"لا داعي للضحك أو البكاء بل للفهم". سبينوزا السؤال الذي لا بد من الإجابة عنه بشجاعة فكرية، أي دون ان نعطل ادمغتنا ونطلق لاهوائنا العنان هو: لماذا انتخب الاسرائيلي العادي شارون الذي قال عنه جيمس بيكر انه "عقبة في وجه السلام" فيما 67 في المئة من الاسرائيليين صوتوا دائماً في الاستطلاعات للسلام؟ ناخب شارون الأول هو المخاوف التي أرسلت عقول الناخبين في إجازة. الخوف يجعل فريسته تركز على العاجل بدل الآجل. هاجس الأمن أنسى الاسرائيلي السلام، فصوّت للأب الحامي شارون. غداة انتخاب باراك اعتقد الاسرائيليون ان السلام ومرادفه الأمن على الأبواب. لكن سرعان ما ساورتهم الشكوك في جدوى السلام بعد فشل كامب ديفيد خاصة وان الاعلام الاسرائيلي والعالمي والديبلوماسية الدولية قدمت لهم تنازلات باراك كأول انتهاك للمحرمات الاسرائيلية التقليدية. ردّ الفلسطينيين بالانتفاضة على فشل كامب ديفيد زاد الاسرائيليين خوفاً على خوف. ما رافق الانتفاضة من غياب التنظيم وتحرر الغرائز والقتل الجماعي، فضلاً عن عمليات حرب العصابات والعمليات الانتحارية، حوّل السلام في نظر الرأي العام الاسرائيلي من وعد بالأمن الى وعيد بالسيارات المفخخة. ثم كانت مطالبة السلطة الفلسطينية الدراماتيكية بعودة 3.7 مليون لاجئ الى اسرائيل القطرة التي أفاضت كأس الخوف الاسرائيلي. اذ تشرب الجمهور والنخبة معاً ذلك كنيّة مُبيّتة لتغيير الهوية اليهودية للدولة تمهيداً لإقامة دولة ثنائية القومية على انقاضها. هذا المطلب التعجيزي الذي لا تقبله حتى حكومةا يرأسه أوري أفنيري ساعد أعداء السلام اليهود الذين يقولون ان السلام خطر على الهوية اليهودية التي ستذوب في البحر الديموغرافي العربي. من مآسي الفكر "السياسي" العربي ان شعار حق العودة الذي جنّد الاسرائيليين لصالح شارون هو في الواقع أكذوبة على الاسرائيليين واللاجئين معاً. ما يطالب به المفاوض الفلسطيني في الغرف المغلقة ليس حق العودة بل مجرد الاعتراف بمسؤولية اسرائيل عن مأساة اللاجئين وعودة رمزية لا تختلف نوعياً عن "جمع الشمل" الذي وعد به باراك والذي قد يستفيد منه مئة ألف لاجئ. لولا سياسة الوجهين الجبانة الملازمة للحاكم العربي كمرض مزمن لأعلن المفاوض الفلسطيني ما يقوله في الكواليس أمام الاعلام العالمي ولوجد عندئذ التعاطف لا الشجب الذي ينزل على رأسه اليوم جراء دوره في انتخاب "الاسرائيلي البشع". في الواقع المفاوض الفلسطيني هو عرفات المنفرد بصناعة واتخاذ القرار تماماً كصديقه صدام حسين. لذلك رفض نتائج مفاوضات طابا التي وافق عليها الوفد الفلسطيني ونسف مشروع القمة مع باراك التي كانت ستكرس هذه النتائج في بيان موقع وملزم قانونياً أو على الأقل معنوياً للطرفين. في الأحاديث الخاصة للاعلاميين الاجانب يبرر العرفاتيون رفض التوقيع على بيان مع باراك بعذر أقبح من ذنب: نعلم سلفاً ان الاسرائيليين لن يصوتوا في الاستفتاء على السلام لصالح السلام، فما جدوى التوقيع مع باراك على سلام سيبقى حبراً على ورق؟ تناسوا، أولاً، ان احتمالية الرفض ليست عالية، فالاسرائيليون يعون مخاطر عزلة اسرائيل العالمية ديبلوماسياً واعلامياً. وتناسوا أخيراً ان العالم الذي يعطي لاستقرار الشرق الأوسط، خزان النفط، أولوية خاصة سيعاقب الاسرائيليين على رفضهم للسلام. وفي الحالتين الفلسطينيون هم الرابحون. بعد الخوف والتخويف من السلام جاء دور الثأر العشائري. الاسرائيليون العرب، الذين يمثلون أكثر من 13 في المئة من الاصوات والذين لا يستطيع اليسار كسب أية انتخابات من دون اصواتهم، لم يستجيبوا لنداء ياسر عبدربه الذي دعاهم، وعياً منه لرهان اسقاط باراك بشارون، للتصويت لباراك، بل استجابوا لتقاليدهم البالية، لمشاعر الثأر العقيمة غير مبالين بنجاح شارون بكل ما يمثله ويرمز اليه بالنسبة الى الفلسطينيين. لو لم تخنهم الشجاعة السياسية لقايضوا أصواتهم بتحقيق بعض مطالبهم كما يفعل يهود الشتات. على الجانب اليهودي انتخب شارون في من انتخبوه، مليون مهاجر روسي جزء كبير منهم مسلمون اشتروا من البوليس الروسي الهوية اليهودية طمعاً في جنة أرض الميعاد من دون منافس فلسطيني عليها. لكن أخطر ناخبيه اليهود المؤسسة العسكرية المصابة بالجنون الدموي الذي أصاب قبلها الجيوش الاستعمارية في ربع الساعة الأخير من عمر الاستعمار. الصراع بينها وبين باراك معروف. لقد نفذ الانسحاب الآحادي الجانب من لبنان رغم معارضتها ومعارضة شارون معاً. وغداة خطف حزب الله للجنود الثلاثة في مزارع شبعا رفض باراك نصيحة كل من شارون وقائد الأركان، موفاز، بضرب البنية التحتية اللبنانية ومواقع الجيش السوري في البقاع. وللمؤسسة العسكرية مأخذ آخر على باراك غني بالدلالات المستقبلية: عدم استجابته طلبها قمع الانتفاضة "كما يجب" على حد قول الجنرال بوغي يالون. المؤسسة العسكرية منطقية مع نفسها عندما تتبنى ترشيح شارون لأنه يتفق معها في نقطتين اساسيتين: ضرورة استخدام القوة الغاشمة دون تردد لردع أو معاقبة "أعداء اسرائيل" واعتبار جميع المستوطنات مصلحة أمنية استراتيجية لا تقبل المساومة، وكذلك غور الأردن. في العمق قلة نضج الشعبين للسلام المؤلم لكليهما هو الذي انتخب شارون بالأمس، وربما نتانياهو غداً. مؤشرات ذلك لا تكاد تحصى. مثلاً أثناء مفاوضات السلام كان الاسرائيليون يوسعون ويبنون المستوطنات ويصادرون أراضي الفلسطينيين ويجرّعونهم كأس المذلة ألواناً. وفي المقابل كان الفلسطينيون، الذين استنجدوا بحلول اليأس العقيمة، يعلقون في مدارسهم خريطة فلسطين الانتدابية تعبيراً عن رفضهم الاعتراف بوجود اسرائيل. عن صواب يلاحظ المؤرخ سترنهيل ان خوف الاسرائيليين الذي دفعهم الى أحضان شارون يعبر عن عدم نضجهم للسلام ورفضهم للتضحيات التي طلبها منهم باراك من أجله. لأنهم ما زالوا "أسرى اسطورة ان قوة اسرائيل العسكرية تكفي لردع العرب ... كما ان الفلسطينيين ما زالوا لم ينضجوا للسلام لأنهم بدورهم لم يتحرروا بعد من أحلامهم اللاواقعية". في الحقيقة لن ينضج الشعبان للسلام الا عندما يعلنان الحداد أحدهما على اسرائيل الكبرى في حدودها التوراتية والآخر على فلسطينيين الانتدابية من البحر الى النهر. وفي انتظار ذلك على العالم ان يعجّل نضجهما بفرض السلام الضروري لهما وللعالم رغماً عنهما. كيف؟ ان يقرر العالم ممارسة ضغوط حقيقية ديبلوماسية، اقتصادية واعلامية على حكومة شارون. واذا نفذت المؤسسة العسكرية خطتها لقمع الانتفاضة بالدم أو تدمير لبنان أو شن حرب على سورية قد تؤدي الى فوضى بلا حدود، فلا مفر من تدخل مجلس الأمن بالسرعة الضرورية لوقف الحرب وفرض حل يرضي المطالب الدنيا للطرفين. فمن العبث ترك مصير المنطقة والعالم تحت رحمة شعوب ما زالت أسيرة غرائزها البدائية وقيادات تقودها أهواؤها الدموية. السيناريوات الكارثية ليست في الواقع غريبة عن مزاج شارون الذي يعرّف نفسه في مذكراته بأنه "محارب متوحش". لكن ما كل ما يتمنى شارون يدركه في عصر الثورة الاعلامية العالمية والمحاكمة الجنائية الدولية. لذلك ربما نجا الشرق الأوسط من الاحتمالات التراجيدية إياها دون ان يحقق مع ذلك الاحتمالات السلمية التي وعدت بها مقترحات كلينتون وتجميلات طابا لها. في مثل هذا الوضع البائس قد يتحقق السيناريو الذي يشبه سيناريو الانسحاب من طرف واحد من لبنان. وهو سيناريو اعده باراك بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد: الانسحاب من الضفة الغربية الى الحدود التي اقترحها الوفد الاسرائيلي في المؤتمر المذكور. وفي المقابل يعلن عرفات من طرف واحد، ولكن باتفاق ضمني مع اسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، الدولة الفلسطينية التي تعترف بها اسرائيل ثم تشرع في مفاوضات ماراتونية معها على الحدود الدائمة، القدس واللاجئين. قال شمعون بيريز ان أحمد قريع وافق على هذا السيناريو الذي يؤجل القضايا الخلافية الى "أوقات أفضل". وهكذا فبدلاً مما اعطته مقترحات كلينتون: غزة، الاحياء العربية في القدس، الاقصى، دولة قابلة للحياة، 95 في المئة من الضفة و3 في المئة من صحراء النقب تقام عليها مدينة صناعية للاجئي لبنان فضلاً عن التعويضات المجزية والمساعدات الاقتصادية والتكنولوجية والفرحة الغامرة التي سيشعر بها جميع المسالمين في العالم... ترضى القيادة الفلسطينية بحدود ينسحب اليها جيش الاحتلال على هواه. وهذا "المكسب" البائس مشروط بقبول المستر شارون له!