لا شك ان خروج المرأة الى سوق العمل ثورة اجتماعية في حياتنا المعاصرة. فقد جعل المرأة عنصراً فاعلاً ومؤثراً في اقتصاد بلدها مما يعني التأثير الواضح على دورها وشخصيتها داخل المنزل وخارجه. ولعلّ تزايد الوعي لدى المرأة العربية في شكل خاص جعلها تدرك أهمية دورها كامرأة عاملة بدلاً من دورها المحدود كربة منزل، الأمر الذي أدى الى زيادة حدة صراعها مع الرجال في تحديد المسؤوليات داخل الأسرة، اضافة الى الصراع والمنافسة بينهما على فرص العمل بسبب محدوديتها احياناً. وعلى رغم كل ذلك، ومع كل الصعوبات والمتاعب التي تواجهها المرأة نراها أحياناً تخلق فرصة عملها بنفسها بالاعتماد على مهاراتها اليدوية والعودة الى الأعمال والحرف اليدوية، التي تتطلب جهداً كبيراً وبراعة في الصنع، وتستغرق وقتاً طويلاً في زمن التقنيات والأنظمة الرقمية. يتجلى كل ذلك في شكل واضح لدى المرأة التونسية التي كثيراً ما نجدها تخطو خطوات جريئة من اجل الالتحاق بالعصر كما تسعى الى ان تكون ذات فاعلية وفائدة. وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة التقينا بعض السيدات اللواتي يطلق عليهن لقب "الحرفيات" أثناء وجودهن في تجمع نسوي كبير لاقامة معرض لمنتوجاتهن في قصر المعارض، ضاحية الكرم ضمن احتفالات تونس باليوم العالمي للمرأة تحت شعار "المرأة والقرن الواحد والعشرون... مسار يتدعم" وأجرينا الحديث أولاً مع السيدة فيروز بوعوينة وهي حرفية متخصصة في صناعة الدمى وتزويق الدمى البلاستيكية. تشتري الدمية من معمل مختص بصناعتها وتقوم بتصميم الزي الذي يبرز "شخصية" الدمية ثم تطلق عليها اسماً خاصاً بها، وهي تسمي مجموعتها من الدمى ب "عرائس فيروز". وفي هذا السياق حدثتنا السيدة فيروز قائلة: "الحقيقة انني اختار بعض شخصيات الدمى من قصص الأطفال مثل "سندريلا" و"ذات القبعة الحمراء" وحتى من الشخصيات الكرتونية مثل "سنفورة الجميلة" أو من الشخصيات الشعبية التونسية المعروفة منها "جازية الهلالية" تلك المرأة التي احبت ابن عمها واشتهرت قصة حبهما تلك كما اشتهرت حكاية قيس وليلى. ولذلك فإنني اسميها ليلى التونسية. وكذلك اختار لعرائسي من الزي التقليدي التونسي الخاص بكل ولاية واسمي الدمية باسم ولايتها فعندي "فتاة الحمامات" و"بنت المهدية" و"عروس مدنين"، وغيرها... كانت السيدة فيروز تبدو انها فخورة وهي تقدم لنا كل دمية مع حكايتها الخاصة. ولا أدري لماذا ذكرتني بالحكواتي أيام زمان. سألتها عن أحب الدمى التي عملتها الى قلبها فأسرعت وأحضرت لي دمية ترتدي زي الرجال في منطقة تدعى تطاوين - في الجنوب التونسي - وتركب حصاناً، وقالت باعتزاز: هذه العروسة أدعوها أمي. وقبل ان أسألها: وكيف ذلك...؟ أضافت قائلة: "أمي مناضلة تونسية ولها تاريخ مشرف في مقاومة الاستعمار. اعتقلها سنتين الفرنسيون بسبب مواقفها النضالية قضت منها ثمانية أشهر منفية في الصحراء، وتحديداً في ولاية تطاوين. وعندما عرف بوجودها أهالي المنطقة من المناضلين ضد الاستعمار أرسلوا اليها ملابس الرجال في الصحراء كي تحميها من قسوة الرمال وحرّ الصحراء أثناء تنقلها من سجن الى آخر. وما زالت أمي تحتفظ بهذا الزي حتى يومنا هذا. وقد جسدتها في تلك الدمية كي أحكي قصتها لمن يطلب شراءها كي تبقى عالقة في الاذهان". ثم واصلت كلامها: "من عادتي ان أحكي حكاية كل دمية قبل ان استلم ثمنها. وأحياناً أحكي قصة الدمية اذا كان الزبون طفلاً حتى وان لم يشتر أي شيء.لذا فأنت تجدين الأطفال يتجمعون حولي منصتين لما أقول وهذا يسعدني كثيراً. هل تقصدين ان زبائنك من الكبار أيضا؟ - بل الكثير منهم من كبار السن ممن يحبون الحصول على نموذج يذكرهم بالزي التقليدي لمدينتهم أو لأية مدينة تونسية يعجبهم زيها التقليدي. ألا تجدين صعوبة في الخياطة بهذه القياسات الصغيرة وأنت قلت انك درست فن الخياطة والتفصيل بقصد الخياطة للنساء وليس للدمى؟ - انا أهوى تصميم الأزياء والخياطة. وبدأت عملي بالخياطة وللنساء تحديداً ولكني اكتشفت ان التعامل مع النساء في هذا المجال متعب جداً. ولن تمنحني الزبونة فرصة الاحساس بالارتياح لأنها لم ولن ترضى عن عملي مهما كان دقيقاً. لذلك فضلت التعامل مع الدمى فهي لا تتكلم. وتقديراً مني لصمتها هذا فأنا أبذل قصارى جهدي كي تكون في أجمل حلة وما أنجزه يجعلني أعيش متعة لا حدود لها. ماذا عن أسرار المهنة ولمن ستعطينها؟ - لكل عمل أسراره وأنا لا يمكن لي ان أكشف سر مهنتي لأحد. ولحظة أقرر ان أعطيه فلن يحصل ذلك الا لمن أشعر انه قادر على أن يتقن هذه الصنعة وله من الصبر وسعة البال ما يكفي. ولا أخفيك انني أخشى ان تسرق أفكاري ولا أعرف حقاً كيف احميها فبعض التصاميم يمكن تقليدها بمجرد تفحصها قليلاً. لكن عزائي انني لا أعتقد ان هناك من يمتلك الدقة التي أمتلكها والصبر الذي أمتلكه. وماذا بعد كل هذا؟ - أحلم بمصنع خاص لي أصنع فيه الدمى بالشكل وبالزي الذي احب تنفيذه بطريقتي الخاصة. وأحلم بدمية تونسية منافسة لدمية "باربي" العالمية الشهيرة. وسأجتهد لأصنع يوماً ما "باربي" التونسية. أخيراً أتمنى ان أتمكن من ترويج "عرائس فيروز" داخل تونس وخارجها. أما السيدة مريم حفصاوي فهي حرفية في الغزل والنسيج، وهي امرأة من الريف التونسي منذ ان فتحت عينيها على الدنيا وجدت أمها تجمع الصوف وتغزله ثم تنسجه لتصنع منه الأغطية والعباءة التونسية البرنوص. لم تكن تحب هذا العمل لكنها مارسته كمهنة فأكملت على منوال امها لكنها عشقت هذه الصنعة في ما بعد فأخذت تبتكر وتبدع لوحات جميلة من الصوف الأبيض ومنقوشاً عليها بألوان الصوف الطبيعي من اللون البيج والبني. لماذا كان هذا التعب وفي امكانك الاستعانة بالآلات في صناعة بعض مما تنتجين؟ - لن أترك صنعة أجدادي ولن أبدلها بأي شيء. فأنا أعمل كل شيء بيدي. أغزل وأنسج وأخيط، وكل هذا أقوم به يدوياً. وما زال هناك من يقدر قيمة ما أصنع بخاصة وأنا أصنع أشياء اعتقد انها مميزة. فمثلاً أنظري الى قطعة النسيج هذه أنها رقيقة جداً بيضاء اللون ومنقوش عليها بالصوف الأبيض. ايضاً - هذه ستارة صنعتها بيدي وهناك من طلب مني ان أصنع له أكثر من واحدة على رغم وجود أقمشة الستائر بكل الاشكال والألوان: - لمن ستمنحين سر مهنتك؟ - لابنتي مليكة، فهي الوحيدة من بناتي الخمس التي عشقت هذه الحرفة وهي تتقنها جيداً وتضيف اليها الكثير من أفكارها. انها تحب عملها لدرجة انها أحياناً ترفض ان تبيع لمن لا يفهم معنى القطعة التي تصنعها، وهي تضع أسعاراً لكل لوحة تعملها وترفض ان تتنازل عنها، لا حباً بالنقود ولكن احتراماً لجهدها ولقيمة ما تصنعه. ماذا عن المستقبل؟ - سأبقى احافظ على حرفة اجدادي. والحمد لله ان هناك من سيكمل المسيرة بخاصة ان مليكة فنانة في داخلها وليست تاجرة وهذا يجعلني مطمئنة على هذه الحرفة. ولكن السيدة سميرة بن عثمان وهي حرفية في الرسم بالأصداف البحرية، لها حكاية أخرى. اذ كانت بدايتها مع هواية جمع الأصداف والقواقع البحرية أثناء تجوالها على الشواطئ التونسية. وكانت تلاحظ ان لكل مدينة ساحلية نوعاً من الأصداف لا يوجد في شاطئ مدينة اخرى. وعندما تجمعت لديها كمية كبيرة منها فكرت باستخدامها في صناعة بعض الحلي النسائية بروش أو ملاقط للشعر، ثم جربت استخدامها في ترصيع لوحات فنية، وبعد ذلك انتجت منها أعمالاً تشكيلية خاصة، ونجحت التجربة. هل هناك من ينافسك في هذا النوع من الرسم؟ - كلا، لا أعتقد. فأنا الوحيدة التي ترسم بالأصداف هنا. ولم اسمع عن أحد غيري. وأنا مسؤولة عن كلامي هذا... وحتى لو وجد من ينافسني فلا يمكن ان يعمل ما أعمله أنا. ما هي اسرار مهنتك؟ وهل تعلمينها لغيرك؟ - لا توجد أية أسرار. فكل شيء واضح. وأنا مستعدة لأن أعلمها لمن يرغب بذلك. وأنا لا أخشى المنافسة، فلكل منا لمسته وبصمته المميزة. الشاطئ التونسي ملك الجميع وأي شخص في امكانه ان يجمع الأصداف اذا أحب. لكن تبقى المسألة في كيفية توظيفها وتنسيقها. هذا هو المهم. فخلق الفكرة ليس بالعمل الهين... وانه لأصعب شيء في عمل الفني. وما هي الآفاق التي تنتظرك؟ - التصدير الى خارج تونس. وأن أتوسع في عملي هذا وأن أكون مميزة ومشهورة في هذه الحرفة لدرجة ان تطلب أعمالي ولوحاتي من كل مكان في العالم. آخر السيدات اللواتي التقينا بهن في هذا المعرض الجميل كانت السيدة كاتيا سياري وهي حرفية في الرسم على الزجاج البلّور ويذكر ان كاتيا بلغارية المولد تونسية الجنسية حاصلة على شهادة التخصص في العلوم التربوية لكنها تهوى الرسم على الزجاج. تعلمته على يد استاذة بلغارية. ثم واصلت هوايتها حتى أصبحت في ما بعد مهنة لها فجعلت من احدى غرف شقتها ورشة لعملها هذا وهي تعلم صديقاتها الرسم من دون اي مقابل، فقط حباً بهذا النوع من الرسم. هل بصمتك تونسية أم بلغارية؟ - كل شيء تونسي، لكنه ممزوج بشيء من روح الأصل البلغاري الذي في داخلي. ولأنني احب التراث التونسي والأشكال التقليدية التونسية أجد ان الأشكال التي أرسمها ذات طابع تونسي، من دون قصد مني، لكني أشعر بأنها متقنة أكثر مما يرسمه الآخرون مع انها أحياناً تبدو وكأنها أشكال مكررة. كما اني أفكر أحياناً برغبة الزبائن. فأكثرهم، وبخاصة السياح الأجانب، يفضلون القطع ذات الطابع التونسي الأصيل. ماذا تختارين من أعمالك لتزيني بها بعض أركان منزلك؟ - لا شيء، لأني أعمل في شقتي. فكل شيء أمامي دائماً ولست في حاجة لأن أضع أي شيء كجزء من اكسسوار الغرفة. لكن كانت عندي قطعتان فنيتان أحببتهما كثيراً ورفضت بيعهما لأحد، وذات يوم أهديتهما لأصدقاء أحبهم جداً. هل تعانين من بعض الصعوبات في عملك؟ - كلا، لا شيء سوى صعوبة الحصول على قطع زجاجية بالشكل الذي أرغب فيه، لأن ما يوجد في الأسواق ليس غير أشكال زجاجية مكررة مما يجعل عملية الابداع تبدو ناقصة. هل لمهنتك أسرار ولمن تعطينها؟ - نعم هنالك بعض الأسرار. لكني لن أخفيها على من هي أو من هو مميز في الرسم. أي لمن أشعر انه مبدع وليس تلميذاً يحب ان يتعلم مهنة فقط. أعلّم من يرغب بذلك من دون مقابل حتى لو كان طالباً كسولاً... انني أبذل قصارى جهدي فأنا كما قلت لك سابقاً، "بيداغوجية". بماذا تحلمين؟ - أحلم بمصنع للزجاجيات أنفذ فيه أفكاري الكثيرة. لكن هذا يتطلب أموالاً لا أملكها الآن.