تندرج الجزائز كحالة ضمن الدول التي ما ان خرجت من مرحلة الاستعمار، حتى سقطت أسيرة الحكم الشمولي، ثم دخلت تحت مظلة المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، من دون أن تكون دولاً اشتراكية، ولا حتى يشارك في حكمها احزاب أو منظمات اشتراكية، لكن الحرب الباردة سمحت لقيادات تلك الدول بأن تلعب ادواراً اقليمية ودولية من دون النظر الى رصيدها في مجتمعها. وعلى رغم الشعارات التي سادت فيها عن التنمية والتصنيع والعدالة الاجتماعية، والنضال ضد "الصهيونية والامبريالية والاستعمار"، الا انها في نهاية الحرب الباردة وجدت نفسها في المعسكر المهزوم، وكان عليها ان تشارك في دفع فواتير الهزيمة، من دون ان يطرأ على بنيتها أي اصلاح "حقيقي"، كما فعلت اوروبا الشرقية مثلاً، وأسفر ذلك عن خراب داخلي، وعن تناقض اجتماعي حاد لا علاقة له بقيمة وتوزيع العمل، وانخفاض الاداء العام الى درجة الرثاثة والفساد المتجذر، والخضوع لديكتاتورية عسكرية ريفية أو عشائرية سافرة. وتبين ان الاقتصاد بكامله أسير صادرات المواد الخام وتصدير الايدي العاملة والقروض والمعونات. ما ذكرنا لا يعني ان الانتماء الى مجموعة التحرر الوطني هو اول البلاء، فقد كان مجرد مرحلة في الازمة، سبقتها وتبعتها مراحل اخرى. وحتى يمكن الاقتراب اكثر من جذور المشكلة، اجد انه من المفيد تقسيم المؤثرات بأنواعها كالتالي: - أزمة الجزائر مع التاريخ: قال فرحات عباس أول رئيس لحكومة الجزائر الموقتة التي اعلنت في ايلول - سبتمبر 1958: "... بحثتُ عن الامة الجزائرية في كل مكان. في التاريخ، وبين الاحياء والاموات في المقابر فلم اجدها، ولم يحدثني احد عن وطني بهذا الاسم، وليس في وسع أي انسان ان يقيم بناء على الرياح". وقال الشيخ عبدالحميد بن باديس أحد الزعماء الدينيين في مرحلة المقاومة: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب، من قال حاد عن اصله، أو قال مات، فقد كذب". يعبر القولان عن مشروعين سياسيين متناقضين يتضمنان تصورات متصادمة للثقافة والهوية، اولهما كان يطالب بالتحرر والمساواة داخل صيغة ما مع فرنسا، وكان يرى الاستفادة من المشتركات السياسية والثقافية والاقتصادية بعد مرحلة الاستعمار للالتحاق بأوروبا، وبالتالي كان تصوره للحكم ليبرالياً وعلمانياً، وثانيهما "مدرسة الشرق" كان يعمل على التحرير والاستقلال والانضمام الى الشرق، وتأسيس دولة الاستقلال على العروبة والاسلام، من دون ان يكون لديه برنامج واضح للحكم سوى تصور شمولي. وامتدت حرب الهوية تلك الى إعادة ترتيب التاريخ. لكن تاريخ الجزائر يفصح عن جدلية خاصة، فيرى البعض ان مملكة "نوميديا" تحت حكم "يوغورطا" قبل الميلاد بقرنين وقبل الاحتلال الروماني هي دليل الى وحدة الجزائر، لكن المؤكد ان هذه الوحدة تمزقت لمدة الفي عام بعد ذلك. وكانت الجزائر تحت الحكم العثماني عبارة عن أربع ولايات منفصلة، واصطبغت آنذاك بصبغة حكم آخر امبراطورية دينية في التاريخ والتي كانت اقرب الى الاقطاع العسكري. ودفعت الجزائر، كما بر الشام وفلسطين والعراق - والى حد ما مصر - ثمن حكم وانحلال وهزائم تلك الامبراطورية على هيئة فراغ سياسي وضعف اقتصادي وتمزق ثقافي وتخلف مجتمعي، وكان الاستعمار نتيجة طبيعية لفارق الجهد في هذا المجالات مع اوروبا الشريك الطبيعي في حوض المتوسط قلب العالم القديم. وعند الاحتلال الفرنسي لم يكن في الجزائر سوى التعليم الديني في الزوايا ونشاطات زراعية ورعوية وحرفية ضمن اقتصاد ريعي بدائي. وهنا لا بد من الاشارة الى جدلية اخرى اوسع في حوض المتوسط، إذ ان سياسات الابتعاد والاقتراب منه ذات تناسب طردي مع التخلف والتقدم، وعلى سبيل المثال كانت تجربة الدولة الحديثة الاولى في مصر بزعامة محمد علي، والدولة الحديثة الثانية 1919 - 1952 هي تجربة الاقتراب من حوض المتوسط، وكانت تجربة مصر بعد تموز يوليو 1952 هي الابتعاد عن حوض المتوسط، والنتائج معروفة. مثل هذا الأمر ينطبق على الجزائر ايضاً. ويلخص هيغل هذا المفهوم: "ان الشمال الافريقي هو اقرب الى ان يكون قطعة من ارض اوروبا عن اي مكان آخر فهو، وإن فصله عن اوروبا شريط ضيق من المياه، فإن ما يفصله عن افريقيا يتمثل في بحور جافة شاسعة يقصد الصحراء الكبرى". إن هذه العبارة وان كانت تحمل على نحو ما مفهوماً استعمارياً الا انها تعني مفهوماً متقدماً للبحر المتوسط. وحين يعني البحر، في الذهنية الاوروبية، الاستكشاف والتجارة والاتصال والاختلاط والموانئ والمدن، نجده في الذهنية الشرقية مجلبة للاساطير والتوجس، وربما كان ذلك هو السبب في ان امبراطوريات الشرق لم تقم موانئ، وكانت تتمد عبر البر، وكانت سماتها الاولى إقامة القلاع والحصون الداخلية، وكانت نهايتها تأتي من البحر. لم تكن الفرنكوفونية بادئ ذي بدء سلاحاً ثقافياً أو سياسياً فرنسياً موجهاً الى الخارج، بقدر ما كانت احد عوامل وحدة الامة الفرنسية المتعددة القوميات، البروتون والنورماند والالزاس واللورين والكورسيك وسكان غرب ايطاليا. وهكذا اصبحت حالة من حالات الامة/ اللغة، بالاضافة الى توحيدها داخل سوق واحد بالمعنى الرأسمالي. وكان حكام فرنسا قبل الثورة يصحبون معهم مترجمين عند التجوال في المقاطعات. بعدها حملت اللغة الفرنسية مضامين الثورة الفرنسية عن الحرية والاخاء والمساواة، وهكذا نشأ هاجس اللغة في فرنسا، وانتقلت تلك الاغراض الى مناطق المستعمرات، وهنا تحولت الفرنكوفونية الى سلاح حيوي عالمي. وخلال 132 سنة من التداخل السكاني والثقافي والتعليمي والاقتصادي بين فرنساوالجزائر حدث تغير ديموغرافي على الساحل الجزائري وفي منطقة السهول والهضاب القريبة من الساحل بعد تطوير عمليات نقل المياه وإنشاء الطرق والمدن والجسور والموانئ وإرساء العلاقات الرأسمالية، ما حوّل تلك المناطق الى بيئة بحر متوسطية أكثر منها بيئة شرقية، وهنا نشأ التفاوت بين الساحل والعمق الجزائري وبين المدينة والقرية. ولا بد من الانتباه الى ان اللغة الفرنسية في الجزائر حملت ايضا مضامين الحرية والاستقلال عن فرنسا. انتقلت المفاهيم القومية العربية الى الجزائر من منطقة بر الشام منذ بدايات القرن العشرين، والتي كانت بدورها صدى لبعث الروح القومية في وسط اوروبا، الى المشرق العربي، عبر الدراسة في جامعات اسطنبول والخدمة في الجيش التركي إبان نشاط "جمعية الاتحاد والترقي" وفرعها "تركيا الفتاة"، ومن هنا ايضاً حملت تلك المفاهيم جذورها الفاشية، وكانت جماعات من الجزائريين استقرت في دمشق، منهم الامير خالد، حفيد الامير عبدالقادر الجزائري. وثمة رافد آخر للفكر العروبي وهو المؤتمر القومي العربي في باريس 1913، وهكذا انتقلت فكرة القومية المؤسسة على اللغة والدين. وفي غياب حس حقيقي بالدولة والمؤسسات، ووقوفاً عند مرحلة العقل الديني ولا بد من التنويه هنا الى ان العقل الديني شيء مختلف عن الدين وعن المعتقد الايماني، انزلق الاطار القومي الى اطار الامة الدينية، خصوصاً مع شيوع افكار الافغاني ومحمد عبده مع ملاحظة اكتساب الفكرة مزاجاً عسكرياً عبر الفكر القومي، ومن بينها المبرر الايديولوجي للدولة العسكرية/ القومية في كتابات ميشال عفلق وساطع الحصري وشكيب ارسلان وعبدالله العلايلي. وهناك رافد ثالث توفر من خلال البعثات الطلابية الجزائرية الى القاهرة والى الازهر بالذات، وقد انضم معظمهم الى جماعة "الاخوان المسلمين"، وكان الراعي الاول لذلك الشيخ الفضيل الوركلاني، عضو جميعة كبار العلماء والاخوان المسلمين، ومن الغريب ان السفارة الفرنسية في القاهرة كانت تصرف مساعدات للملتحقين بالازهر فقط!!. والمؤثرات المصرية في جذور اشكالية التعريب تصل الى درجة الدور في مسار الازمة الجزائرية وهو ما نبينه هنا: بدأت الانقلابات العسكرية العربية بعد الاستقلال الوطني في سورية اولا، لكنها اكتسبت محفزاتها الحقيقية بعد انقلاب تموز يوليو 1952 في مصر، وبذلك بدأت عمليات استيلاء المجموعات العسكرية الريفية والعشائرية على الحكم في سورية والعراق واليمن والسودان وليبيا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية. وتشترك هذه العمليات في سمات عدة، اهمها الخطابات الثلاثة شبه الايديولوجية المعادية للديموقراطية وهي القومية والاشتراكية والدينية، والتي تستعملها سلطات اليوم من هذا النوع بحسب واقع الحال، وبذلك تساهم في وجود معارضة راديكالية اكثر شعبوية تنازعها خطابها الديني في ظل تغييب وحصار كامل لكل القوى السياسية الاخرى. وقد بدأت الرعاية الناصرية للحكم العسكري في الجزائر قبل الاستقلال، عندما نشبت سلسلة من الصراعات بين قيادات الثورة، واثيرت مشكلة غلبة أي من القيادتين: الداخل ام الخارج، ثم مشكلة السياسيين او الثوريين. ولم تكن الصراعات في حقيقتها سوى صراع بين السياسيين والعسكريين. وتضمنت الصراع بين انصار الحل الديموقراطي وانصار الديكتاتورية، ثم انحدر الصراع الى ما بين العسكريين في الداخل والخارج، وكانت القاهرة تساعد الطرف الاخير، الذي كان عبارة عن قيادة جيش التحرير في الخارج، وهم الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال ومعهم كل ابناء مدرسة الشرق، وهكذا ضاعت فرصة تأسيس الدولة. لم تكن تلك النتائج وليدة صراع سياسي سلمي، لكنها في اغلب المراحل اعتمدت التصفية الجسدية، فقد تم سجن احمد مزغنة والشاذلي المكي كانا ممثلين لحزب الشعب في سجون عبدالناصر، وقتل عميرة علاوه في مقر الحكومة الجزائرية الموقتة في غاردن سيتي في القاهرة، واغتيل عبان رمضان في ليبيا اثناء عودته من القاهرة الى الجزائر. وفي الصراع بين العسكريين في الداخل والخارج، قُتل من قيادات الداخل الكولونيلات عموري بعد محاكمة صورية في تونس واغتيل الكولونيلان مصطفى بولعيد وزيورت وشعباني قتل مع الاخير قائد الولاية الثالثة، كما خزّن عسكريو الخارج السلاح والامداد في ليبيا وتونس ومُنع عن الداخل لسنتين قبل الاستقلال لحسم المعركة على السلطة في ما بعد. وبعد الاستقلال أُتهمت الاجهزة الناصرية باغتيال خميستي في الجزائر، وتم ابعاد محمد بوضياف ومحمد خيضر وحسين ايت احمد وفرحات عباس ويوسف بن خده الى ان استتب الامر لديكتاتورية عسكرية سافرة. وبعدها تم نقل كل الخبرات الناصرية في الحزب الواحد، والمثابرة على صناعة مثقف رسمي وثقافة ايديولوجية معادية للحرية وتأسيس المنظمات السرية كطليعة الاشتراكيين في مصر تحت اسم اللجنة المركزية تجمع العسكريين ورجال الامن والمثقفين، وتجمع اليمين الديني واليسار على حد سواء، وكان عددهم 199 ومن بينهم سيدة واحدة هي فاطمة الزهراء جغرود، ولم تخرج السلطة في الجزائر - الا في ما ندر - عن اعضاء تلك اللجنة. وهكذا رفعت شعارات متناقضة مثل "رسالة الحرية والاشتراكية... رسالة الاسلام والعروبة". وفي جانب آخر من "الدور" المصري يلخصه المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين حسن الهضيبي في 1952 بقوله "انه مدخر قوة الاخوان ليحارب بها كيفما يشاء إن شاء الله في الجزائر، اذا رأى الاسلام هذا"، وعندما بدأت افواج المدرسين المصريين في الذهاب الى الجزائر ضمن حملة التعريب كان من بينهم 2500 من خريجي الازهر، وكان من بينهم العديد من قادة "الشُعب" في الجماعة وفي التنظيم الخاص مثل محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وصلاح ابو اسماعيل، وقام الدكتور احمد كمال ابو المجد بالمشاركة في وضع برامج التعليم، وكان الداعية متولي الشعراوي يتولى الخطب والدروس في اهم مساجد الجزائر، وهو مسجد القبة. ولا يمكن بحال عزل ذلك عن السياسات الرسمية الناصرية. ولم يتم الترحيب بهؤلاء الشيوخ في منطقة القبائل واغلب مدن الساحل بسبب مظهرهم الاجتماعي وذهنيتهم المحافظة إذ ينتمي اغلبهم الى فقراء الريف، خصوصاً عندما تتم مقارنتهم بالمدرسين الفرنسيين أو الجزائريين المتخرجين في الجامعات الفرنسية. وهكذا انحصر اثر هؤلاء في المناطق السكانية ذات الاصول العربية والفقيرة هي مناطق الارهاب نفسها الآن ومثلما تم في مصر وغزة تغيير الذهنية الصوفية الى الذهنية الجهادية، والسعي الى تأسيس ذات خارج التاريخ، تم ذلك في الجزائر. من يتابع التغييرات الحادة والمتلاحقة في قمة السلطة في الجزائر من 1992 الى 1999 لا يخامره أي شك في ان الطرف الفاعل في كل ذلك هو المجموعة العسكرية المتماسكة على رغم التفكك الذي طرأ على المجتمع والدولة. واذا اضفنا الى ذلك غموض الهدف السياسي لدى المعارضة المسلحة ولدى المجموعة العسكرية على حد سواء، فإن ذلك يوفر ملاحظات عدة على الطرف الثاني، وهي، اولا: عدم وجود خطة محددة لمعالجة الازمة خصوصا بعد فشل الحل الامني لمدة ثماني سنوات تقريباً. ثانياً: إصرار تلك المجموعة على الإمساك بزمام الامور بشكل مستتر للاحتفاظ بالامتيازات من دون تحمل المسؤولية. ثالثاً: صناعة واجهة ديموقراطية زائفة كحل، امام الضغوط الخارجية والداخلية نتيجة تفاقم الازمة، ويفشي ذلك نوعاً من التقاليد الكاريكاتوري للحالة التركية المحاطة بالتحفظات اصلاً، كما يؤكد الارتباك في سلوك المجموعة العسكرية، وعلى سبيل المثال فقد رفضوا بيان روما في كانون الثاني يناير 1995 متعللين بمشاركة جبهة الانقاذ، وكان كل من ينادي بالمصالحة والسلم المدني يُتهم بالتطرف، والآن اصبح الوئام المدني هو شعار السطة في محاولة للمصالحة مع جبهة الانقاذ والقوى الاكثر تطرفاً منها. وفي ظل نسبة بطالة 30 في المئة وخدمة للديون تصل الى 44 في المئة من قيمة الصادرات، وفي ظل مناخ سياسي كهذا يمكن التنبؤ بالنتائج: تعلمنا دروس التاريخ القريب أن كل محاولات صياغة هوية مغلقة عبر صياغة الدولة/ القومية او الدولة/ الدينية او حتى الدولة/ الطبقة، كانت تتأسس بمقتضى ايديولوجية إكراه، وانها كانت تبنى على انقاض الامة/ السياسية الوعاء الوحيد للديموقراطية والتقدم في ظل العولمة والمعلوماتية ووحدة السوق ونقص سيادة الدولة، وان تلك الدول سرعان ما كانت تتحول الى اضطهاد للخصوم السياسيين والاقليات، وفي النهاية تبديد المجتمع والوطن. كان معنى الاستقلال هو إقامة وطن لكل الجزائريين ومشروع للحرية والتقدم عبر الممارسة السياسية الكاملة للمجتمع، ولكن الدكتاتورية العسكرية والعقل الديني لجمعية كبار العلماء وخريجي الزوايا والزيتونة والازهر، وجماعة الاخوان المسلمين، اي عقل ما قبل الفلسفة وما قبل العلم بالتالي، اي ما قبل حقوق المواطن الفرد، وما قبل المجتمع المدني، وما قبل الديموقراطية، سعيا معاً لتحويل المجتمع الى جماعة للطاعة الايمانية وجماعة للطاعة السياسية تأسيساً على ذهنية معسكرات التجمع وتحت مبررات واهية من نوعية "ان الاسلام عرّب الجزائر"، وهل الاسلام يُعرب؟ ولماذا لم يعرب ايرانوتركيا واندونيسيا؟ او حتى الاكراد والبشتون؟ واذا نظرنا الى خصوم التعريب نجد انهم الطبقة الوسطى قبل تدميرها والقبائليون واليسار والتكنوقراط والليبراليون ورجال الاعمال، وهذا يؤكد ان التعريب كان مشروعاً سياسياً وانحيازاً شعبوياً لتفريغ الشارع السياسي والإطاحة بالبديل المدني، وكان من الطبيعي في ظل ايديولوجية الإكراه تلك ان يولد الفراغ السياسي والارهاب معاً. ولو كان التعريب مشروعاً ثقافياً لاستفاد من اي مشروع ثقافي آخر، سواء كان فرنكوفونياً، او أمازيغياً او بحر متوسطياً، ذلك ان التعدد الثقافي هو احد وجوه التعدد السياسي، ولا يمكن لمنصف ان ينكر ان هناك قراءة بربرية وفرنسية وبحر متوسطية للمغرب ككل، بالاضافة الى القراءة العربية، مع ملاحظة ان التبادل السكاني تم في الاتجاهين بين المغرب وكل دول اوروبا، وان التداخل الثقافي محتوم كما انه ظاهرة بشرية ايجابية وربما كان ذلك ما رصده فرحات عباس بقوله "يقولون عني انني عميل فرنسي، ولكن الحقيقة انني احمل ثقافة فرنسية، لقد علمتني الثقافة الفرنسية معاني راقية للحياة، وافهمتني قيم الديموقراطية والانسانية الحقيقية، ولذلك اصبحت مخلصاً لها". واذا كان المجتمع في الامة/ السياسية ليس تكراراً لفرد واحد صالح او مثالي، كما في الذهنية الفاشية، وانه حاصل جمع حريات وابداعات افراده في الذهنية التي تبغي التأسيس للحضارة والانسانية، فهل يمكن ان يتحول التعريب الى مشروع ديموقراطي؟ * كاتب مصري.