"بن محفوظ": مبادرة لتأسيس مدن غذائية ذكية بالمناطق الحدودية بين السعودية واليمن    رينارد يستبعد عبدالله الخيبري مع معسكر الأخضر قبل «خليجي 26»    جهود العلماء السعوديين في خدمة اللغة العربية.. ندوة في «كتاب جدة»    "الاتحاد" يصل إلى صلالة .. تحضيراً لمواجهة النصر العماني    بمشاركة أكثر من 1300 متسابق .. "هيا نمشي معاً 2024" على كورنيش الراكة بالخبر    ضبط (4) مواطنين اتخذوا منزلًا في الخرج وكرًا لترويج الحشيش والإمفيتامين    «كاسبرسكي» تتوقع نمواً سنوياً متوسطاً بنسبة 23% في السعودية بفضل خبرتها المحلية على مدى 17 عاماً    تنفيذ حكم القتل تعزيراً في عدد من الجناة بمنطقة الجوف    825 ألف جنيه استرليني من وولفرهامبتون إلى الشباب    الهلال الأحمر السعودي بالمنطقة الشرقية يكرم المتطوعين المتميزين في عام 2024م    أنشيلوتي: أظهرنا شخصية ريال مدريد أمام باتشوكا في نهائي كأس القارات    ركن متحف الشاعري يجذب الزوار في مهرجان الحنيذ الأول بمحايل    الشرع: سورية منهكة ولا تمثل تهديداً لأحد    كأس العالم 2034.. السعودية ترسم مستقبل الرياضة والشراكات العالمية    العالمي يزيد الراجحي يسعى لتحقيق لقب بطولة السعودية تويوتا في رالي جدة للمرة الرابعة    فيصل بن مشعل يستقبل العميد العبداللطيف بمناسبة تكليفه مديرا لمرور القصيم    بلدية الشماسية تنفذ تجربة "الاسفلت البارد" في طرق المحافظة    استشهاد أسير فلسطيني داخل سجون الاحتلال نتيجة التعذيب    رئيس مجلس الشورى يلتقي رئيس مجلس الشيوخ الباكستاني    آل سيف تدفئ شتاء أدبي جازان ب«رسائل متأخرة»    محافظ الطائف يلتقي رئيس وأعضاء جمعية ساعد للبحث والإنقاذ    أمير القصيم يرعى ورشة عمل إطلاق التقرير الطوعي لأهداف التنمية المستدامة في بريدة    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    وزير العدل يوجه بتدشين مقر دوائر دعاوى الأخطاء المهنية الصحية بالمحكمة العامة بالرياض    استشارية نمو وسلوك: الدليل الإرشادي "الحياة مهارة" يعزز السلامة والصلابة النفسية للأطفال    الذهب يتعافى من أدنى مستوى في شهر بعد قلق تباطؤ خفض الفائدة في 2025    وزارة الداخلية تحتفي بيوم الشرطة العربية بعرض عسكري في مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل    «زِد» الملقبة "شوبيفاي العالم العربي" تكشف عن رؤية 'التجارة المتكاملة" المبتكرة لتمكين قطاع التجزئة في حدث إطلاق منتجاتها السنوي 'ريبل 2024'    «التجارة» تضبط 6 أطنان مواد غذائية منتهية الصلاحية بمستودع في جدة    محافظ بدر الجنوب يستقبل مدير عام فرع الأمر بالمعروف    مركز صحي نشيان بقطاع النماص الصحي يُنفّذ "التوعية بداء السكري"    «الإحصاء»: 97.4 % من سكان المملكة قيموا حالتهم الصحية بشكل جيد وأعلى    المياه الوطنية توضح لعملائها مزايا وآلية توثيق عدادات المياه    صحة الحديث وحدها لا تكفي!    "عِلم" تختم مشاركتها في مؤتمر "سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية"    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة    هل يعيد ملتقى ImpaQ تعريف مفهوم المؤثرين كقوة دافعة للتغيير ؟    نور الرياض يستقطب أكثر من ثلاثة ملايين زائر    أنشطة ترفيهية    شتاء طنطورة.. أجواء تنبض بالحياة    الأهلي يستعيد كيسيه أمام الشباب    وزير الدفاع يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الأسترالي    التويجري: طورنا منظومتنا التشريعية في ضوء مبادئنا وأولياتنا الوطنية    عريان.. من تغطّى بإيران    مطعم يطبخ البرغر بنفس الزيت منذ 100عام    5 أطعمة تمنع تراكم الحديد في الدماغ    آمال جديدة لعلاج مرض الروماتيزم بمؤتمر طبي    بغض النظر عن تنظيم كأس العالم!    الإقليم بعد سوريا.. سمك لبن تمر هندي!    مركبة ال (72) عامًا بجناح حرس الحدود في (واحة الأمن) .. أول دورية برية ساحلية    ضغوط الحياة.. عدو خفي أم فرصة للتحوّل؟    هل تنجح سوريا في مواجهة التحديات الهائلة    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان "الحفاظ على مقدرات الوطن والمرافق العامة من أهم عوامل تعزيز اللحمة الوطنية"    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    جمعية رتل بنجران تطلق التصفيات الاولية لجائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز    الأمير تركي الفيصل يفتتح مبنى كلية الطب بجامعة الفيصل بتكلفة 160 مليون ريال    محافظ محايل يلتقي مدير المرور الجديد    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقاءات أجناس في الشرق الأوسط : انكليز وفرنسيون وعرب
نشر في الحياة يوم 13 - 09 - 2000

يبدأ ديريك هوبوود كتابه عن "اللقاءات الجنسية" بفصل يستعرض الخلفية التاريخية التي أدت الى تنميط صورة المسلمين عموماً والعرب خصوصاً لدى الأوروبيين، فيرجع بها الى العصور الوسطى حين كان الأوروبيون يعيشون في خوف من مد الفتوح العربية التي وصلت الى اسبانيا وسيطرت على شبه الجزيرة الإيبيرية. كان ذلك هو الوقت الذي بدأت فيه النظرة الى الإسلام باعتباره ديناً قائماً على كتابات بعض رجال الدين، وتصاعدت عملية التنميط هذه وترسخت في المخيلة الشعبية في ظل الصراع الدموي مع العرب خلال الحملات الصليبية التي استمرت قرابة 200 سنة ثم تنامت الامبراطورية التركية المسلمة التي قضت على بقايا بيزنطة وفتحت القسطنطينية عام 1453م متوغلة في أراضي أوروبا الشرقية. فلا يأتي القرن الثامن عشر إلا وتكون صورة الشرق قد ارتبطت في الذهن الأوروبي بالإباحية الجنسية والغلمة لدى الرجال والنساء على السواء، وهي صورة غذتها الأفكار عن عن الحريم التركي، وحجاب المرأة الذي يحرر السلوك أكثر مما يقيده، والحمامات التركية، والمناخ الحار الذي اعتبر عنصراً مساعداً على الشبقية. ثم جاءت ترجمة "ألف ليلة وليلة" في أواخر القرن الثامن عشر الى الفرنسية أولاً فرسخت تلك الصور في الوجدان الأوروبي ووسعت من انتشارها. ولم يلبث أن جاء الرومانسيون في القرن التاسع عشر فاتخذوا من الشرق قناعاً لطرح شطحاتهم الشبقية المكبوتة كما فعل ويليام بيكفورد الإنكليزي في روايته "تاريخ الخليفة الواثق".
ويواصل هوبوود في الفصل الثاني من الكتاب استقراء صورة "الشرق الأوسط في الوجدان الأوروبي". ويأتي غزو نابليون لمصر والشام في آخر القرن الثامن عشر تتويجاً عسكرياً لاهتمام متنامٍ بالشرق في أوروبا، كما يأتي تجديداً للمجابهة العسكرية بين الشرق العربي المسلم وأوروبا. وتسببت الحملة الفرنسية بين 1897 و1801 وكتاب "وصف مصر" الشامل الذي وضعه فريق العلماء المصاحب لها في زيادة الشغف بالشرق الإسلامي ليس فقط على الصعيد السياسي والعسكري وإنما أيضاً في المخيلة الشعبية، وتوالت الكتابات الرومانسية من شعر وقصة وأدب رحلات ويوميات في ألمانيا وإنكلترا وفرنسا، والتي كان بعضها من وحي القراءات والخيال الصرف لكتّاب مثل غوته وفيكتور هوغو لم يزوروا الشرق إطلاقاً، وبعضها الآخر لكتّاب ارتحلوا في بعض البلاد العربية مثل شاتوبريان ولامارتين وفلوبير الفرنسيين وإدوارد لين الانكليزي. والصورة العامة المشتركة بين هؤلاء الكتّاب وأعمالهم هي أن الشرق المصوّر فيها لا وجود موضوعياً له وإنما هو نتاج خيالهم وتصوراتهم المسبقة عن الإسلام والعرب المتراكمة من القرون السابقة. ولا يأتي هوبوود بجديد في هذين الفصلين وإنما يعيد طرح مقولات إدوارد سعيد الشهيرة في الاستشراق. إلا أن ثمة محاولة للفت النظر الى بعض محاولات الإنصاف تجاه الإسلام كما هي الحال في عبارة للرحالة الفرنسي جيرار دي نرفال يرفض فيها دعاوى الشهوانية التي نسبها كتّاب القرن الثامن عشر الى المسلمين. ويقتبس هوبوود هذه العبارة ويشير الى تجاهل ادوارد سعيد لهذا العنصر في كتابه "الاستشراق". على أن هذه جزئية بسيطة لا تغيّر شيئاً من الصورة العامة التي يطرحها سعيد.
ويتمحور الكتاب حول أطروحة أساسية هي تأثير المفاهيم العنصرية والجنسية المسبقة عن الشرق المسلم في بزوع الكولونيالية، ففكرة أهل العصر الفيكتوري في انكلترا عن العرب تتلخص في كونهم جنساً أدنى، كسولين، شهوانيين ومطبوعين على العنف، ولذلك حق عليهم الاستعمار الأوروبي لأنهم محتاجون لمن ينقل الحضارة إليهم. ويحرص هوبوود على التأكيد على مغزى الصور المجازية الواردة في الكتابات الأوروبية آنذاك والتي تلبس الشرق لباس الأنثى السلبية المهيأة للخضوع للغرب المذكّر، ويعطي مثالاً جغرافياً من بعض الكتابات الفرنسية السابقة على حفر قناة السويس، والتي تصور القناة امتداداً رمزياً لذكورة الغرب تخترق عبر البحر المتوسط أرض الشرق المؤنث في مصر. ويبرز المؤلف كيف أن خيالات القرون السابقة التي ذهب بها الأوروبيون المستعمرون الى البلاد العربية سرعان ما تبددت على أرض واقع مخالف تماماً.
ويركز الفصل الرابع من الكتاب على التجربة الفرنسية في الجزائر خصوصاً والشمال الافريقي العربي عموماً. ويبين أن أوهام فرنسي القرن التاسع عشر عن الشرق العربي المسلم لم تكن تختلف في شيء أساسي عن أفكار معاصريهم من إنكليز الحقبة الفكتورية وأن الذرائع العنصرية وأوهام "الرسالة التحضيرية" - بمعنى الواجب الأخلاقي الواقع على الرجل الأبيض في حمل الحضارة الى تلك البقاع الهمجية - كانت واحدة لدى الفريقين على ما كان بينهما من عداوة وتنافس، وأن هذه "الرسالة" لم تلبث أن انقلبت الى ممارسات وحشية من قبل الفاتحين الفرنسيين الذين أزعجهم ألا يجدوا الجزائريين مرحبين كما يجب بالخضوع لهم وتلقي "التمدين" على أيديهم. ويبرز هوبوود هنا كما في بقية الكتاب المجازات الجنسية في الخطاب الفرنسي التي تصور الجزائر أنثى متلقية لفعل الفتح الذكوري، ومن ذلك قول أحد الجنرالات إن "الفتح بدون استيطان فهو فعل عاقر وأن إخصاب الحقول هو في صدارة الضرورات الاستيطانية". ص 96 ويستعرض المؤلف عدداً من الكتّاب والرحالة الفرنسيين من القرنين التاسع عشر والعشرين من ثيوفيل غوتييه وموباسان وأيزابيللا ايبرهارت الى بيير لوتي وأندريه جيد، مبرزاً أنه على رغم ما بينهم من اختلافات فردية، رجالاً ونساء، وتبايناً في درجات العنصرية، وفي الميول الجنسية من مثلية وغيرية ومزدوجة، فإنهم جميعاً وجدوا في الجزائر وغيرها من بلاد الشرق الإسلامي مهرباً رومانسياً من قيود المجتمع الأوروبي التقليدي المحافظ، ومجالاً لاستباحة انماط من السلوك ما كانت لتكون ممكنة في فرنسا، ولاكتشاف الذات واستظهار تناقضاتها الجمع بين كل من الصوفية والحسية المنفلتة مثلاً في حال ايبرهارت في غير خوف من العواقب.
ومن هذا السياق ينحدر الفصل الخامس من ا لكتاب الذي يسميه المؤلف "مؤسسات أوروبية وشرق أوسطية". أما المؤسسات المعنية فهي البغاء، والرقص الشرقي، والحريم، والحمامات، والتسرِّي بالرقيق الأبيض، وكلها مؤسسات اجتماعية متصلة بالجنس على نحو أو آخر، وكلها احتلت مكاناً بارزاً في كتابات الأوروبيين الذين زاروا الشرق، وأغلبها ساعد في ترسيخ صورة الشرق في الذهنية الأوروبية باعتباره مرتعاً للمتع المتدنية، وزاد من شيوع هذه الصورة دخول فن الرسم وفن الموسيقى انظر أوبرا موتسارت عن "الحريم" التي تصور امرأة اوروبية مأسورة في حريم باشا تركي إلى ساحة تجسيد الخيالات الأوروبية المحمومة عن الحياة الجنسية في الشرق.
ويؤكد هوبوود في الفصل السادس من كتابه، الذي يبحث "في موقف الأوروبيين من الرجال والنساء في الشرق الأوسط" على الازدواجية في مشاعر الأوروبيين تجاه الشرق التي اختلط فيها الانجذاب بالنفور، والرغبة بالاحتقار. ويرى أن الرحالة الأوروبي كان يأتي الى الشرق وفي ذهنه أن نساء المسلمين الشبقات جالسات هناك على أتم استعداد للاستجابة لغواية أول عابر أوروبي، إلا أن أملهن كان سرعان ما يخيب حين يكتشفون الفارق بين الوهم المتخيل والواقع المخالف. وأعطى الرحالة الأوروبيون، رجالاً ونساء، انفسهم حق التأمل في علاقات الجنسين بين المسلمين وخلص أغلبهم الى أن العرب لا يعرفون سوى الشهوة، وأن الحب والعلاقة بين الزوج والزوجة بصفتها صداقة ورفقة هي أمر لا وجود له لديهم، فالنساء منعزلات في الحريم، والرجل لا يزور زوجته إلا حين يريد نيلها. وثمة نساء أوروبيات سجلن إعجابهن بجمال الرجال العرب، إلا أن الاتجاه السائد كان الترفع عن إقامة علاقات بين النساء الغربيات والوطنيين.
وتمضي بقية فصول الكتاب على هذا النحو في استقصاء جميع جوانب العلاقات الجنسية بين الشرق العربي والغرب الأوروبي من دون تقديم طروحات ايديولوجية جديدة لتفسيرها، وإنما يندرج كل شيء داخل الأطر التنميطية السابقة والتي أسهب المؤلف في شرحها في الفصول السابقة. وهكذا يستعرض الفصل السابع "نمطيّات السلوك الأوروبي" أموراً من قبيل لباس الأوروبيين في الشرق ومحاولات بعضهم ارتداء الزي العربي مثل لورانس تماهياً مع العرب أو هروباً من ذواتهم. كما يعرض لموضوع تأثير المدارس الإنكليزية الداخلية الخاصة والتي نشأ فيها القسم الأكبر من كبار ضباط الإمبراطورية وقادتها المدنيين والتي كانت تتسم بنظام صارم الى جانب الحرمان من النشأة الأسرية. وكان من نتيجة هذا في رأي هوبوود أن ينشأ هؤلاء على حس عال بواجبهم في خدمة الامبراطورية من ناحية، إلا أن نفوسهم كانت مليئة بالعقد ومركبات النقص التي حملوها معهم الى أقاليم الإمبراطورية وانعكست في إدارتهم لها ومعاملتهم لرعاياها. وفي هذا الفصل يتعرض الكاتب أيضاً لموضوع الممارسات الجنسية المثلية التي وجد الأوروبيون مجالاً للانغماس فيها في المستعمرات من دون رقيب حيث كانت ما تزال تعتبر رذيلة مجرّمة في أوروبا، ويذكر قائمة تطول من الكتّاب والرحالة أمثال اوسكار وايلد، وأندريه جيد، وفورستر، وسومرست موم. والمفارقة أن المصادر الأوروبية تشير - على عادة الذات في إلصاق رذائلها بالآخر - الى هذه الممارسات بوصف "الرذيلة التركية".
ومن هنا ينتقل هوبوود في الفصل الثامن من كتابه الى موضوع التزاوج بين العرب والأوروبيين، وهو أمر لم يكن وارداً بصفة عامة، فالسادة الأوروبيون لم يكونوا يختلطون بمحكوميهم اجتماعياً، ولا جنسياً من منطلق علاقات التكافؤ، ومن تجرأ على اختراق هذا المحظور من النساء الأوروبيات خاصة كان مصيره الاستهجان والنبذ. أما الفصل التاسع فمخصص لاستعراض حيوات بعض رجال الامبراطورية ونسائها ممن كان لهم دور في الشرق الأوسط. وتشمل القائمة رجالاً من قبيل غوردون باشا، ولورد كتشنر، والفيلد مارشال مونتغومري، وتي.إي.لورانس، وعبدالله فيلبي، وغلوب باشا، ونساء مثل غرترود بل، وفريا ستارك، الخ. ويرى الكاتب في لورنس على وجه الخصوص تجسيداً جيداً لموضوع كتابه المحوري، أي أن الجنس والميول الجنسية لعبت دوراً أساسياً في العلاقة بين البريطانيين والفرنسيين من ناحية والعرب من ناحية أخرى، فحياة لورانس كما يرى هوبوود كانت ترزح تحت ألوان من الكبت الجنسي الناتج عن نشأته، فهو كان ابناً غير شرعي لأب ايرلندي من الطبقة الأرستقراطية ولأم كانت هي نفسها ابنة غير شرعية. ويبدو أن هذا الأمر قد ولّد عنده شعوراً باحتقار الذات، ويبدو أيضاً أن أمه كانت ذات طبيعة مسيطرة قاسية، وقد لامها هو في ما بعد لإفساد ميوله الجنسية نحو النساء. ويرى هوبوود أن إحساس لورانس بعدم الأمان واحتقاره لذاته كانا وراء سعيه الى الخلاص بأعمال البطولة في العالم العربي.
وفي الفصل العاشر والأخير "العرب في أوروبا"، يعكس هوبوود المنظور فيتناول من باب المقارنة السريعة نظرة العرب الى النساء الأوروبيات ويستعرض بعض الأعمال الروائية العربية التي قاربت العلاقة بين العرب وأوروبا من منظور جنسي، مثل "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، و"أديب" لطه حسين، و"الحي اللاتيني" لسهيل ادريس، و"موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح، و"أصوات" لسليمان فياض، والقائمة تطول. ويذهب هوبوود الى أن العرب أيضاً لديهم أفكار مسبقة ومتحيزة ضد الأوروبيين من ناحية الجنس، وأنهم يظنون المرأة الأوروبية من دون فضيلة أو وازع أخلاقي في سلوكها الجنسي، ويظنون الأوروبيين عامة مستسلمين لمتع الحواس، منحلين من كل كابح في هذا الشأن.
وحان الآن الوقت، بعد هذا الاستعراض السريع للكتاب، أن نلقي عليه نظرة شمولية وأن نتأمل في بعض القضايا التي يثيرها. ويحاول المؤلف، وهو مستعرب ومؤرخ مختص في شؤون العالم العربي المعاصر وأستاذ في جامعة اكسفورد، أن يقارب موضوع اللقاء - الصدام الحضاري بين أوروبا والعالم العربي عبر القرون من منظور جديد، هو منظور العلاقات الجنسية بين أبناء الحضارتين، والجدة هنا ليس معناها أن هذا المدخل للدراسة لم يستخدم من قبل، فقائمة مراجع الكتاب تحوي العديد من المقاربات الجزئية المشابهة، وإنما معنى الجدة في هذا السياق أن هوبوود يحاول لمّ أشتات الموضوع والتركيز عليه تركيزاً شديداً بين دفتي كتاب واحد. ويصعب تصنيف هذه الدراسة: هل هي دراسة تاريخية أم دراسة ثقافية أنثروبولوجية؟ أم هي دراسة فرويدية ترد ظاهرة الكولونيالية بتمامها وكمالها الى النوازع الجنسية؟ لا شك أن الدراسة فيها شيء من هذه العناصر جميعاً، إلا أنني كنت كلما توغلت فيها زاد لدي الإحساس وتعاظمت أمامي الشواهد على أنها في المحك الأخير مقاربة فرويدية للتاريخ الكولونيالي الأوروبي - العربي.
لا أظن أن المؤلف يريد أن يقول إن الاستعمار كان فعلاً جنسياً، فهذا فرض خارج على العقل، فالاستعمار كان صداماً بين أديان وثقافات وأنماط عيش، وكان سلباً لأرض وموارد بشرية وطبيعية كما كان تعزيزاً للذات الأوروبية ومداً لهيمنتها على بقاع المعمورة وثرواتها. لا أظن أن المؤلف يريد أن يُرجع هذا كله الى نوازع الجنس، فهذا تتفيهٌ للصراع لا يمكن أن يخطر ببال مؤرخ، إلا أن التركيز المجهري الشديد على هذا المنظور الجنسي على امتداد ثلاثمئة صفحة يكاد أن يخلق هذا الانطباع. وتجعلنا هذه المقاربة نسأل أسئلة ذات صلة: ماذا عن الصدامات بين الحضارات الأخرى عبر التاريخ؟ وماذا عن الصدامات والحروب بين عناصر الحضارة الأوروبية ذاتها في التاريخ الحديث؟ هل هذه كلها كانت تحركها نوازع فرويدية جنسية؟ أم أن هذا حكر على اللقاء الأوروبي - العربي؟
ثم كيف نفسر التماهي شبه التام بين أفكار الأوروبيين المستعمرين بكسر الميم والعرب المستعمرين بفتح الميم في ما يخص النظرة الى الآخر؟ فالشهوانية أو الانفلات الجنسي الذي وسم أفكار الأوروبيين عن العرب منذ القرون الوسطى والغرام الأوروبي الرومانسي بالصحراء المنبسطة يقابله الإعجاب العربي بالطبيعة الخضراء ذات التضاريس في أوروبا، كما أن هروب أوروبيين في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الى المستعمرات العربية لإطلاق العنان لكبتهم الجنسي بعيداً عن مجتمعاتهم المحافظة حيث الرقابة المعنوية وسطوة الأعراف يقابله اليوم الهروب العربي العابر والمقيم نحو أوروبا وأميركا، حيث لا يُسأل المرء عن سلوكه الجنسي. ولا يفوتنا أن نذكر أنه إذا كان كتّاب أوروبا الكولونيالون قد أنثوا في خيالهم الشرق وذكّروا أوروبا، فإن كتّاب العرب قد أنثوا أوروبا وذكّروا الشرق، وصوروا التلاقح الثقافي بين الحضارتين في صورة الشرق فيها فاعل وأوروبا مفعول بها. وأعتقد أن ما يستخلص هنا من هذه الحقائق هو أمور تتعلق بصورة الذات والآخر في ظل سيادة القيم الذكورية في الحضارات أكثر مما تتعلق بعلاقة الذات بالآخر في حد ذاتها. إننا نتحدث عن طبيعة التعبير الأدبي أو الفكري وعن طبيعة الذهنية القائمة خلفه في ظل ثقافة ذكورية ترى قيمة موجبة في تصوّر نفسها ذكراً، وتعتقد أنها تعزو الى الآخر قيمة سلبية بتصوره أو تصويره أنثى، وهي رؤية تنبع من رسوخ مفاهيم الخضوع والاستسلام والتبعية والضعف والانصياع الى آخر هذه المترادفات بصفتها خواصاً أنثوية، على حين يرسخ في وجدان المجتمع الذكوري أن مفاهيم القوة والسيطرة والقيادة والفاعلية والتأمّر هي خواص ذكورية. كل ثقافة إذاً على الأرض ترى ذاتها ذكراً وترى الآخر، خاصة إن كانت على صدام معه، أنثى، وسيبقى الأمر كذلك حتى تتغير مفاهيم الذكورة والأنوثة في الوجدان البشري.
وفي النهاية، مهما كان ما يثيره كتّاب هوبوود من تساؤلات واختلافات، فالذي لا شك فيه أنه كتاب يتسم بالحياد في تناول موضوعه وأنه باعتباره كتاباً من وضع مؤرخ بريطاني ينطوي على قدر كبير من نقد الذات أوروبا في تاريخها البعيد كما القريب، والرغبة في فهم الآخر العرب. ولعل أفضل ما نختتم به هذه المراجعة عبارة للمؤرخ اللبناني الأصل ألبرت حوراني، والذي تتلمذ عليه هوبوود في اكسفورد إبان دراسته للدكتواره. يقول حوراني: "إننا نستطيع أن نعرف الآخرين عن طريق الصبر، والوضوح، والحب، وبأن نقبل في الختام لغز اختلاف الآخر". ويذهب هوبوود شوطاً أبعد على سبيل التصالح حين يضيف: "وبأن نكون على استعداد للتضحية بجزء من الذات".
Derek Hopwood, sexual encounters in the middle east: the english, the french and the arabs, ithaca press, reading, U.K. 1999.
* كاتب مصري، استاذ الأدب العربي في جامعة اكستر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.