سبق لمالك علولة في كتابه "الحريم الكولونيالي" أن أنعم النظر في آلاف من البطاقات البريدية التي أنتجها الفرنسيون في الجزائر وقالوا إنها تصور النساء والعادات والتقاليد هناك، فوجد أن صورة النوافذ ذات القضبان تتكرر كثيراً في هذه البطاقات حتى يتضح للناظر من غير شك أن نساء الجزائر يعشن في سجون. كما وجد أن صور النساء العاريات تتكرر أيضاً في هذه البطاقات وأنها تُنْكِر على النساء الجزائريات أية طبيعة ما عدا الطبيعة الجنسية، فيما تخلّف انطباعاً راسخاً بأن المصوِّر نجح في مهنته، إذ رفع الحجاب عن المحجَّب، مع أن هذه الصور كانت أُخِذَت داخل الاستديات والنساء عارضات. "وعلى هذا النحو"، يقول علولة: "فإن فكرة المرأة الحبيسة في دارها لا بد من أن تفرض نفسها بطريقة "طبيعية" الى أبعد حدّ... فإذا لم تكن رؤية النساء متاحة، فذلك لأنهن سجينات. وهذه الموازاة الدرامية بين الاحتجاب والحبس ضرورية لبناء سيناريو متخيَّل يفضي الى تصفية المجتمع الفعلي الواقعي، هذا المجتمع الذي يسبّب الإحباط، واستبداله بوهم، وهم الحريم". وعلى غرار هذه البطاقات البريدية، كانت كتب الراحلة الغربيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولا تزال الى اليوم بدرجة كبيرة مسكونة بالحريم. وكتب الرحالة في تلك الفترة كانت كثيرة، انهمرت من المطابع الغربية مما دبّجه كتّاب مغمورون تعوزهم الشهرة، وكانت مرتبطة بما أبداه "الغرب" من فضول لمعرفة "الشعوب الأخرى" وكذلك باستعمار هذه الشعوب وفتحها، كما بيّن إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق". ولذا لم تكن هذه المعرفة إلا على مستوى يرسّخ اقتناع الأوروبيين بتفوق ثقافتهم على غيرها من الثقافات، على رغم جميع الفوائد التي انطوت عليها تلك "المعرفة" مما لا يجوز نكرانه بأي حال من الأحوال. ومن يعود الى كتاب جودي مابرو "أنصاف حقائق محجبة: تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في الشرق الأوسط"، يجد ان كتب الرحالة، بل وكثيراً من الأدب الغربي، أشار الى الحريم كما لو أنه كان موجوداً في كل مكان من الشرق الأوسط على النحو الذي صوّرته عليه اللوحات الاستشراقية والروايات عن السراي في استانبول، بل إن الرحالة الغربيين كانوا "يعرفون"، حتى قبل أن يغادروا أوطانهم أن "الحريم" عالم فاسق تُزْرَب فيه معاً نساء جميلات، وشهوانيات، وتافهات، فيستلقين على أرائك طوال النهار، يدخن الغلايين، وينتظرن السيد أن يأتي ليختار إحداهن، فإن لم يقع عليهن الاختيار أطلقن العنان لأفعالٍ لا يمكن وصفها أو أنها توصف وصفاً مفصَّلاً في بعض الأحيان. غير ان الواقع هو أن غالبية سكان المنطقة كنّ يعشن في القرى. وعلى رغم معرفة أن حياتهن كانت مختلفة عن الوصف السابق كل الاختلاف، إلا أن ذلك لم يَعُدْ عليهن أو على نساء المدن الفقيرات اللواتي يعملن خارج المنزل بأي قدر من الاحترام الاضافي. وذلك لأن الكتّاب كانوا يكتفون بواحدٍ من خيارين، فإما أن يطلقوا العنان لخيالاتهم الجامحة عن العذراوات السمراوات عند النبع، مستذكرين رفقة في "الكتاب المقدس"، أو أن يصرفوا النظر عن هؤلاء النساء بوصفهن جاهلات ومنحطّات. وهكذا تتواصل ضروب التعميم عن النساء السجينات في الحريم. وعلى رغم تراكم أدلة كافية في القرن التاسع عشر تثبت أن النساء في بلاد العرب - بصرف النظر عن السراي وغيره من أنواع الحريم الكبيرة - كنّ حرّات في الخروج من البيت والعودة اليه ويمارسن سلطة واسعة في داخله، إلا أن كثيراً من الأوروبيين تشبثوا بالفكرة التي مفادها أن وضع هؤلاء النساء يبعث على الأسى وأن الحريم مكان للفجور. ومع أن كلمة "حريم" من "حرام" تعني حجرات البيت حيث يقيم النساء والأطفال، والتي يُقْصى عنها الرجال ما عدا الزوج وبعض الأقرباء المقربين، أو تعني نساء البيت، فإن الطبعة الأولى من "قاموس روجيه" عام 1852 أوردت كلمة "حريم" تحت كلمة impurity دَنَسْ، جنباً الى جنب مع كلمات مرادفة للمبغى. واستمر ذلك كمعنى وحيد الى حين صدور طبعة Everyman من هذا القاموس 1952 فوردت كلمة apartement شقة كمعنى ثان. أما طبعة عام 1962 فلم تضع كلمة "حريم" تحت المدخل impurity وإنما تحت المدخل woman Kind جنس المرأة والمدخل love-nest عشّ الحب، أو المخدع، وكان ذلك صائباً. غير ان الأصوب هو ما أوردته الطبعات اللاحقة، فأوردت كلمة "حريم" بمعنى "جنس النساء" وبمعنى "المكان المعزول" seclusion، مع أن الطبعة التي صدرت عام 1972 في لندن عن Gally press باسم "قاموس روجيه طبعة Everyday" عادت الى وضع الكلمة تحت المدخل القديم "دَنَس". وعلى رغم أن النساء من الرحالة كنّ قادرات على زيارة الحريم، إلا أن ردود أفعالهن كانت معقدة وانتقادية الى أبعد حدّ في أكثر الأحيان. فتلك الزيارات غالباً ما كانت قصيرة جداً، وغالباً ما اتسمت بسوء فهم متبادل وأحاديث متكلفة من خلال مترجم. ونادراً ما خطر للرحالة الغربيين من النساء أن يفكّرن أي تفكير عميق بالأثر الذي يتركه حضورهن على ما كان يجري. بل هن كنَّ يعتبرن أن لديهن من المعلومات المسبقة ما يكفي لرفض الزيارة أصلاً. في عام 1891، أشارت إ.ه.ميتشل الى أنها كانت لتقوم بالزيارة لو ان ذلك يساعد "اخواتنا المسكينات" على النجاة من أسْرِهنّ، أما الذهاب لرؤيتهن في حبسهن البغيض فهو أمر أصعب من أن تحتمله "مسيحية". أما هارييت مارتينو، المناضلة الانكليزية من أجل حقوق النساء، فقد قامت بزيارة حريمين وعلّقت ببساطة انها لا تستطيع أن تفكر بوقتها هناك من دون أن ينقبض قلبها على نحو يفوق ما أصابها في مدارس الصم والبكم، أو المصحات العقلية، أو حتى السجون. وعلى أية حال، فإن الحقيقة كانت غير ذلك الى حد بعيد. فنساء الطبقة الوسطى والعليا في مصر، على سبيل المثال، كنا يكتبن المقالات ويصدرن الكتب التي تتداولها الأيدي في ضروب الحريم منذ أوائل ستينات القرن التاسع عشر. ومع حلول العقد الأخير من ذلك القرن، كانت الصحف النسائية صدرت أيضاً. وأطلقت مارغو بدران في كتابها "فتح البوابات" على هذه العقود اسم "مرحلة النسوية المستترة"، إذ لم تكن أصوات النساء مسموعة الى العالم الخارجي بسبب عزلة النساء والفصل بين الجنسين. غير ان قلة من الرحالة الغربيين لا بد من أن تكون تمكنت من سماع ما كان يجري أو من قراءة ما كان ينشر للنساء العربيات في القرن التاسع عشر من ضروب الكتابة الشعرية، والقصصية، والمقالات التي تتناول العلاقة بين الرجل والمرأة، والمعاجم التي تشتمل على تراجم لحياة وأعمال النساء وما إلى ذلك، بل إن كثيرات من نساء الطبقة الوسطى والعليا في مصر كُنَّ قد انخرطن في النضال ضد الاحتلال البريطاني واشتركن في التظاهرات عام 1919، وكفّت كثيرات منهن على إثر ذلك عن ارتداء الخمار. ووجدت ليلى أحمد في مقالتها "المركزية الإثنية الغربية وتصوراتها عن الحريم" ان مواقف النساء الأميركيات في ثمانينات القرن العشرين من الحريم لا تختلف عن مواقف أسلافهن من الرحالة الذين كانوا واثقين كل الثقة ان النساء المسلمات يعانين الاضطهاد كما لا تعانيه غيرهن من النساء، بينما يعترفن صراحة أنهن لا يعرفن شيئاً عن الاسلام أو عن مجتمعات الشرق الأوسط. وتناقش ليلى أحمد في هذه المقالة طريقتين في النظر الى الحريم، إذ "يمكن تعريف الحريم بأنه ضرب من النظام الذي يتيح للرجال مدخلاً جنسياً الى أكثر من امرأة واحدة. كما يمكن تعريفه أيضاً، وعلى نحو أدق، بأنه ضرب من النظام الذي تتشارك فيه قريبات رجل ما - زوجاته، وأخواته وأمه، وعماته، وبناته - قسطاً كبيراً من وقتهن ومكان عيشهن، ويوفر للنساء، علاوة على ذلك، مدخلاً سهلاً ومتكرراً الى نساء أخريات في مجتمعهن، وذلك بصورة أفقية وقطرية وعمودية". فضّل "الغرب" التعريف الأول على الدوام، إلا في حالات نادرة، كحال وليام بولك ووليام مازر وهما قاما برحلة في الصحراء العربية عام 1972 وأسفرت عن كتابهما "رحلة الى الماضي العربي"، وفيه يرد القول "أما بقية المنزل فهو الحرم. وللأسف فإنه ليس من الحرم الذي تصوره أشرطة هوليوود في شيء، إذ هو ببساطة، المكان المخصص للعائلة، غرف نوم وحمامات ومطبخ".