في السنوات الأخيرة، صدرت دراسات جادة بالإنكليزية تعكس الحنين إلى التنوع الإثني والثقافي في شرق المتوسط (في رودوس وكريت وإزمير وسالونيك وغيرها) الذي كان يميّز هذا الجزء من العالم، ولكنه تراجع نتيجة مآلات الحرب العالمية الأولى والحرب التركية- اليونانية حتى معاهدة لوزان في 1923 التي أرغمت بعض السكان على الرحيل عن مواطنهم إلى عوالم أخرى مجهولة لم يجدوا أنفسهم فيها. في هذا السياق، يلاحظ أن معظم مؤلفي هذه الكتب من المؤرخين الغربيين من ذوي الأصول اليهودية الذين استفادوا من روايات أقاربهم ومراكز وثائق الدول الأوروبية. ولكن مثل هذه الكتب تكشف أيضاً عما حلّ بالمسلمين أيضاً. ومن هذه المؤلفات كتاب ناثان ساتشر الذي صدر أخيراً بعنوان له مغزاه «عالم رودوس المفقود: اليونانيون والإيطاليون واليهود والأتراك بين التقليد والحداثة» (دار سَسكس أكاديميك برس، بورتلاند– الولاياتالمتحدة). وجزيرة رودوس، لمن لا يعرف، تبلغ مساحتها 1401 كم مربع وتبعد فقط 18 كم من الساحل التركي وكانت لها شهرتها في شرق المتوسط بوجود تمثال أبولو الذي كان يعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع وانهار مع زلزال 184 م، ثم آلت إلى الإمبراطورية البيزنطية حتى 1310م حين سيطر عليها فرسان القديس يوحنا بعد انسحابهم من فلسطين في نهاية الحروب الصليبية فحصّنوها وأصبحت قاعدة عسكرية مهمة تنطلق منها الغارات الخاطفة وتهدد السفن التجارية في شرق المتوسط. ومع سيطرة الدولة العثمانية على كل آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر 1516-1517، قام السلطان العثماني سليمان القانوني بحصارها مع 400 سفينة و100 ألف مقاتل حتى استسلم فرسان القديس يوحنا ووافقوا على مغادرة الجزيرة إلى مالطا في صيف 1523م. وبذلك، باتت رودوس تحت الحكم العثماني لمدة 400 سنة تقريباً، حيث أصبحت المدينة رودوس مركزاً لسنجق أو لواء عثماني يحمل اسمها وجاءها سكان جدد (أتراك ويهود من الأندلس ويونان من الجزر الأخرى) بعد فراغ الجزيرة من فرسان القديس يوحنا. وانعكس ذلك على مظهر الجزيرة فتحولت بعض الكنائس إلى جوامع وبنيت جوامع وكنس لليهود ومدارس وحمامات ومكتبات على النمط الشرقي/ العثماني. وكان من عادة العثمانيين أن يحولوا كنيسة على الأقل إلى جامع تُصلّى فيه صلاة الجمعة الأولى بعد الفتح، وهو ما لحق بكنيسة كل القديسين التي تحولت إلى جامع باسم السلطان سليمان (جامع السليمانية) الذي تمّ تجديده في 1808. ولكن لدينا هناك ما هو أصيل ومستمر حتى اليوم من تراث المسلمين، كمكتبة الحافظ أحمد آغا مقابل «جامع السليمانية» التي بنيت في 1793 ولا تزال تحفظ فيها مخطوطات قيمة باللغات العربية والتركية والفارسية منها واحد يحكي عن الفتح العثماني للجزيرة. بقيت رودوس على هذا الطابع الثقافي المتنوع (المسلم واليهودي والأرثوذكسي) حتى اندلاع الحرب في 1911-1912 بين إيطاليا والدولة العثمانية، إذ قامت إيطاليا باحتلال ولاية طرابلس (التي أطلقت عليها اسم ليبيا) وبعض الجزر القريبة من الدولة العثمانية في شرق المتوسط (جزر الدوديكان) ومنها رودس. وتحوّل هذا الاحتلال في معاهدة لوزان 1923 إلى ضم رودوس إلى «الإمبراطورية الايطالية» وتبع ذلك تغيير ديموغرافي حيث فضّل بعض الأتراك واليونانيين مغادرة الجزيرة إلى تركيا واليونان وحلّ محلهم مهاجرون من إيطاليا، ما أعطى ملامح جديدة للجزيرة . فقد غادر رودوس خلال 1922-1923 حوالى 13 ألف تركي مسلم ومثلهم وأكثر من اليونانيين بعد أن أصبحت رودوس تحت السيادة الإيطالية، بينما جاء محلهم حوالى 16 ألف مهاجر من إيطاليا للعمل في الزراعة والمشاريع الصناعية التي أقامتها إيطاليا الفاشية. كانت تلك سنوات التحديث أو «الطلينة» التي اعتبرها اليهود «السنوات الذهبية» لهم، بعد أن أصبحوا يشكلون ثلث سكان المدينة. ولكن بعد استسلامإيطاليا في الحرب العالمية الثانية (ايلول- سبتمبر 1943) اجتاحت الجزيرة القوات الألمانية النازية التي نقلت معظم اليهود إلى داخل اليونان ليلاقوا مصير غيرهم، إلى أن استسلمت ألمانيا في نهاية الحرب فانتقل حكم الجزيرة إلى بريطانيا في 1945 ثم انضمت مع غيرها من جزر الدوديكان إلى اليونان في 1947. ومن الطبيعي مع هذه التحولات المتسارعة أن تتغير الجزيرة ديموغرافياً وعمرانياً وثقافياً، على حساب التنوع والتعايش الديني التي كان يميزها حتى 1912. ومن هنا جاء هذا الكتاب بهذا العنوان المميز «العالم المفقود»، ليعكس الحنين إلى الماضي. فنتيجة لهذه التغيرات، اختفى اليهود تقريباً وأصبح المسلمون أقلية صغيرة (حوالى 5 آلاف من أصل 115 ألف نسمة) بينما أصبحت الجزيرة من معالم اليونان السياحية التي تجذب السياح من أنحاء العالم لدفئها وآثارها التي تجمع كل الإمبراطوريات (الإغريقية والبيزنطية والعثمانية والإيطالية الخ). من تراث المسلمين بقيت البلدة القديمة التي تعود إلى الحكم العثماني الذي امتد حوالى 400 سنة والتي تتميز بملامحها العمرانية، سواء بالمنشآت (الجوامع والمدارس والمكتبات الخ) أم بالبيوت والحارات الضيقة. والمهم هنا وجود بشري حي للمسلمين، بالإضافة إلى التراث المادي الذي أصبح يشكل جذباً للسياح كما في الأندلس. أما اليهود الذين جاؤوا من الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492م وحملوا معهم التوراة من هناك (التي أصبحت تسمى «توراة رودس»)، فقد تلاشوا بعد «السنوات الذهبية» اذ قامت «قوات الصاعقة» الألمانية خلال 1943-1945 بحملة لنقلهم إلى اليونان ليلاقوا هناك مصير غيرهم. ولكن من التراث اليهودي الشفوي بقيت لدينا القصص التي تروى عن قيام المسلمين في الجزيرة بإنقاذهم من الحملة أو المطاردة النازية، ومن ذلك ما يروى عن نجاح القنصل التركي في رودوس صلاح الدين أولمكن الذي نجح في إنقاذ 43 يهودياً من المصير الذي كان ينتظرهم. أما في ما يتعلق بالتراث المادي فلم يبق سوى كنيس واحد لا يقدم خدماته باستمرار لقلة من بقي من اليهود في المدينة، ولكن بُني في جواره عام 1997 «متحف يهود رودوس» الذي يستعرض تاريخهم وثقافتهم وتراثهم المادي في هذه الجزيرة.