لم يولد الانسان في المدن، كما نعتقد لفرط ما تقولبنا على الحياة المدينية، ولم يولد الانسان صانعاً ومنتجاً، بل صياداً، يعيش على القنص وعلى غزو خيرات الطبيعة. هذا تعلمنا إياه وتذكرنا به بعض القبائل المنسية في افريقيا، التي بقيت على علاقة وثيقة بالطبيعة وبسبل المعيشة التي عرفها البشر في فجر الانسانية. فانتاج العسل، بعد ترويض النحل وجعله يسكن ويعمل في مصانع صغيرة تُسمّى اليوم صناديق النحل ابتكرها راهب اميركي في نهاية القرن التاسع عشر على أساس براويز متحركة يثبّت النحل عليها أقراص شمعه، فيسرقها بعدها النحّال - ربّ العمل لم يكن مألوفاً في سابق العصور، بل ما كان معتمداً هو غزو النحل غزواً عشوائياً وملاحقته في عقر داره، في الطبيعة، أكان داخل مغارة أم في جذع شجرة أو في جدران بيت مهجور. فالحصول على العسل اليوم يأتي من طريق النحّال، أو مربي النحل، العالم بخصوصيات حياة هذه الحشرة الخصبة والذي هو قادر لذلك على تطويعها وجعلها تعمل لمصلحته، كما لو تعلّق الأمر بقطيع من الماعز أو الخراف. لكن زمن القنص الذي عاشت عليه البشرية مدة طويلة، ما زال حياً عند قبيلة "غبايا" الكاميرونية، في وسط افريقيا، فهي تستخدم في الحصول على العسل، تقنيات عمرها عشرات القرون. رجال هذه القبيلة تُطلق عليهم تسمية "رجال العسل"، ليسوا في الواق بنحّالين، كما قد يتبادر الى ذهننا، بل هم قنّاصون، يتجهون مجموعات صغيرة 5 - 6 أشخاص الى الغابة خلال شهر شباط فبراير، وهو شهر حصاد العسل عندهم. وينبغي ألا ننسى هنا أن الكاميرون يقع في المناخ الاستوائي، فيكون فيه شهر شباط نهاية الموسم الجاف وبداية موسم الأمطار. لذلك فإن النحالين عندنا يقطفون العسل في شهر أيلول سبتمبر، في حين تتم هذه العملية في الكاميرون بعد ستة أشهر. إلا أن صيد العسل لا يخلو من المخاطر، ومنها خطر الموت، ذلك ان لسعة النحلة الافريقية السوداء أشد فتكاً من لسعة النحلة الأوروبية. كما ان هجومية النحلة الافريقية مشهود لها عالمياً. فهذه النحلة تعيش في الغابات الأفريقية الكثيفة، في جذوع الأشجار الشاهقة، وتدافع عن نفسها وعن عسلها بشراسة. غير ان حيلة الانسان حاضرة على الدوام في تعاطيه مع الأمور المستعصية. فرجال قبيلة غبايا الذين يقصدون الأدغال لجني العسل يستعينون بطائر صغير يطلقون عليه اسم "مرشد العسل". وهو طائر معتاد على ما يبدو منذ زمن طويل على مشاركة رجال القبائل في صيد العسل كما هي الحال بالنسبة الى بدو قبيلة إمراغن، في موريتانيا، في علاقتهم مع الدلافين أثناء صيدهم لسمك البوري يستجيب لنداء قنّاصي قبيلة غبايا، ولصفيرهم المميز ولصراخهم وطرق حرباتهم على جذوع الأشجار، فيأتي اليهم ويرافقهم الى داخل الغابة. ويتنقل مرشد النحل من غصن الى غصن، في وثبات قصيرة، فوق رؤوس رفاقه، حتى يصل الى موقع القفير. فيبدأ عندها بالطيران في شكل عمودي، نحو رأس الشجرة. عندها يفهم رجال القبيلة انهم وصلوا الشجرة التي يختبئ فيها قفير النحل. فيحددون موقعه ثم يقومون بصنع سلم من الأغصان والألياف الموجودة حولهم كي يتمكن قاطف العسل من بلوغ فوهة القفير في شكل مرتاح. خلال المساء يقوم اعضاء المجموعة بحياكة لباس قاطف العسل، من القش المحلي الذي يغطي جسمه بكامله، ما عدا يديه ورجليه، مع فتحتين صغيرتين جداً للعيون. وهذه البزّة الحامية للقاطف، خفيفة، لكنها لا تسمح بالحركة الطبيعية، لذلك فإن قاطف العسل ينبغي أن يكون خبيراً في بلوغ فوهة القفير بهدوء ومن دون التعثّر في بزّته الفضفاضة والكبيرة. وفي صباح اليوم التالي يصعد قاطف العسل الى مقصده، بعد دهن يديه ورجليه بمادة يدخل في تكوينها الخلّ. فالنحل يكره رائحة الخل ويبتعد عنها كما يبتعد الانسان عن رائحة المجارير. إلا أن رجال قبيلة "غبايا" لا يكتفون بحماية البزة للوقاية من لسعات النحل، بل يعمدون الى تخدير النحل اثناء عملية القطاف، فقاطف العسل يبدأ العملية برمتها برمي بعض أوراق مخدرة، من نبتة تُسمّى غبي - بيتانا، داخل القفير، ثم يغلق فوهته بالطين لمدة ربع ساعة، حتى يتخدّر النحل ويغدو عاجزاً عن اللسع. بعدها يفتح الغازي الفوهة ويبدأ بجمع أقراص العسل من دون خشية النحل. فيضع الأقراص في قصعة، الواحد تلو الآخر، تاركاً جانباً تلك التي تحتوي على بنين، كي لا ينقطع نسل القفير وكي لا يخرج مهزوماً ومكسوراً، فعملية الصيد هذه قد تتكرر خلال السنة المقبلة، إن بقي القفير في مكانه. وأفضل طريقة لإبقائه عدم تخريب أقراص الشمع الحاوية على البنين، أي اليرقات الصغيرة التي ستتحوّل بعد اسبوعين الى نحلات كبيرة. واحترام قاطف العسل التقليدي هذا لنحل الغابة نابع من حكمته، فهو يجني عسل النحل ولكنه لا يبطن الشر ضدّه. إذ يحرص على استمرارية القفير بالقدر نفسه الذي يحرص فيه على جني مواسم العسل. وتجدر الاشارة هنا الى أن حكمة هذا الانسان القبلي تنطلق من احترام الطبيعة وقوانينها. علماً أن الكثر من مربي النحل الحاليين، في بقاع الأرض كافة، لا يحرصون على بقاء النحل بهذه الغيرة الأبوية التي يبديها رجال قبيلة غبايا. ذلك أن النحالين المعاصرين، في غالبيتهم يقضون على أقراص البنين بسهولة فائقة إن وجدوا فيها خمسين غراماً من العسل، فهم يضحون بالنحل في سبيل الربح، وربحهم يتمثّل هنا بكمية العسل المجناة. وهذا ما يوصلنا الى أن الحكمة ليست بحاجة الى علوم مدرسية أو جامعية، بل تنبع من عقل الانسان ومن حسّه السليم. ويكفي ان يطبّق حسّه السليم هذا على سواه، انساناً كان أم حيواناً أم حشرة، ليبلغ حالات التوازن الداخلي والخارجي التي بتنا نفتقد لها أكثر فأكثر في المجتمعات المعاصرة. كما ان حكمة قاطف العسل القبلي تجعله يتقاسم مع الطير الذي ساعده في مهمته وظاهره من أعلى الشجرة ما جناه من العسل، فهو يصفّر له بعد هبوطه من السلّم ويعطيه قرصاً من الشمع فيه بعض العسل. وهكذا يُكافأ الطير المرشد ويفرح مثله أعضاء الجماعة البشرية الذين رافقهم. احترام "الشريك" جزء من عملية الصيد. ورجال القبيلة يحترمون تعهداتهم مع الفريق الذي صادقهم، بل انهم يضيفون في أحاديثهم ان هذا الواجب لا بد منه. ذلك انه، ان صادف أن تخلّوا عن مكافأتهم، لن يدلّهم الطير في المرّة التالية، بل سيرشدهم الى عرين أسد أو فهد! من هنا التوازن الدقيق في الأفعال، طبقاً للتوازن الدقيق في المهمات والتوزيع الدقيق للأدوار. فالعسل، مُلك الطبيعة، هو أيضاً مُلك - ولو جزئياً - للطبيعة. فالطائر المرشد جزء من هذه الطبيعة التي تستعيد شيئاً مما تمنحه. هذا أمر يسهر عليه أبناء القبائل الأفريقية الذين يعتبرون ان الأرض أمهم، وأن عليهم أن يشاطروا معها كل خيراتهم. كما ان العلاقة بالطائر تشير الى إلفة كبيرة بين الانسان والحيوان لم نعد نجد مثيلاً لها في الحياة المعاصرة. والمحافظة على هذا الجانب الطريف من حياة الانسان على وجه الأرض أمر مفرح. إذ لا ينبغي أن يكون مصير الانسان على كوكبنا الأخضر مختلف ومناقض لحياة الكائنات الأخرى التي خلقها الله. فلتصرّف قبلة غبايا، في أدغال الكاميرون، حكمة كبيرة وحسّ ايكولوجي فطري، إذ كلما احترم الانسان الطبيعة وعرف كيف يتناغم معها، كلما انعكس ذلك عليه ايجاباً. وكلما ابتعد من هذه القاعدة، كلما وجد نفسه في حال اغتراب وتشنّج. ما الذي يحصل بعد قطف هذا القفير؟ تتجه المجموعة نحو قفير آخر، بعد يوم أو يومين، برفقة الطائر المرشد إياه، رفيق العمل وشريك الغلّة. ولا يتوقف العمل سوى بعد شهرين تقريباً، أي بعد السطو على ما يقارب العشرين قفيراً، علماً أن ما يجنونه من كل قفير يتراوح وزنه ما بين 20 و25 كلغ من العسل. أي ان كل مجموعة من مجموعات هذه القبيلة المتخصصة في قطف العسل البرّي بإمكانها أن تجني عملياً نصف طن من العسل، تقوم ببيع قسم كبير منه لاحقاً في الأسواق المحلية، مع الاشارة الى أن قسماً من هذا العسل يحوَّل الى دواء بعد نقع بعض جذور النباتات الطبية فيه. وذلك يشير الى أن فوائد العسل الطبية معروفة عند شعوب كثيرة عبر العالم، وخصوصاً عند تلك الموصوفة بالتقليدية التي تختزن معارفها خلاصة معارف وعلوم كوّنتها البشرية على مدى العصور والأزمنة. صحيح ان رجال قبيلة غبايا يخاطرون بحياتهم أحياناً عند القيام بعملية جني العسل البري، عندما يتغلغل النحل اللاسع بعد عشرين دقيقة من انتهاء عملية التخدير داخل البزّة، أو عندما يسقط أحد أجزاء هذه البزّة غير المتينة. إلا أن ذلك لا يمنعهم من متابعة مهمتهم. حتى انهم ابتكروا مقولة خاصة لهذه الحالات الطارئة، فيقولون "ان مَن يموت بلسع النحل إنما يموت من الحب وباسمه". مما يدل على أن مهنة قطف العسل البري في الكاميرون، القديمة جداً، تغرس جذورها في تراث غني: تراث تقني تمخّض عن تقنيات مناسبة وفريدة، وتراث معرفي جعل الانسان يضع نفسه على تواصل مع ذكاء الطيور، وتراث أدبي جعل الأمثولات والحِكَم جزءاً لا يتجزء من عملية الصيد والقطف والجني.