يعيش شباب القبائل في اليمن في الوقت الحاضر تحولاً نوعياً يعد بثورة على التقاليد والاعراف السائدة الموروثة والمصانة منذ مئات السنين. هذا الانقلاب الأبيض والخروج من بيت الطاعة العتيق يتزامن مع سلسلة من التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تشهدها اليمن لتعويض ما فات من سنوات الانكفاء والعزلة. شباب القبيلة يشهرون تمردهم بأدب جم لا يقطعون فيه وشائج القربى والصلات الروحية مع رموز النظام القبلي ولا يصطدمون مع المشايخ في كل الأحوال، لكنهم في المقابل أعلنوا انخراطهم في الحياة العصرية من دون استئذان شيخ القبيلة. ولشباب القبيلة اليمنية رأيهم الرافض لأعمال العنف واختطاف الأجانب والثارات الاجتماعية ويعبترون انها وليدة التخلف والجهل والأعراف البالية، انهم يحاولون بصمت تغيير واقعهم الى الأفضل ويسعون الى قيادة دفعة التحديث في الريف بوجه خاص، لكن عليهم ان ينتظروا سنوات وسنوات حتى يتلاشى جبل التحديات الذي يعيقهم. "الحياة" حاولت الاقتراب من عالم شباب القبيلة في اليمن شباناً وشابات. كيف يفكرون ويقضون يومهم؟ ما تأثيرهم في الحياة العامة؟ وكيف يوائمون بين الولاء الكامل لشيخ القبيلة والقناعات الحديثة والمبادئ الثقافية التي تشربوها في اطار التعليم أو عبر التأثير بوسائل الاعلام الخارجية؟.. تزاحمت الأسئلة ونحن نقترب من منطقة أرحب التي تبعد من صنعاء نحو 50 كلم يربطها بها طريق معبد حديثاً. من السهل ان تتعرف بسرعة على طقوس الحياة القبلية من خلال انتشار السلاح والأسواق اليومية على جانبي الطريق، البناء الأسمنتي الذي بدأ يخترق المنطقة والأطباق الهوائية "الدش" التي تعلو المنازل ومدارس وأطفال يحملون حقائبهم ومزارع عنب واسعة. الطقس كان صافياً بعد زخات من المطر. قال عبدالله سائق سيارة أن هطول الأمطار يجعل الأعصاب هادئة في المناطق القبلية ذات الطبيعة الجبلية القاسية حتى ان الخلافات والمواجهات المسلحة تنحسر كثيراً في موسم المطر. أرحب وقبيلة أرحب من أهم قبائل بكيل وتحكمها الأعراف القبلية ويتزعمها مشايخ وفيها سوق كبير يباع فيه القات والخضار والسلاح، وتأسست فيها عام 1993 كلية فرعية للتربية تابعة لجامعة صنعاء تضم حالياً أكثر من الف طالب وطالبة معظمهم من أبناء المنطقة نفسها ومحافظات قريبة منها. ويقول محسن محمد الدربي طالب جامعي في السنة الرابعة قسم التاريخ ومن أبناء أرحب: بدأ شباب القبيلة ينظرون الى مستقبلهم في شكل آخر ويخرجون من دائرة الانغلاق على رغم ان كثيراً منهم يتجهون الى زراعة العنب وتجارة القات وعلى رغم ان بعض القوى السياسية والدينية تحاول شدهم الى الخلف وتخويفهم من الجديد والحديث. أما بكيرة الرياشي وهي معيدة في قسم التاريخ بكلية التربية فتؤكد ان القبيلة هي النواة الرئيسية للمجتمع العربي واليمني لقد حافظت معظم العشائر على تكوينها على رغم اندماج قادتها مع الدولة والسلطة التنفيذية. وترى انه من السهل ان تأخذ القبلي من قبيلته لكن من الصعب أن تنزع القبلية وقيمها من نفسه مهما وأين عاش، وبالنسبة لها تعتبر الرياشي ان القبيلة بدأت تعتاد على وجود الفتاة المتعلمة والجامعية اذ بدأت كلية التربية بحوالى ثلاث طالبات وتجاوز عددهن اليوم ال400 طالبة ويتوقع ان يصحب 900 طالبة في العام المقبل. تطور وحداثة وترفض بكيرة فكرة انعزال القبيلة مؤكدة ان شباب القبائل بدأوا ينحرطون في الحياة المعاصرة ويلحون على التطور والحداثة ويصرون على الخروج عن العرف القبلي في جوانبه السلبية وتطوير حياتهم مع الحفاظ على اخلاق القبيلة مثل الإباء والشهامة والشجاعة والاخلاق العالية والمروءه. وتلفت الطالبة أفراح عبدالله العتمي الى ان ما يشبه ثورة في تعليم الفتيات موجودة في الريف اليمني بالذات حتى ان الطالبات يطلق عليهن وهن خارجات من المدارس "الجيش الأسود" بسبب زيهن المعروف. وهي تعزي ذلك الى تطور وعي الأسر وأولياء الأمور الذين كانوا يصرون في السابق على عدم اكمال الفتاة للتعليم أكثر من المرحلة الابتدائية ثم تتزوج مباشرة. الآن الطالبة لا تتزوج الا بعد الانتهاء من المرحلة الجامعية. وحينما سألنا مجموعة من الفتيات والطالبات عن حالتهن الاجتماعية كان الجواب مفاجأة اذ اتضح ان واحدة فقط من اجمالي عشر متزوجة والبقية آنسات يتشبثن بصفوف التعليم مؤجلات قرار اختيارهن فتى احلامهن. وفي هذا الصدد تقو أفراح العتمي ان الفتاة اليمنية أصبح لها رأي في اختيار شريك حياتها ولا تستطيع الأسرة تجاهل ذلك وان كانت الكلمة الأخيرة بالطبع لوالدها الذي في الغالب يسترشد برأي ابنته. والفتاة اليمنية في رأي افراح تتابع باهتمام كل ما يجري في العالم وهي تناقش تطورات القضية الفلسطينية وعملية السلام وتقرأ الكتب وتشاهد القنوات الفضائية العربية وتشارك الآخرين حواراتهم في القضايا العامة. حكاية العم حسين وتضرب جميلة الرجوي معيدة في كلية التربية مثلاً بعمها حسين الذي لديه خمس بنات في الجامعة وهو من المنطقة القبلية نفسها ويقوم بتوصيلهن الى مقر الكلية يومياً ويعد نموذجاً للأب القبلي الذي تأثر بأجواء التعليم السائدة، وتؤكد من خلاله انه ليس شرطاً ان يكون الأب متعلماً حتى يوافق على تعليم بناته فعمها نجح في نقل عدوى التعليم الى الكثير من الأسر التي كانت مترددة في المنطقة. "الحياة" التقت العم حسين محسن لحمان الرجوي الذي يقول: كنت رهينة لدى الإمام قبل قيام الثورة عام 1962 ولم أتمكن من اكمال تعليمي الابتدائي فأردت ان أعوض نفسي في أولادي وبناتي "لديه عشرة أبناء" على رغم ان الظروف القبلية لا تشجع على تعليم الفتيات، واصلت المشوار معهن حتى تخرجت البنت الأولى من الجامعة وتزوجت والباقيات يدرسن حالياً، أما عن اختيار زوج لابنته فيقول ان الشرع والدين يعطيانها الحق في اختياره ولا بد ان يتم الزواج برضاها لكن ليَّ أيضاً الحق في اختيار الزوج المناسب لابنتي من خلال خبرتي في الحياة ولا أفرض عليها من ترفضه. غلاء المهور وترى جميلة الرجوي ان مشكلة غلاء المهور تمثل عائقاً كبيراً في الارتباط بين الشباب والفتيات داخل القبيلة اذ تتراوح قيمته بين 400 و500 الف ريال يمني وربما يعود السبب الى ارتفاع تكاليف المعيشة غير ان الوعي والتعليم سيحاصر المشكلة في المستقبل. وتوافقها في الرأي الطالبة وضحى صالح يماس معتبرة ان القبيلة تشهد تطوراً كبيراً نحو التحديث والتغيير وانها هي التي ستختار زوجها مستقبلاً وأن أهلها يستمعون اليها ويثقون في اختيارها مع العلم انها ستنحاز الى اختيار اسرتها نظراً لخبرتهم ونضجهم العقلي. والصورة ليست وردية تماماً فهناك فتيات يجبرن على الزواج بعد سن العاشرة وتضطر بعض الفتيات التوقف عن اكمال دراستها الجامعية لأن هذه هي رغبة الزوج أو قرار الأسرة وشيخ القبيلة. وتقول وضحى انها تدرس في الجامعة وتساعد أسرتها في عمل المنزل كما يتيسر لها متابعة المسلسلات العربية والأخبار السياسية. سلاح والفتاة في الريف اليمني لا بد ان تتدرب جيداً على حمل السلاح ليس بغرض العدوان وانما لحماية نفسها من الآخرين وصيانة أرضها ومزارعها وأغنامها ولا يستثنى في ذلك احد مهما كانت طبقته أو مهنته أو مستوى تعليمه. تواجه الفتاة مصاعب في التنقل والمواصلات الى المدارس والجامعات وتصر مع ذلك على الاستمرار في التعليم مثل احدى الطالبات التي تحمل معها طفلها يومياً الى قاعات المحاضرات متحملة مشاق السفر من صنعاء الى عمران. ومن حسن حظ الفتيات اليمنيات في الريف انهن يجدن وظيفة بعد تخرجهن في المدارس القريبة من مساكنهن مما يشكل مساهمة في الاكتفاء الذاتي من المعلمات. وتقول بكيرة الرياشي ان الطالبات متحمسات لتنفيذ برامج اجتماعية وثقافية خارج نطاق التعليم مثل انشاء النوادي والمعارض وفصول محو الأمية ودورات في التصنيع الغذائي لكن هذه الحماسة تصطدم باستمرار بالامكانات المادية والقدرات الاقتصادية. خطف الأجانب والشباب في أرحب يجيدون الرماية وحمل السلاح لكنهم كما يؤكد يوسف سلمان احمد لا يشجعون أعمال العنف. أو خطف الأجانب أو تفجير أنابيب النفط لأن هذه الأعمال ينفذها أشخاص جاهلون تسيطر عليهم العصبيات. ويرى خالد أحمد الشاحذي ان الشباب بدأ يلعب دوراً حيوياً في خفض معدلات الثأر في المجتمع وزيادة الوعي، لكن زميله محسن الدربي يأسف لأن بعض الشباب يصبحون هدفاً لتصفية الحسابات بين القبائل وضحايا للخلافات اذ قتل احد طلاب الكلية بذنب لم يقترفه. والآن تحولت المنطقة الى عالم آخر فالشباب يزرعون الورود بدلاً من حمل المدافع والرشاشات. ويؤكد توفيق احمد صالح معيد في قسم الجغرافيا ان الشباب اليمني طموح ويحب الانفتاح على العصر ولديه قدرات على التغيير ولكن قد تشده العادات والتقاليد الى مزالق الثأر والتعصب. وعن حمل السلاح يقول توفيق انه مسألة ثقافية بحتة وخصوصاً في مناسبات الأعراس، وقد توارثه الناس منذ أزمنة بعيدة ومن الصعب التخلي عنه بسهولة وفي وقت قصير. وانتقد الدكتور عبدالله الغيثي عميد كلية التربية قال شمعة مضيئة تحمل رسالة ربط الثأر والاختطاف بسلوك القبائل مشيراً الى ان القبلي يرفض ذلك ويعتبر ان جهاتاً أو أطرافاً ربما تكون محسوبة على المدينة تغذيها وتدعمها للخروج على القانون. ويرجع عميد كلية التربية بعض الخلل في الصورة الى الفراغ الأمني وعدم تطبيق القانون في كل مكان يعترف بوجود عناصر تسيئ الى القبيلة.