ربما هي حرب "داحس والغبراء" تلك السائدة في مناطق القبائل .. فمشاهد الاقتتال تعود بالذاكرة إلى قرون مضت في ظل نزاعات مسلحة تتصف بالاستمرارية وثقافة اجتماعية تؤيد بقوة فكرة الأخذ بالثأر. المبادرة التي تبناها الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بدعوته رؤوس القبائل في محافظة مأرب لعقد صلح عام حول الثأر لمدة خمسة أعوام ، غدت الأمل لدى الناس في إنهاء فصل طويل من الاقتتال المسلح الذي أنهك الدولة والمجتمع على السواء . لكن يبدو أن هذا الأمل لا يزال بعيد المنال فلا تزال هناك الكثير من نزاعات الثأر ساخنة في غير منطقة بدءا من محافظتي عمران صنعاء التي تعصف بها قضايا ثأر مرورا بمحافظة ذمار التي تجددت فيها الاشتباكات المسلحة بين قبيلتي راحة والفاقتين وانتهاء بمحافظتي البيضاء وشبوة ، التي شهدت هي الأخرى تجددا لمعارك طاحنة بين قبائلها المتنازعة . وثمة اعتقاد أن ظاهرة الثأر بتأثيراتها المدمرة لم تعد تؤثر على سكان مناطق القبائل المتناحرة وحسب بل تطال الجميع بعد أن أخذت الظاهرة تتجاوز إطارها الجغرافي الذي كان محصوراً في مناطق الأرياف لتصل إلى المدن الرئيسية ، التي تحولت إلى مسرح لصدامات مسلحة بين رجال القبائل. مناطق ملتهبة تذكر بعض الدراسات الحكومية أن الاهتمام الذي أولاه العديد من أجهزة الدولة لمشكلة الثأر على مدى السنوات الماضية لم يثمر بحدوده الدنيا ويعتقد أن تلك الجهود أخفقت تماما في الحد من الظاهرة وتأثيراتها. وتبين التقارير الصادرة عن وزارة الداخلية أن الثأر ما زال يمثل السبب الأول في حدوث الكثير من جرائم القتل والاختطاف والتقطع والنهب ، وأن ضحاياه يشكلون أعلى رقم في قائمة الوفيات السنوية بعد الوفيات لأسباب صحية. وطبقا لتقديرات بعض الدوائر الرسمية فان محافظاتمأرب، الجوف، صنعاء، عمران، ذمار، شبوة، البيضاء هي الأكثر معاناة من الظاهرة بالنظر إلى عدد النزاعات الفردية و الجماعية التي تطحن السكان هناك . ويوضح تقرير صادر عن مجلس الشورى أعدته لجنة الصلح ومعالجة قضايا الثأر أن عدد ضحايا الظاهرة في 4 محافظات هي صنعاء ، عمران ، ذمار والبيضاء بلغ العام 2002 حوالي 1928 ضحية . ويسرد التقرير اوضاع الظاهرة على مستوى المحافظات بالاشارة إلى أن محافظة ذمار تحتل الترتيب الأول في عدد ضحايا الثأر بواقع 530 قتيلا تليها عمران ب 527 قتيلا ثم صنعاء بواقع 510 قتلى وأخيرا البيضاء ب361 قتيلا . وتقول إحصائية حديثة لوزارة الداخلية أن عدد جرائم القتل العمد والشروع فيه المسجلة الأشهر الأربعة الأولى من العام 2002 بلغ ، 224 جريمة قتل عمد و557 جريمة شروع في القتل من بينها 95 جريمة على خلفية قضايا الثأر. وتقول تقارير للداخلية اليمنية أن العدد المتوسط لجرائم القتل المتوقع حدوثها خلال عام كامل يصل إلى 300 جريمة قتل وشروع في القتل معظمها تحدث لأسباب لها علاقة بنزاعات الثأر. ويشير تقرير صادر عن لجنة الصلح ومعالجة قضايا الثأر في مجلس الشورى ، إلى أن محافظة عمران تحتل الترتيب الأول في عدد قضايا الثأر حيث يصل عدد القضايا فيها إلى 258 قضية ، نتج عنها سقوط 527 قتيلا . وفي محافظة صنعاء يوضح التقرير أن الظاهرة تنتشر في عدة مديريات أهمها بين ضبيان، خولان ، بني حشيش، جحانه، الحيمتين، أرحب، بلاد الطعام، صعغان وهمدان. ويبلغ إجمالي حوادث القتل والنزاعات التي شهدتها هذه المناطق حوالي 257 قضية ثأر 65 منها مسجلة تحت بند قضايا اقتتال متصلة او تمت فيها الهدنة وحوالي 130 قضية غير منظورة أو معلقة . وفي محافظة ذمار تنتشر الظاهرة في عدة مديريات هي على التوالي الحدا (40 قضية )وعنس (19 قضية ) جهران (15قضية) وضوران( 17 قضية) والمنار (7 قضايا )، مغرب عنس( 5 قضاي)، مدينة ذمار (قضيتين)، ووصاب العالي (قضية واحدة) . وتعاني القبائل في محافظة البيضاء من 129 قضية في مديريات قيفة ، مدينة رداع ، ولدربيع .ويبلغ عدد ضحايا الظاهرة حوالي 316 قتيلا و185 جريحا نهاية عام 2002 في جيم تنتشر الظاهرة في العديد من مديريات محافظة شبوة واهمها ، حبان ، الصعيد ، نصاب ، حطيب ، بيحان ، مرخة السفلى ، عتق .. ولا تتوافر إحصائيات بشأن قضايا الثأر المنتشرة في محافظتي مأربوالجوف اللتين تعدان من أكثر مناطق الثأر في البلاد كما لا تتوافر إحصائيات دقيقة بشأن الظاهرة في محافظات إب ، المهرة ، حجة ، صعدة والحديدة رغم انتشار الظاهرة فيها بمعدلات محدودة . وتشير بعض التقارير الحكومية إلى أن كثيرا من جرائم القتل العمد المسجلة خلال الأعوام الماضية كانت لأسباب تعود إلى الثأر بين الأسر في مناطق القبائل ومناطق الأرياف. نزاعات مستمرة عند الحديث عن ظاهرة الثأر فان الأصابع غالبا ما تشير إلى أكثر مناطق الثأر سخونة بوصفها من أقدم صراعات الثأر المنتشرة في اليمن. من ذلك النزاعات التي تطحن سكان القبائل بمحافظة مأرب سيما بين قبيلتي آل بوطهيف وآل عقيل والتي ذهب ضحيتها العشرات من أبناء القبيلتين. وهناك أيضاً الثأر الحاصل بين قبيلتي الدولة والقبائل المجاورة لها في محافظة شبوة والتي أدت إلى صراعات وحروب مسلحة بين أبناء القبيلتين استمرت لأكثر من 20 عاماً. وبالإضافة إلى ذلك فهناك الثأرات الحاصلة بين قبائل خولان وأرحب وقبيلتي وائلة ودهم في صعدة ، وغيرها من صراعات الثأر القبلية المنتشرة في غير محافظة ومنطقة يمنية. وغالبا ما تبدى نزاعات الثأر بصورة فردية بسبب خصومات أو نزاعات عادية أو أخطاء وتجاوزات طارئة ، لكن سرعان ما تتطور لتتحول إلى حروب تستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة المتوافرة تحت أيدي القبائل . يقول حسين علي هيثم أحد قيادات المباحث الجنائية بصنعاء أن قضايا العداء الفردي تتحول إلى صراع قبلي واسع ، لأن القبيلة حينما يقتل أحد أفرادها تندفع بجميع أفرادها للانتقام والأخذ بالثأر وتعمل على قتل خيرة رجال القبيلة الأخرى وليس القاتل فقط . وبهذا الأسلوب من الانتقام تفقد القبائل خيرة رجالها وتتسع دائرة الصراع والاقتتال إلى نزاع شامل يضر بأمن واستقرار مجاميع كبيرة من سكان مناطق الثأر . ويصعب على رجال الشرطة والجيش التدخل لفض النزاعات المسلحة بين القبائل وفي أحيان قليلة تتدخل الدولة لفض النزاع خصوصا إذا كان الصراع بين قبائل صغيرة. ويوضح محمد رماح أحد أبناء محافظة مأرب (إلى الشرق من العاصمة صنعاء) إن وجود عدد من الألوية العسكرية في المحافظة ، لم يؤثر كثيرا في الحد من النزاعات المسلحة بسبب قضايا الثأر . ويشير رماح إلى أن الصراعات والحروب القبلية الناتجة عن قضايا الثأر تجري بصورة اعتيادية دون أي تدخل من هذه القوات .. إذا صادف وأن التقى رجال القبائل ، من أبناء قبيلتي آل بوطهيف وآل عقيل ، في أي وقت فإنهم يتبادلون إطلاق النار فيما بينهم بصورة عشوائية دون أن يتمكن أحد من إيقافهم. وقد تحدث مثل هذه المواجهات في المدن والمناطق البعيدة عن مناطق القبائل بخاصة إذا ما أصر أحد الأطراف على ملاحقة خصمه لأخذ الثأر منه .. وتحدث أحيانا اقتتالات بوسط المناطق السكنية مما يؤدي إلى ارتفاع حصيلة القتلى والمصابين. جذور الظاهرة يذهب الكثير من المهتمين إلى القول إن العديد من قضايا ونزاعات الثأر تعود إلى صراعات قديمة بين القبائل ، التي لا تزال بنيتها الاجتماعية والقانونية قائمة على العرف القبلي الذي ينفي سلطة القانون وحضور الدولة . ويعيد البعض أسباب الانتشار والتنامي الكبير للظاهرة إلى انتشار ظاهرة حمل السلاح وكذا التطويل في إجراءات البت في قضايا الثأر في المحاكم والمماطلة في تنفيذ أحكام القضاء والجهل بالتعاليم الدينية و بالقوانين . ويؤكد الاختصاصيون في الدراسات الاجتماعية إن الحضور المحدود للدولة في مناطق القبائل ومحدودية قدرتها على فرض القانون على الجميع كان من بين الأسباب التي ساعدت على تفاقم ظاهرة الثأر في المجتمع اليمني . ويوضح هؤلاء أن غياب سلطة الدولة على مناطق القبائل أدى إلى انتشار أعمال القتل والجريمة والثأر بصورة كبيرة .. في ظل سيادية الخطاب الذي تتبناه الجماعات القبلية الذي تؤكد فيه أحقيتها في معالجة أية أمور تمس أفراد القبيلة دون اللجوء إلى الدولة ، واعتقادها بأن أية نزاعات أو اشتباكات لا يمكن إدراجها في نطاق الجريمة العامة. ويتحدث البعض عن حالة من عدم الثقة بين رجال القبائل المتجاورة والمتباعدة وعدم ثقة المتنازعين أو قناعتهم بالدولة وأجهزتها لحسم المشكلات القائمة كاسباب في انتشار ظاهرة الثأر . وهناك قناعة راسخة عند الأفراد والجماعات القبلية بأن العرف القبلي أسهل وأضمن لتحقيق الأمن والتضامن والحفاظ على الحقوق والواجبات ، في حين يسيطر اعتقاد آخر لديهم بان اللجوء إلى أجهزة الدولة في مثل هذه القضايا غالباً مما يؤدي إلى تفاقم المشكلات وتمددها أحياناً إلى خارج نطاق القبلية أو القبائل المتعادية. ومما يزيد الطين بلة هو الاعتقاد الراسخ لدى رجال القبائل في أن تدخل الدولة في قضاياهم يعد تعدياً وتحدياً لسلطة القبيلة وأعرافها وهيبة شيوخها. خيارات صعبة تدرك السلطات تماماً ان ظاهرة الثأر قد بلغت حدوداً مقلقة كما ترى فيها عامل إقلاق للأمن والاستقرار سواء في مناطق القبائل أو بداخل المدن الرئيسية التي تحولت إلى مسرح لتصفية الحسابات بين المتخاصمين. وبالمقابل فإن الشارع العام الذي أصبح عرضة للخطر جراء حرب الشوارع ، بات يحمل الدولة بأجهزتها مسؤولية تنامي ظاهرة الثأر على هذا النحو. ومن جهة أخرى يحمل المواطنون الحكومة مسؤولية الأضرار التي تطالهم جراء قضايا الثأر ، خصوصاً ان هناك اعتقاد لديهم أن الدولة وقفت طوال السنوات الماضية عاجزة تماماً عن الحد من الظاهرة أو التقليل من أسبابها على أقل تقدير . هذا الموقف هو الثابت لدى الناس رغم كل الجهود والمحاولات التي بذلتها السلطات منذ سنوات طويلة لحل مشاكل الثأر ، والتي تبنت من خلالها مبادرات عديدة لإقناع القبائل للجلوس إلى مائدة الحوار السلمي وطرح المشكلات وحلها طبقاً للقوانين السارية ، إضافة إلى إجراءات الحد من انتشار ظاهرة حمل السلاح وتفعيل دور المحاكم والقضاء في فصل منازعات الثأر بسرعة ودور أجهزة الأمن والشرطة في إخماد فتيل أية نزاعات جديدة قد تحدث تحت أي مبرر. وتبدو الدولة إزاء هذا الوضع أمام خيارات صعبة، حيث ان تدخلها المباشر والحاسم للقضاء على ظاهرة الثأر سيكلفها الكثير ، بخاصة مع رجال القبائل الذي يرون في تدخل الدولة بقضايا كهذه تعدياً على القبيلة لا يجوز السكوت عليه. وبالعكس فإن خيار ترك الحبل على الغارب لدى السلطات يحمل الكثير من المخاطر على المواطنين والسكينة العامة ويجعل هيبة الدولة وحضورها في حكم المعدوم ويشير المراقبون إلى أن التوجه الذي اعتمدته السلطات أخيرا في إيجاد الحلول لظاهرة الثأر بتشكيلها لجان رسمية وشعبية تضم مسؤولين في الحكومة وشخصيات قبلية ومشيخية يعود إلى حساسية الظاهرة أولاً وتداخلاتها المعقدة ثانياً . وانطلاقاً من الحقائق التي تدركها السلطات اليمنية حول الانتشار الكبير للسلاح في أوساط المواطنين وكذا الأعراف والقوانين القبلية التي لا تعترف بأحقية الدولة التدخل لفصل النزاعات وتكريس الأمن والاستقرار في البلاد ، تظل المبادرات التي تبنتها السلطات للحد من ظاهرة الثأر محل شكوك ، بخاصة وأن هذه المبادرات لم تختلف ولو قليلاً عن المبادرات القديمة ، التي حدث أن ماتت قبل أن تبدأ.