بعيداً عن خطاب التحريض السياسي، يمكن القول ان اضطراباً شديداً شاب أسلوب تعامل العرب والفلسطينيين مع قرارات الشرعية الدولية حيث غابت الرؤية الواقعية المبنية على فهم عقلاني للقانون الدولي وللعلاقات الدولية ولميكانزمات صدور وتفسير وتطبيق القرارات الدولية. لم يفصل البعض ما بين مخاطبة الجماهير الشعبية ومخاطبة المنتظم الدولي، حيث تم تسييس القرارات الدولية واستخدمها لأغراض السياسة الداخلية والتنظيمية الضيقة على حساب توظيفها دولياً، وتم تحميل القرارات الدولية اكثر من قيمتها واكثر مما تحتمل، بل وصل الامر بالبعض الى حد التعامل مع مجلس الأمن او الجمعية العامة وكأنهما دار ندوة عربية او احد دواويننا يستحضرونهما متى يريدون ويتجاهلونهما متى يريدون. لا نتجنى على الحقيقة ان قلنا ان كل ما صدر عن المنتظم الدولي بخصوص ما سمي بالصراع في الشرق الاوسط بعد 1967 هي توصيات غير ملزمة او قرارات تتباين التفسيرات حولها وخصوصاً 242 و338، صحيح ان العديد من توصيات الجمعية العامة وقرارات مجلس الأمن تعترف بحقوق للفلسطينيين وتعترف بهم كشعب بل وتعطيهم الحق بالمقاومة، الا انها مع ذلك لا ترقى الى درجة الاعتراف الواضح بحق الفلسطينيين في اقامة دولتهم المستقلة، ان هذا الحق متضمن بطريقة غير مباشرة في هذه القرارات والتوصيات، او بشكل آخر ان تطبيق هذه القرارات قد يؤدي الى قيام دولة فلسطينية، ولكن للأسف التعنت الاسرائيلي والرفض الاميركي بالاضافة الى التعامل العربي والفلسطيني الخاطئ افقد هذه القرارات قيمتها، وهذا ما يفسر لنا ان اسرائيل ومعها اميركا لم تكونا مزعجتين كثيراً من هذه القرارات والتوصيات بل كان على رأس الشروط الاميركية للقبول بفتح حوار مع منظمة التحرير اعتراف هذه الاخيرة بقراري مجلس الأمن 242 و338 تحديداً. وفي اعتقادنا ان اخطر ما صدر عن الاممالمتحدة بعد 1967 وكان اكثرها ازعاجاً لاسرائيل هو القرار رقم 3379 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/11/1975 والذي اعتبر الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية والتمييز العنصري فهذا القرار شكل ضربة موجعة لاسرائيل وللحركة الصهيونية لأنه ينسف الأساس التاريخي والديني والاخلاقي للكيان الصهيوني من حيث اعتبار العقيدة التي يقوم عليها هذا الكيان شكلاً من اشكال العنصرية. وقد بقيت اسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة يتحينان الفرصة لإبطال هذا القرار وهو ما حدث بعد حرب الخليج وانهيار المعسكر الاشتراكي وبالتالي تبدل موازين القوى داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. لا يعني ما سبق ان قراري مجلس الأمن 242 و338 لا قيمة لهما ولا يخدما القضية الفلسطينية والعربية، بل المقصود ان اسرائيل واميركا لديهما من اساليب المناورة والحجج القانونية ما يمكنهما من جعل هذين القرارين من دون قيمة للفلسطينيين. من المعلوم ان القرار 242 صدر بعد حرب 67 وقرار 338 بعد حرب 73 وهو بين آليات تطبيق القرار الاول، المهم هو قرار 242 فهذا القرار يخاطب الدول المشاركة في الحرب ويدعو الى: 1 - سحب القوات الاسرائيلية من اراض الأراضي التي احتلتها في النزاع - حرب 1967 - 2 - انهاء جميع ادعاءات او حالات الحرب واحترام والاعتراف بسيادة ووحدة اراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد او اعمال القوة. بعد ذلك يؤكد القرار - ضمن امور اخرى - على تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين… من الواضح ان القرار يخاطب الدول المشاركة في الحرب ولا يشير من قريب او بعيد للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية بل لم تُذكر كلمة فلسطين بتاتاً في هذا القرار - كما انها لم تُذكر في قرار 338 -، وحتى عندما تحدث القرار عنش تسوية مشكلة اللاجئين لم يقل اللاجئين الفلسطينيين بل اللاجئين دون تحديد جنسيتهم. وكما هو معروف تزعم اسرائيل واميركا ان نص القرار هو سحب القوات الاسرائيلية من اراض احتلتها في النزاع الأخير وليس الأراضي التي احتلتها… والمقصود من ذلك ان تدعي اسرائيل انها طبقت القرار بمجرد انسحابها من اي جزء من الأراضي المحتلة، والاخطر من ذلك عدم وصف الاراضي/ أراض بأنها عربية بمعنى اسقاط هوية هذه الارض وخصوصاً الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الامر الذي سمح لاسرائيل فيما بعد الادعاء بحقوق تاريخية وتوراتية في الضفة الغربية بل سمح لها بضم الجولان ايضاً. اذن القرار يخاطب اسرائيل وسورية ومصر والأردن، والأرض المقصودة هي الجولان وسيناءوغزةوالضفة الغربية، وعليه فان الذين يجب عليهم المطالبة بتطبيق هذا القرار هي الدول الثلاث المشار اليها وليس منظمة التحرير الفلسطينية المُغيبة عن القرار بل التي لم يكن قد اعترف بها كممثل شرعي للشعب الفلسطيني آنذاك لا عربياً ولا دولياً. قد يقول قائل ان الاعتراف حدث عام 1974 وانه في 30/7/88 تم فك الارتباط ما بين الأردنوالضفة الغربية مما يجعل المنظمة مسؤولة عن الشعب الفلسطيني ومسؤولة عن الارض الفلسطينية وبالتالي يمكنها ان تحل محل الأردن ومصر! هذا كلام صحيح ونافذ بيننا كعرب ومفهوم حسب العقلية العربية ولكن لا قيمة له في القانون الدولي ولا يؤثر على منطوق القرار 242 او تفسيره لأن منظمة التحرير ليست عضواً كاملاً في الأممالمتحدة، وبالتالي مطالبة المنظمة لاسرائيل او للأمم المتحدة بتطبيق قرار 242 هي مطالبة لا قيمة لها لأنها تأتي من طرف غير معني في نظر القانون الدولي، وهذا ما جعل اعتراف المنظمة بالقرارين المشار اليهما مكسباً اسرائيلياً اكثر مما هو مكسب فلسطيني. لا يعني قولنا هذا التخلي عن المطالبة بقرار 242 او ان ننأى بأنفسنا عنه، بل يجب التمسك به لأنه قرار دولي يعترف بأن الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان أراض محتلة وكونها كذلك فان على اسرائيل ان تطبق اتفاقيات جنيف لعام 1949 حول اسلوب التعامل مع الاراضي المحتلة وسكانها وهذا يعني ان كل ما قامت به اسرائيل في هذه الأراضي هي تصرفات غير قانونية، كما ان الاعتراف بصفة الاحتلال لهذه الاراضي يمنح الشعب الخاضع للاحتلال الحق باللجوء الى كافة الوسائل بما في ذلك الكفاح المسلح لإنهاء الاحتلال وتقرير المصير. الخلل لا يكمن في القرار بحد ذاته لأن القرار جاء بعد هزيمة عربية وليس بعد نصر حتى نحقق منه مكاسب، ان الخلل يكمن في اسلوب التعامل العربي والفلسطيني مع القرار وهو التصرف الذي اضعف القيمة القانونية للقرار وأضعف من قوته الإلزامية، وقد لعبت اتفاقات السلام التي وقعتها مصر والسلطة الفلسطينيةوالأردن مع اسرائيل دوراً خطيراً في افقاد هذا القرار لأهميته. لم يبتعد الكيان الصهيوني كثيرا عن الصواب عندما زعم انه نفذ قرار 242 وان هذا القرار لم يعد مرجعية مناسبة للتسوية مع منظمة التحرير وهو يبني موقفه ليس فقط على تفسيره للقرار بأنه انسحاب من اراض محتلة وليس الأراضي المحتلة بل انطلاقاً مما وقع من اتفاقات مع مصر والأردن ومنظمة التحرير، فهو يرى ان الاتفاقات - كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو - التي وقعت مع هذه الأطراف اصبحت هي المرجعية وهي التي تحقق الحقوق والواجبات لكل طرف. فمصر عندما وقعت اتفاقية كامب ديفيد التي اعادت لها سيناء دون قطاع غزة وانهت بالتالي حالة الصراع مع اسرائيل فانما هي تعترف بأن اسرائل اوفت بالتزاماتها المنصوص عليها في قرار 242. نفس الأمر بالنسبة للأردن فعندما وقع اتفاقية وادي عربة وأنهى صراعه مع اسرائيل فكأنه يعترف بأن اسرائيل أوفت بالتزاماتها تجاهه بالنسبة للقرار 242، اما الضفة الغربية فقد اصبحت ارضاً بلا صاحب او مُطالب في مفهوم القانون الدولي وهذا ما جعل اسرائيل تتعامل مع الضفة وقطاع غزة كأرض متنازع عليها، وحتى بالنسبة لمنظمة التحرير فانها قبلت بإشارة غامضة للقرارين المشار اليهما كأساس للتفاوض في مدريد ثم في اوسلو بل ان اتفاقية اوسلو وفي المادة الخامسة عشرة اكدت ان المرجعية في حالة حدوث اي خلافات في تفسير او تطبيق الاتفاق هو التفاوض بين الطرفين وليس الأممالمتحدة او اية هيئة دولية، وهذا ما يفسر لنا التأكيد الاسرائيلي المتواصل على رفض تدخل الاممالمتحدة بالمفاوضات بل توجيهها انتقاداً شديداً للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان يوم 22/9/99 عندما عين مسؤولاً دولياً - السويدي تيري لارسن للشرق الأوسط، واعتبرت ذلك تدخلاً في مسيرة السلام التي تقوم على أساس التفاوض المباشر بين الأطراف. يبدو ان اعتراف المنظمة بقرارات الأممالمتحدة وخصوصاً بالقرارين 242 و338 لم يدخل المنظمة كطرف مساو لبقية الأطراف في لعبة التسوية، بل لم تعبر اميركا لا موقفاً ولا ممارسة على ما يدل على مكافأة الفلسطينيين على ما قدموا من تنازل. نعتقد ان هناك بعداً آخر لا يثير اهتمام الباحثين والسياسيين بالرغم من اهميته، ويتعلق بالتحول الذي طرأ على مفهوم الشرعية الدولية بفعل التحول في النظام الدولي، ذلك ان الولاياتالمتحدة - ومعها او في داخلها اسرائيل - ترى ان شرعية النظام الدولي المنهار وما صدر عن هذه الشرعية من قرارات وتوصيات ومفاهيم، لم تعد صالحة كشرعية للنظام الدولي الجديد - وليس من المقبول في نظر اميركا ان يُسيَّر النظام الدولي الجديد وان تُحكم قائدة هذا النظام، بقرارات الشرعية الدولية للنظام السابق حيث صدرت القرارت بفعل ثقل وتأثير القطب المنهار - الاتحاد السوفييتي وحلفائه -. وبمعنى آخر انه لا يمكن للمنتصرين الذين يؤسسون النظام الدولي الجديد ان يلزموا انفسهم بقرارات وضعها المنهزمون او كان لهم التأثير الكبير في صدورها، ويدخل ضمن هذه القرارات كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، سواء تلك الصادرة عن مجلس الأمن مثل قرار 242 او الصادرة عن الجمعية العامة مثل قرار التقسيم والقرارات التي تتحدث عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في الكفاح المسلح لاستعادة حقوقه المشروعة او قرار مماهاة الصهيونية بالعنصرية. وهكذا فعندما يتحدث الفلسطينيون والعرب ومن والاهم، عن الشرعية الدولية، فانهم يتحدثون عن شرعية سقطت في نظر الولاياتالمتحدة واسرائيل، او عن شرعية من حق المنتصر والمؤسسون للنظام الدولي الجديد ان يأخذوا منها ما يريدون ويتجاهلوا او يلغوا ما يرونه غير متناسب مع مصالحهم، ومن هنا يمكن ان نفهم الحملة الشرسة التي قادتها اسرائيل والولاياتالمتحدة الاميركية داخل اروقة المنتظم الدولي لالغاء قرارات الشرعية الدولية السابقة حول فلسطين، ونجحت في اسقاط بعضها وهو القرار رقم 3379 الصادر عام 1975 والذي يعتبر الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية والتمييز العنصري. خلاصة مع عدم انكار الوضع الحرج الذي كان عليه المفاوض الفلسطيني عند انطلاق ما يسمى مسلسل السلام، الا اننا نعتقد ان خللاً خطيراً صاحب المفاوضات ولازم الاتفاقات الموقعة بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني، وهو عدم تمسك الطرف الفلسطيني تمسكاً قوياً بالمرجعية الدولية كأساس لما يوقع من اتفاقات، لقد هيمن الهاجس السياسي الظرفي عند المفاوض الفلسطيني على الجانب القانوني وعلى ما هو مصيري، ذلك ان تراجع الشرعية التاريخية والشرعية الثورية في هذه المرحلة، يتطلب التمسك بالشرعية الدولية دون اي مساومة عليها. وهذا الخلل لاحظناه من خلال غياب القانونيين الفلسطينيين عن طاولة المفاوضات وغياب التنصيص الواضح في اتفاقية اوسلو على احالة اي خلاف في التفسير الى الأممالمتحدة ومحكمة العدل الدولية، بل نصت المادة الخامسة عشرة من الاتفاقية على ان الخلافات تحل من خلال التفاوض بين الطرفين، وهذا يعني جعل المفاوض الفلسطيني كالفريق الذي يتشبث بشعر رأسه! بالاضافة الى ذلك اعتمد المفاوضون الفلسطينيون على الخبرة التفاوضية المصرية، وفرق كبير جداً ما بين الوضع الفلسطيني والوضع المصري، وكما هو معروف فان اتفاقات كامب ديفيد لم تجر تحت اشراف الأممالمتحدة وفي اطار تطبيق قرارات الشرعية الدولية بل كانت مرجعيتها تفاوضية وكانت الأممالمتحدة مغيبة عن المفاوضات. ومع ذلك فان ما وقعته السلطة الفلسطينية مع اسرائيل من اتفاقات ليس باتفاقات دولية او اتفاقات دولة كما يقول المفاوض الفلسطيني، بل هي اتفاقات بين دولة ومنظمة خارج اطار قرارات الشرعية الدولية، وهذا يعني ان قرارات الاممالمتحدة حول فلسطين - وخصوصاً قرار التقسيم 181 وقرار عودة اللاجئين - ما زالت سارية المفعول ويمكن للشعب الفلسطيني والدول العربية المعنية ان تعيد تفعيل هذه القرارات، بل يمكنهم إن تصرفوا عقلانياً ان يمارسوا اعتماداً على هذه القرارات حقهم المشروع بمقاومة الاحتلال. * استاذ في جامعة الرباط.