عام 1989 خاطب جيمس بيكر اللوبي الصهيوني في واشنطن قائلاً: "بعد نتائج حرب 1973 على قناة السويس وبعدما عجز الجيش الإسرائيلي عن الدخول إلى بيروت والاحتفاظ بها، وبعد الفشل في إخماد الانتفاضة، فإن فكرة إسرائيل الكبرى لم تعد قابلة للتحقيق". شمعون بيريز واسحق رابين اللذان أدركا مبكراً أن قيمة إسرائيل الاستراتيجية تضعف تدريجاً أخذا يعملان للحفاظ على وظيفة لإسرائيل في المنطقة، فتبنيا تصوراً لوضع حل في الشرق الأوسط تحت شعار "الأرض مقابل السلام"، حيث سيؤمن السلام لإسرائيل الاندماج في المنطقة وقيام إسرائيل العظمى اقتصادياً بديلاً من إسرائيل الكبرى جغرافياً، مقابل إعادة الأرض للعرب والفلسطينيين. المجتمع الإسرائيلي لم يقبل تصور رابين - بيريز الجديد بحجة أن ذلك سينهي نظرية إسرائيل القلعة ويزيل الطابع اليهودي عن الدولة، فتم اغتيال رابين وسقط بيريز في الانتخابات. جاء بنيامين نتانياهو بتصور آخر مناقض لتصور رابين - بيريز، رافضاً التطبيع مع العرب ومصمماً على أن إسرائيل جغرافياً في الشرق الأوسط ولكنها سياسياً واقتصادياً فوق المنطقة، وأنها في عالم العولمة شريكة للغرب. وبلغ به الغرور أن هدد بإحراق واشنطن إن هي لم تستجب لتوجهاته، فتمت هزيمته انتخابياً بتدخل وتشجيع خارجيين. ايهود باراك رجل عسكري، غير مسيَّس، ومشكلته أنه تائه ليس لديه تصور شامل للسلام، كل ما لديه تصور لما يراه كمتطلبات أمنية من زاوية إسرائيلية محضة، كالانسحاب من لبنان من جانب واحد لأن جنوده اصيبوا بالرعب والهلع، وأصبحوا غير قادرين على مواجهة رجال "حزب الله". وهو تائه في تحديد الأولوية: للسلام مع الفلسطينيين أم للتركيز على جعل الدولة الإسرائيلية دولة علمانية بعدما تجاوزت نسبة التيار الديني في إسرائيل ال46 في المئة؟ أما خطته المتناقضة التي تهدف، كما يدعي، إلى إحياء عملية السلام عبر استخدام القوة بشكل مكثف لكبح انتفاضة غير مسلحة للشعب الفلسطيني، فجرها الإحباط لدليل كبير على التيه الذي يعاني منه. فالمتناقضات يستحيل تسويقها معاً. مطلوب من باراك أن يتبنى تصوراً حول ماهية السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. وهو معادلة لها حدان: حد يمثل المصالح الفلسطينية، وحد آخر يمثل المصالح الإسرائيلية انطلاقاً من قرارات الشرعية الدولية 242 و194، واستناداً إلى القرار 181 الذي أعلن ولادة دولتين يهودية وعربية فلسطينية، والقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل والقدسالشرقية التي احتلت عام 1967 عاصمة الدولة الفلسطينية والتي حدودها حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. لقد برهن مسار الأحداث والتسوية السياسية ان السلام لا يوحّد الإسرائيليين، بل على العكس يُحدث اهتزازاً استراتيجياً داخل المجتمع الإسرائيلي. فعمل باراك على وضع الرئيس عرفات تحت الضغط الأميركي المباشر عبر الرئيس بيل كلينتون، متوهماً بأن الرئيس الفلسطيني لن يغامر بالدخول في مواجهة مع الولاياتالمتحدة. أجهزة جمع المعلومات الإسرائيلية لها شهرة عالمية في قدرتها على العلم والمعرفة والسيطرة المعلوماتية، إلا أنها أيضاً معروف عنها وعن المؤسسات الإسرائيلية عجزها عن استقراء المعلومات واستشراف المستقبل وتقدير الموقف الصحيح. فلقد عايشنا ذلك في حرب العام 1973 التي داهمت المواقع والقيادات الإسرائيلية بذهول كبير، وعايشنا ذلك في أحداث عام 1982 يوم توقع مجرم الحرب ارييل شارون دخول بيروت خلال أسبوعين ولم يتمكن من ذلك بعد مرور ثلاثة شهور وفشل. وها نحن نعايش إدارة باراك للصراع مع الفلسطينيين وبخاصة مع رئيسهم ياسر عرفات، متوهماً أن أحداً من العرب أو قادة العالم الثالث لا يقول "لا" لرئيس الولاياتالمتحدة، فبنى استراتيجيته لفرض لاءاته الأربع على الفلسطينيين، مختاراً موضوع السيادة على القدس كعنوان لتلك الاستراتيجية، تاركاً لكلينتون ومادلين أولبرايت استخراج الكستناء من النار لصالح لاءاته. أثبتت الأحداث أن باراك وأجهزته الأمنية والمعلوماتية لا تعرف شيئاً عن طبيعة ياسر عرفات التي تتميز بأن بعدها الأول هو الصراع، وانها تنتشي بخوض الصراع. وكذلك لا تعرف شيئاً عن نفسية الشعب الفلسطيني الذي يجمد كل تناقضاته الداخلية ويتوحد حول رئيسه وقيادته السياسية إذا ما تعلق الأمر بموقف إسرائيلي يمس قضايا الأمن القومي الفلسطيني. وهكذا سقطت استراتيجية باراك والرئيس كلينتون حينما فوجئا برئيس الشعب الفلسطيني يقول لا لكلينتون رافضاً لاءات باراك، متمسكاً بفلسطينية السيادة على القدس. وعاد باراك إلى مقره في رئاسة الوزراء تائهاً لا يعرف إلا التخبط. باراك يدّعي انه لم يعد هنالك شريك فلسطيني يصنع معه السلام. في الواقع انه يقلب الحقائق لأنه يبحث عن طريق للهروب من المفاوضات واعادة الأراضي العربية الفلسطينية والسورية، فأرسل شارون الى باحة المسجد الأقصى ومعه ألفا شرطي مشعلاً بذلك المواجهة الراهنة لعلمه بأن الفلسطينيين لا يمكن أن يقفوا موقف المتفرج في موضوع زيارة قاتل الفلسطينيين شارون الى القدس. فشارون يفجّر وباراك يضرب وواشنطن تبتز سياسياً واقتصادياً، وبذلك يتم اخضاع الفلسطينيين وتكييف مطالبهم مع الحاجات الدينية التلمودية بعدما كانوا يطالبوهم بتلبية الحاجات الأمنية الاسرائيلية مقابل الأرض. اني لأحيي شجاعة تانيا رينهارت البورفسورة في جامعة تل ابيب التي كتبت تقول "لا يتحمل شارون وحده مسؤولية المذبحة التي اشتعلت في المنطقة، بل باراك وبن عامي و"معسكر السلام" الاسرائيلي أيضاً، الذي أيد حكومة الجنرالات على طول الطريق. لقد دخل شارون الى الحرم بموافقة باراك والحكومة. وزيارته خطط لها بحرص وقام بحراستها مئات الجنود وأفراد الشرطة. باراك هو الذي أمر باطلاق النار لغرض القتل، مع كل مظهر من مظاهر الاحتجاج، مع علمه ان هذا سيشعل المناطق". الفلسطينيون كالاسرائيليين يدركون ان المواجهة العسكرية الجارية ليست سوى التعبير عن صراع استراتيجيات بين الطرفين على مستوى الاستراتيجيات الكبرى لا الصغرى. فالحديث عن حدود الدولة الفلسطينية هو في الوقت نفسه حديث عن حدود اسرائيل. والحديث عن طبيعة الدولة الفلسطينية وعلاقاتها مع جيرانها هو حديث عن الأمن القومي الفلسطيني والاسرائيلي في الوقت نفسه. ولذلك فإن اسرائيل لا يكمن مأزقها في الانقسام الحاد بين العلمانيين والمتدينين في مجتمع ما زال تجمعاً ولم يتحول بعد الى مجتمع، بل في تحديد أي خيار استراتيجي تختار لتجد لنفسها وظيفة أمنية - اقتصادية كأداة ضبط لدول المنطقة معتمدة من الغرب بعدما تقلصت قيمتها الاستراتيجية بسبب انتهاء الحرب الباردة ودخول المنطقة مرحلة أسلحة الدمار الشامل. ان انتفاضة الأقصى ليست الانتفاضة الأولى وقد لا تكون الأخيرة، ولكنها من دون شك الطريق الأقصر لإقناع الأميركيين والاسرائيليين بأنه ما من طريقة لإجبار الشعب الفلسطيني على الخضوع والتنازل عن ثوابته، فهو شعب غير صالح للابتزاز أو الضغط، وانه إذا ما غضب دفاعاً عن قدسه ونهره وسيادته على أرضه هرع العالمان العربي والاسلامي لنجدته لإثبات ان الحرب التي أعلنتها اسرائيل لكسر إرادة المقاومة السياسية للشعب الفلسطيني ستفشل مثلها مثل حربها ضد المقاومة اللبنانية. متى سيدرك باراك ان منطق الحرب يختلف عن منطق السلام وان لكل منطق ثقافته؟ فمنطق السلام يقوم على التعايش مع الآخر بينما منطق الحرب يعمل على إفناء الآخر. منطق السلام يقوم على مبدأ المشاركة ذات المصالح المتوازنة بينما يقوم منطق الحرب على السيطرة على الآخر. فليقل لنا باراك أي منطق يريد؟ نحن اخترنا منطق السلام، وعلى استعداد، مقابل الحصول على الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة القابلة للحياة وعاصمتها القدس وحل قضية اللاجئين على أساس الشرعية الدولية، ان نقوم بالتزاماتنا كاملة. ونأمل ان تكون رسالة انتفاضة الأقصى قد وصلت، فيكف باراك عن التفكير بمنطق الحرب بعدما أثبتت الأحداث انه عندما يكون السيف الفلسطيني قصيراً أمام السيف الاسرائيلي فإن الفلسطيني لا يلقي سيفه من يده بل يعوض النقص بالتقدم خطوتين للأمام. * مفوض العلاقات الخارجية في حركة "فتح"