القبيلة اليمنية عالم فريد في تكوينه وصفاته... أنصارها يصفونها بمنبع الأصالة ومهد الحضارة... أعداؤها ينعتونها بالتخلف وينسبون اليها كل الجمود والرجعية... ومع ذلك تبقى القبيلة في اليمن قصراً مسحوراً مدهشاً يغري بالتوغل في أعماقه... إنها الكل في واحد... يجمعها دستور عرفي أقوى نفاذاً من قوانين الدولة... السلاح شرفها و كرامتها... والسياسة عنوان لصراع طويل مع النفس والغير لا يخلو من مكاسب. الباحث فضل علي أبو غانم أستاذ علم الاجتماع ونائب رئيس جامعة صنعاء واحد من أبرز العلماء المتخصصين في دراسة القبيلة اليمنية حتى ان رسالتيه للماجستير والدكتوراه كانتا عن القبيلة. يقول الدكتور أبو غانم في حوار خاص مع "الحياة": "عندما ننظر الى البناء القبلي كظاهرة تاريخية اجتماعية نجد أن هذا البناء يمثل اللبنة الأولى والأساسية في تكوين المجتمع والدولة اليمنية القديمة سواء المعينية أو السبأية والتي كانت عبارة عن اتحاد قبلي. وعندما كانت تنهار الدولة من خلال الصراع تنشأ غيرها ويتلاشى الاتحاد ولكن تبقى القبيلة، أي أن الدولة ولدت في أحشاء القبيلة وليس العكس". ويؤكد أن القبيلة في اليمن لا تزال تحتفظ بعلاقات الانتاج والأنظمة الاجتماعية والقانونية التي نشأت عليها، وتحتفظ لنفسها بكثير من السمات القديمة واستطاعت أن تحمي وجودها عبر مراحل التاريخ حتى في الفترات التي عاشت فيها اليمن من دون دولة كانت القبيلة تمثل وحدة سياسية واجتماعية لها مقومات تشبه الدولة... كيف ذلك؟ يجيب الدكتور أبو غانم: "يتم ضمن البنيان القبلي تحديد الحقوق والواجبات وتوزيع السلطة والعقوبة والجزاء في مواجهة الوحدات القبلية الأخرى كما هو الحال مع الدول. أيضاً هناك مصطلحات تشبه المفردات الدولية، فالفئات المهاجرة "أي المحصنة" في القبيلة مثل السادة والقضاة تقوم وقت الأزمات بدور "الصليب الأحمر الدولي" فأفرادها ينقلون الرسائل والجرحى من دون أن يمسهم سوء من أي طرف محارب. والعلاقات القبلية مبنية على الندية والمساواة وليس على فرض القوة، ومثلما يحق لأي زعيم أو سياسي أن يطلب اللجوء من أي دولة فإن هذا الأمر يعرف قبلياً بحق المخا. أي تقبله القبيلة بشرط ألا يكون هارباً من قضية مخلة بالشرف أو العرض أو عليه حقوق للآخرين. وتتعهد القبيلة بنصرة هذا اللاجئ وتتحمل عنه أي مسؤوليات تجاه أي طرف آخر. بالاضافة الى ذلك فإن بعض الوحدات القبلية الصغيرة لا تستطيع جارتها الكبيرة أن تكتسحها أو تطمع فيها ويسمى هذا خرق دمنة. وإذا أقدمت الكبيرة على ذلك تقف في وجهها كل القبائل. ويقول الباحث أبو غانم أن أئمة اليمن الذين حكموها مدة تزيد عن ألف عام حاولوا توظيف القبائل سياسياً لخدمة أغراضهم وتأجيج الصراعات بين القبائل. ويؤكد أن النظام القبلي ديموقراطي في طبعه فلا يجوز أن يفرض شخص نفسه على الآخرين على أنه شيخهم الا بعد أن يقر الناس جميعاً بذلك وهي عملية تشبه الى حد كبير الحكم المحلي في الوقت الحاضر. كما أن القبيلة تحتفظ بقدر كبير من القيم وترفض الظلم وتساعد المحتاج. ويلفت أبو غانم الانتباه الى أن العملية الديموقراطية داخل القبيلة تبدأ من القاعدة الى القمة. فالقبيلة تنقسم وحداتها الى قرى ومحلات يطلق عليها اسم أخماس أو أسداس أو أرباع بحسب عددها. وعلى صعيد القرية الصغيرة يتم اختيار الشيخ ويجب أن يكون شجاعاً وصارماً وكريماً ومتواضعاً ويعتبر أميناً للقرية ثم يتجمع أمناء القرى ويختارون شيخاً لهم عن الربع أو الخمس وهكذا يتم اختيار شيخ للقبيلة كلها. وفي بعض الأحيان يكون للقبيلة مشايخ عدة مثل أرحب قرب صنعاء والتي ينتسب أبناؤها الى أرحب بن الدعام. أما شيخ القبيلة كما يقول أبو غانم فهناك مقومات توجب سقوطه وتغييره فوراً ومنها الظلم والخيانة والعجز حيث يتم اختيار شخص آخر يكون غالباً من أفراد الأسرة، وإذا أخطأ الشيخ تكون عقوبته بالمربوع أي أربعة أمثال الشخص العادي وإذا أساء أحد إليه تكون عقوبته بالمربوع أيضاً على اعتبار أنه يتمتع بالحصانة وتعرض عليه خصومات يومية. وهناك أماكن في القبيلة تسمى "مهجر" لها حصانتها مثل السوق فلا يمكن أن يأخذ فيها الثأر حتى لو وجد الشخص غريمه وكذلك مكان وجود شيخ القبيلة والبيوت وأماكن وجود النساء والأطفال. ويذكر أبو غانم أن العرف القبلي أقوى من قواعد الشرع أو القانون. فالشريعة تركز على التعويض في الحقوق بينما يهتم العرف القبلي برد الاعتبار أولاً ثم أخذ الحق والقصاص لأن الخطأ والجريمة يمسان القبيلة كلها ويخرقان السلام الاجتماعي. فمثلاً اذا قتل شخص ضيفه أو اعتدى على النساء أو الأطفال تقطع يده اليمنى أولاً وهذا يسمى حق العيب ثم يعالج هذا الشخص حتى يشفى ثم يقتصون منه قتلاً. تنقسم أنواع العيوب التي تستوجب العقوبة وفقاً للنظام القبلي اليمني الى ثلاثة: الأول ويسمى "العيب الأسود" أي أن يقوم شخص أو مجموعة بقتل الضيف في بيتهم أو أن يقتلوا شخصاً حصل على مأمنه حتى ولو كان يهودياً فيحكم عليه بتخريب جزء من بيته أولاً ثم يعاقب بما يسمى "المحداش" أي 11 دية بمعنى أن يدفع الجاني عشر ديات وتكون الدية الحادية عشرة رأسه هو أي يقتل. وبعض القبائل تقوم بطرد الجاني مدة سنة قبل أن تنفذ فيه الأحكام السابقة. والثاني ويسمى "العيب الأحمر" ويعني أن شخصاً قتل آخر في فترة صلح بين الطرفين وعقوبته الدية بالمربع فيدفع أربع ديات مع رأسه وفي بعض المناطق يهدم جزء من بيته على سبيل الاحتقار والمهانة. أما "العيب الأبيض" فيعني القتل في حرب معلنة بين الطرفين وعقوبته دفع دية واحدة فقط ولذلك سمي "العيب الأبيض" لأن الأطراف تدخل الحرب وهي تعرف أنه لا بد من أن يقتل أشخاص. وفي نطاق نشاطها السياسي لجأت القبائل اليمنية خصوصاً في فترة السبعينات الى استضافة زعماء الأحزاب السياسية التي كانت محظورة ومنعها من الدولة. وبدلاً من أن يحدث السياسيون تغييراً في تفكير المشايخ طوعهم رجال القبائل لتحقيق مصالحهم وطموحاتهم بل في وصولهم الى علاقات مع دول عربية. ومن هذا تعاظم الإحساس كما يقول أبو غانم لدى القبيلة أنها هي التي أسست الدولة وهي التي تحميها. وتروى أيضاً حكايات كانت تحدث أيام الإمام أحمد عندما كانت القبائل تتجمع خارج سور صنعاء بعد أن يصيبها موسم القحط وتطلب من الإمام أن يفتح لها الخزائن لتأخذ منها ما تحتاجه. وإذا لم تجد شيئاً تتوجه الى تهامة في الشمال الغربي. ومن الناحية التاريخية فإن القبيلة اليمنية تأسست علاقاتها على نمط الانتاج الحربي واقتصاد الغزو. فالغزو يمثل ظاهرة ايجابية ويدل على الفروسية فمثلاً عنترة بن شداد ذهب الى النعمان لكي يحضر مئات الناقات مهراً لكي يتزوج عبلة. ولا يفرق القبيلي بين ما يحصل عليه من انتاج الأرض وما يحصل عليه بحد السيف. ومن المفارقات العجيبة أن الجوف ومأرب وهي أهم مناطق الزراعة في اليمن كان ينظر فيها رجل القبيلة قديماً الى الزراعة والتجارة كعمل محتقر ومنبوذ. ويرفض أبو غانم القول ان القبيلة مجتمع مقفل أو مغلق ومتعصب ويقول ان المجتمع القبلي عنده خصوصية حضارية تاريخية. ورجل القبيلة ليس ضد التغيير في حياته سواء في الجانب الاقتصادي أو الثقافي ولا تدخل منزل أحد المشايخ حالياً الا وتجد فيه كل مقتنيات العصر والكماليات حتى ولو لم يجد استخدامها. وبات رجال القبائل الآن من كبار التجار وأصحاب الوكالات والمصانع بعدما كانوا قديماً يفضلون أكل الأعشاب على العمل في الزراعة أو البيع. حاشد وبكيل ولكن ما هي أبرز قبائل اليمن حالياً؟ يجيب فضل أبو غانم: "هناك اتحاد قبائل حاشد وبكيل وهناك اتحاد لقبائل كل منهما وهما ينتسبان الى قبيلة همدان الأم التي تفرعوا عنها. وبعض القبائل ترى نفسها أصلية أي متحيشدة أو متبكيلة وهناك قبائل ملحقة بهما. والعلاقة بين القبيلتين ليست في خصومة مستمرة كما انها ليست منسجمة دائماً". داخل كل اتحاد منهما منازعات وحروب ولكن عندما يحدث التوتر بين الاتحادين تختفي الخلافات الداخلية استعداداً للخطر الخارجي. ويشير أبو غانم أيضاً الى أن من سمات التطور في القبيلة غياب الأسرة الأبوية والمركبة وظهور الأسرة الزوجية حيث يمكن الأبناء ان يمارسوا مهناً تختلف عن مهن آبائهم فضلاً عن تغير النظرة الى المرأة والزواج والعلاقات الاجتماعية بسبب انتشار التعليم وخصوصاً في أوساط الفتيات. ويؤكد أبو غانم على حقيقة مهمة وهي أن القبيلة في اليمن تميزت بدور وطني كبير خلال قيام ثورة 26 أيلول سبتمبر عام 1962 أو خلال معركة الانفصال والدفاع عن الوحدة اليمنية فقد سيرت القوافل من الرجال والعتاد من دون انتظار إذن الدولة لأنها شعرت بالخطر على البلاد. ويفسر أبو غانم الصراعات والنزاعات التي كثيراً ما تدور بين القبائل بأنها لا تعود الى أسباب قبلية بحتة ولكنها توظف سياسياً من قوى وعوامل خارجها تعمل على تأجيج الصراعات في ما بينها حتى تنهك قوتها ويطول أمد الخلاف. ويستغرب الباحث غانم لجوء رجال القبائل الى أخذ معظم الثارات في صنعاء حالياً والتي كانت تسمى قديماً خزن الروس، وكان إذا وجد شخص غريمه لا يتعرض له داخل المدينة إطلاقاً، ويعلق على ذلك أن الشخص لو أخذ ثأره داخل القبيلة فإن قبيلته ستكون ملزمة بحمايته والدفاع عنه أو تسليمه في حال كان المعتدي، فيفضل الجاني أن يلجأ الى أحد المسؤولين أو الأقوياء في صنعاء لحمايته واللجوء اليه. وعن قيمة السلاح بالنسبة لرجال القبائل اليمنيين يقول أبو غانم ان السلاح من عوامل الاستقرار والسلام الاجتماعي وينظر اليه رجل القبيلة كقيمة ايجابية تكمل ذاته وشخصيته وتعطيه وزناً عند الآخرين. والسلاح ليس من أجل النهب أو القتل ولكن من أجل الدفاع عن العرض وهو أىضاً يحمي عرض الآخرين، وكثيراً ما يحل السلاح مشكلات. عندما يختلف مثلاً شخصان حول تصفية حسابات بينهما ويتأزم الموقف يرمي أحدهما سلاحه ويسمى سلاح المصفى أي تصفية الحساب حتى يتم عرض الموضوع على شيخ القبيلة ويتم حله سلمياً. وهناك بندق النصف بفتح الصاد ويقصد به أن الشخص يريك أن عنده الحق وهناك بندق المخا عند استضافة شخص غريب.