منذ اكثر من نصف قرن يتشارك الفلسطينيواللبناني في الهموم وتتداخل قضاياهما بشكل كبير، فقد احتضن لبنان موجات اللاجئين الفلسطينيين عقب قيام الكيان الصهيوني عام 1948، ومنذ ذلك الحين وهؤلاء يشكلون حالاً لبنانية فضلاً عن كونهم حالاً فلسطينية. وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من الاردن اوائل السبعينات كانت الساحة اللبنانية من اهم ساحات عمل الفصائل الفلسطينية التي لم تكتف باستخدامها كساحة مواجهة ضد اسرائيل بل دخلت ايضاً في معادلات الوضع الداخلي اللبناني نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية. وحتى انطلاق المقاومة اللبنانية جاء كأحد تداعيات الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1978 و1982 الذي نجح في اضعاف وتحجيم المقاومة الفلسطينية ولكنه في الوقت نفسه اطلق المقاومة اللبنانية من عقالها بهدف انماء الاحتلال الاسرائيلي لجنوبلبنان. لذلك ليس من المستغرب ان يكون لعملية استعادة لبنان اراضيه المحتلة في الجنوب صداه وتأثيره في الساحة الفلسطينية لا سيما ان احتلال اراضي فلسطينولبنان هو احتلال واحد، كما ان هناك مقاومة لهذا الاحتلال في الجانبين وان كانت ظروفهما مختلفة. وهناك ايضاً مفاوضات سياسية بين كل من الطرفين الفلسطينيواللبناني والطرف الاسرائيلي وان كانت المفاوضات مع لبنان متضمنة في مسار المفاوضات السوري - الاسرائيلي. جاء الانسحاب الاسرائيلي من طرف واحد من جنوب لبنا ليسلط الاضواء على اهمية وفاعلية المقاومة في اجبار الاسرائيليين على التخلي عن اراض احتلوها بالقوة وذلك على رغم عدم نجاح المفاوضات السورية - الاسرائيلية في تحقيق اختراق يسمح باجراء هذا الانسحاب في اطار اتفاق سلام مع لبنان. وقد طرح الانسحاب الاسرائيلي الذي تم على عجل وبصورة أظهرت ضعف الاحتلال وعدم قدرته على تحمل الثمن الغالي لاستمرار لا في جنوبلبنان، تساؤلاً مهماً في اذهان الشارع العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً حول جدوى المفاوضات السياسية التي لم تستطع خلال سبع سنوات على اتفاق اوسلو ان تحقق ما حققته المقاومة اللبنانية في سنوات قليلة، فقد ذاقت الجماهير طعم الانتصار الحقيقي على العدو الذي لم تتمتع به منذ حرب تشرين الاول اكتوبر 1973، اذ لم يكن بالامكان اغماض العين عن الهزيمة المدوية التي تعرض لها جيش الاحتلال والتي نقلتها وسائل الاعلام بشكل حي ومباشر. ان تزايد القناعات في الشارع العربي والفلسطيني بجدوى واهمية المقاومة في اجبار العدو على التراجع عن احتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية ليس نابعاً من انفعالات عاطفية متسرعة لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف والعوامل الموجودة في كلا الجانبين اللبنانيوالفلسطيني أو تأثراً بمشاهد وصور اعلامية اظهرت بوضوح ثغرة كبيرة في العقلية الاسرائىلية عبر عنها وزير الدفاع افرايم سينه حينما ارجع سبب الانسحاب الاسرائىلي من لبنان الى مشاكل في "قدرة المجتمع الاسرائيلي على الصمود"، وانما نتيجة خبرة ووعي سياسي مكتسب لدى هذه الجماهير يرى ان العرب قادرون فعلاً على الحاق الهزيمة باسرائيل اذا توافرت لديهم الارادة السياسية، واذا تم ترجمة هذه الارادة الى فعل مقاوم على الارض، وليس رفض التطبيع مع الدولة العبرية الا جزءاً من هذا الوعي المدرك لأهمية الابقاء على الكيان الصهيوني معزولاً ومحصوراً في الاطار العربي الرسمي على الاقل الى حين تهيئة الظروف لمحاربته ودحره. ان الاراضي اللبنانية لم تكن بأهمية الاراضي الفلسطينية في التفكير اليهودي، فهذه الاخيرة مثلت بالنسبة اليه جزءاً من ارض الميعاد فيما لم يعتبر الارض اللبنانية الا كمنطقة امنية عازلة وجدار حماية لمستوطناته في شمال فلسطين. لكن الجماهير التي لا نشك انها تفهم تماماً هذه المعادلة تدرك ايضاً ان الدولة العبرية بانسحابها من لبنان فإنها تكون بذلك قد غيرت نظرتها له وتخلت عنه كمنطقة عازلة بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدتها امام المقاومة، وهذا يعني بالتالي ان هذه الدولة يمكن ان تغير ايضاً نظرتها الى بعض الاراضي الفلسطينية كجزء من ارض اسرائيل الكبرى، بل ان هذا ما حصل بالفعل كنتيجة من نتائج الانتفاضة المباركة التي انهت ما يسمى بحلم اسرائيل الكبرى واوجدت قناعات قوية في اوساط الاحزاب والجماهير الاسرائيلية باستحالة السيطرة على شعب آخر ودفعت حزب العمل الاسرائيلي الى التفاوض مع القيادة الفسلطينية للوصول الى اتفاق يحفظ ماء وجه الاسرائيليين ويسمح لهم باستمرار السيطرة السياسة والامنية على الفلسطينيين مع التخلي عن عبء ادارة الاراضي الفلسطينية، ولعلنا نستذكر هنا ان حكومة رابين قبل اتفاق اوسلو كانت تفكر جدياً بالانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة في حال الانسحاب الاسرائيلي من طرف واحد كعنصر ضغط على هذه القيادة للقبول بحكم ذاتي في غزة واجزاء من الضفة. وبهذا استطاعت حكومة رابين استدراك هزيمتها العسكرية بثمن سياسي بخس. واذا كانت تجربة انتصار برنامج المقاومة في دحر الاحتلال من اهم الدروس التي ترسخت في اذهان الشعب الفلسطيني حول الوسيلة الامثل والاكثر فاعلية في التعامل مع الاحتلال الاسرائيلي، فإن طبيعة العلاقة بين السلطة والمقاومة هي الدرس الآخر الذي لا يقل اهمية عن الدرس الاول، ذلك ان العلاقة الايجابية بين المقاومة والسلطة اللبنانية كان لها اثر ايجابي مهم في نجاح المقاومة في تحقيق اهدافها. وتعتبر تجربة التلاحم بين المقاومة والدولة في لبنان والتي تجلت في اوضح صورها في عهد الرئيسين لحود والحص نموذجاً يحتذى في تبادل الادوار بل وتكاملها بين الدولة والمقاومة في ظل ضعف الدولة وعدم قدرتها على ممارسة خيار المقاومة مع قناعتها بأهميته في استعادة اراضيها المحتلة، اذ شكلت هذه الحال مدخلاً مهماً للصمود في وجه الاعتداءات الاسرائيلية والضغوط الاميركية، خصوصاً انها حظيت بتأييد ومباركة سورية التي هيأت بدورها لدعم عربي غير مسبوق للمقاومة اللبنانية كانت ذروته في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت تأييداً للموقف اللبناني. وعلى رغم جسامة التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال واعتبار قضيته قضية مركزية للأمة العربية، الا اننا لم نلمس تأييداً عربياً علنياً لبرنامج المقاومة الفلسطينية، وذلك يعود الى الوضع الذي اوجدته اتفاقات اوسلو التي حرمت السلطة الفلسطينية من استخدام عنصر القوة لتحصيل المطالب الفلسطينية التي لم تتحقق بحدها الادنى من خلال الاتفاقات، بل الزام هذه السلطة بمحاربة اي طرف فلسطيني لا يستجيب لهذه المعادلة ويحاول استخدام حقه المشروع في الدفاع عن نفسه وشعبه امام الاحتلال او مساعدة السلطة الفلسطينية في فرض مواقف تفاوضية قوية على الطرف الاسرائيلي واستثمار عمليات المقاومة للضغط على العدو على طاولة المفاوضات. وذلك في الوقت الذي سمحت فيه هذه الاتفاقات للطرف الاسرائيلي ان يبقى مهيمناً على الاراضي الفلسطينية بالقوة ويفرض مواقفه وشروطه على الطرف الفلسطيني بحكم اختلال موازين القوى لصالحه! اثبتت تجربتا انتفاضة الاقصى عام 1996 والاسرى عام 2000 ان مخزون المقاومة ما زال كبيراً لدى الشعب الفلسطيني وانه لا يحتاج سوى لارادة سياسية تسمح له ان يعبر عن نفسه او حتى تتبناه وتتخذه كخيار مقاومة استراتيجي، لا ان تستخدمه لتحقيق مكاسب محدودة هنا او هناك. كما ان الموقف الفلسطيني كما الموقف اللبناني هو الذي يستطيع ان يحدد طبيعة الموقف العربي بشكل عام من برنامج التسوية. لذلك، فإن ما تحقق من انتصار في لبنان يمكن ان يتحقق في فلسطين التي لم يتخل شعبها عن برنامج المقاومة في الوقت الذي لم يعد فيه العدو يمانع في التنازل عن معظم اراضي الضفة وقطاع غزة ولكنه لا يقدم التنازلات - كأي احتلال في التاريخ - الا بالضغط والمقاومة، ولكن ذلك مشروط ايضاً بتوافر ظروف فلسطينية ومن ثم عربية داعمة لبرنامج المقاومة تحمي ظهره وتقدم له الدعم السياسي والمادي. لكننا نتساءل: هل استوعبت قيادة السلطة ما استوعبته الشعوب العربية والشعب الفلسطيني الدروس والعبر من لبنان، ام انها ستستمر في وضع العراقيل امام المقاومة الفلسطينية ومحاربتها حرصاً على المفاوضات الدائرة التي لا يلتزم بها الطرف الآخر ويخرقها باستمرار؟! المؤشرات من خلال ردود فعل السلطة الفلسطينية التي حاولت اظهار الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان على انه تطبيق لقرارات الشرعية الدولية ودعوة حكومة باراك لتطبيق مماثل على الصعيد الفلسطيني، لا تدل الى ان الرسالة وصلت لهذه السلطة بشكل صحيح، او على الارجح انها قررت الاستمرار في ادارة ظهرها للمعاني الحقيقية للهزيمة الاسرائيلية لأنها معانٍ محرجة لها وتظهر خيارها التفاوضي كخيار عبثي هزيل لا يمكن ان ينتزع الحقوق المستباحة. وبصرف النظر عن ذلك، فإن انتصار المقاومة في لبنان لن يكون مجرد حدث لبناني تاريخي، لكنه سيشكل حافزاً قوياً للمقاومة على الصعيد الفلسطيني سواء في الداخل الفلسطيني او في مخيمات الشتات خصوصاً في جنوبلبنان، ولعل ذلك يكون جزءاً من هذا التلاحم والترابط بين الشعبين والقضيتين اللبنانيةوالفلسطينية بل التواصل الوثيق بين المقاومتين، فها هو حزب الله يرد الجميل للمقاومة الفلسطينية التي كان لها تأثير واضح في انطلاق مقاومته ووصولها الى ما وصلت اليه. * كاتب فلسطيني.