، وترتدي المريلة، وتمسك مكنستها ومنديلها وفوطتها، وتكنس قبل أن تمسح فتات الدموع التائهة ثم تختفي، يقولون إنها تبكي في سريرها، ويقولون إنها تغيب عن الوعي، ويقولون إنها تتذكر، ونخيل العراق يرتفع فيسمو ويشف ويعرف مفقوديه، يعرف علياً وفاطمة وزينب والحسن والحسين وزيداً وجعفر الصادق، ومحمد الباقر والشريف الرضي والرصافي والزهاوي وعلي الوردي ويعرف - قلتها على استحياء - زيارات الشيخ الأكبر محيي الدين، ويعرف مستبدين ومخلصين وخونة، ويعرف اصدقائي وخصومي، ويعرف سماء بابل وألواح أشور، وقلق دجلة، ويعرف الفرات. أذكر أن البعض الطيب من اصدقائي ومنهم عباس بيضون، يرون أنه تجمعني مع الشعر العراقي صلة قرابة حميمة لا يمكن إغفالها، وأنه في السنوات الأخيرة انفتحت فوهات القبور في أنحاء الأرض كلها لتستقبل أحلام العراقيين، ثم لتستقبل أجسادهم جسداً جسداً، مما جعل صلة القرابة الجامعة تستحيل الى قنطرة تصل فراغين، قنطرة تئز أخشابها فتنطلق تحتها الفئران في كل اتجاه، أذكر أن بلند الحيدري غافلني ومر على القنطرة، وهبط ودخل قبره، ولأنني أحببته نزفت جزءاً من محبتي على الأوراق ورشقتها في الهواء، وكذا غافلني الجواهري رغم سنيه المئة، ومر وهبط، ودخل قبره، وفعلت معه الفعل نفسه، وغافلني هادي العلوي الذي بعدما أدخلوه، انتحيت وبكيته في غرفة مغلقة، ولم أفصح، ومر المنفيون والبدو والفلاحون والعمال والطلبة والنسوة والأطفال، مروا وهبطوا ودخلوا، وها هو عبدالوهاب البياتي يحمل جسده، ويدخل، كان عبدالوهاب رفيق المائدة الأكثر قدرة على الصمت والكلام، كان هو وحده الذي عرف كل مدينة كما لو أنه عاش فيها طوال عمره، والذي عرف كل فرد كما لو أنه صاحبه الأول، والذي عرف الشعر باعتباره سلسلة من الأعمال غير السحرية ومع ذلك فإن رحيله سيدوم، وطيفه سيظل على هيئته الرمادية يترجرج، كأنه يرغب في الطيران، ليس جميلاً أن يظهر الموت هكذا لعبدالوهاب، في يديه قفازان، وجسمه مرشوش بالملح ومسترسل وأسنانه طويلة وحادة، واجنحته قوية، ولغته واضحة تعتمد على النثر، وعلى حدود المعنى، وتفخر بأنها سفينة الطيران الوحيدة، وقبل أن تزمجر اللغة، يصعد عبدالوهاب على حريته، والذي يقفز من شرفة ذهبية الى أخرى دون أن يسقط في الفخ.