على رغم الملل والتذمر اللذين يُصيبان الكثيرين من افتتاح الكلام عن أيّ شيءٍ بإسرائيل وموضوع الصراع معها، إلاّ أنّ ذلك ضروريّ اليوم عملياً أكثر من أي يوم آخر. حديث الحرب عاد الى فضاء السياسة في المنطقة، وأيضاً الى فضاءات الجدل المتنوعة. كأننا نعود من حين الى آخر الى حيث كنا، ومنذ نصف قرن وأكثر. المصيبة الحالية اسمها آرييل شارون. المهمة الأولى تبعاً لذلك هي تجميع القوى العربية، واعادة النظر في جميع سياسات المواجهة القديمة الضعيفة الجدوى. المهمة الرئيسية هي النظر في الحالة برمتها. مراجعة توافق المصالح العربية وتحديث تطبيقات هذه المصالح في العالم الجديد مثلما في المنطقة، هذه المراجعة في ذاتها مصلحةً تفوق المصالح البدائية السائدة طويلاً حتى وقتٍ قريب، والتي تنطلق من مصلحة كلِّ نظام على حدةٍ في اعادة انتاج نفسه وديمومته. وعلى عكس اتجاه المراجعة، التقدم الى مفهوم القوة الحديثة القادرة وحدها على تحقيق النتائج، والذي يرتكز الى كون قوة الدولة في قوة مجتمعها، قبل قوة جيشها. بل إن الثانية لا تأتي إلا من خلال الأولى في زماننا هذا. لماذا هذه المقدمة والحديث عن لبنان وعن العلاقات السورية - اللبنانية؟! لأن مخاوفنا أصبحت مستديمة من طرح خطأ التوقيت كلما نوقشت مسألة خارج مجال الصراع القومي والوطني مع الاحتلال والاغتصاب والعدوان. في حين أنّ المواجهة الحقيقية - خارج الاعتبارات العملياتية - لا تكون إلاّ في تفكيك المسائل وحلها في عمقها، لا لفلفتها في صررٍ وتمويهات تؤجلها حتى انتهاء "الصراع الرئيسي"، بحسب التنويعات الستالينية على ديالكتيك هيغل وماركس. مثل هذا - تقريباً - حدث مع المثقفين السوريين الذين أصدروا بيان ال 99، حين عوتبوا عتاباً رقيقاً وآخر أقل رقة، بدعوى "خطأ التوقيت". التواقت المقصود آنذاك كان مع بيان المطارنة الموارنة في لبنان، في أوائل خريف العام الماضي. حدث هذا على رغم تجنب الكثيرين منا - نحن السوريين - الحديث عن العلاقة السورية - اللبنانية، الأمر الذي يواصل بعض المثقفين اللبنانيين معاتبتنا - أيضاً - عليه منذ خمسة عشر عاماً بحسب معرفتي، وارتفاع صوت هذا العتاب تدريجياً منذ عامٍ ونصف عامٍ وحتى الآن. لماذا هذا التجنب؟! بسبب ارتباط الموضوع مع مسألة الاحتلال الإسرائيلي، ولأنه ذو طبيعةٍ أمنيةٍ يرتبط بالأجهزة مباشرة، ولأن بعضنا يحمل للطرف الآخر صمته الطويل في الاتجاه المعاكس... ولأن حل العلاقة السورية - اللبنانية يرتبط أساساً ومباشرةً بالأوضاع الداخلية التي انفتحت في العام والنصف الأخيرين - ذاتهما - على مشروع التحديث والتطوير، الذي يُفسح الباب للخروج باتجاه التقدم والديموقراطية. وأيضاً لأن رائحة العنصرية الكريهة زكمت الأنوف الوطنية والديموقراطية في وقتٍ قريب. وكيف يأتي ربط توقيت البيانين المذكورين وكلّ منهما في بلدٍ، إن لم يكن التداخل عضوياً على هذا الشكل؟! في ذهن من قام بهذا الربط طبعاً!. لا يعني هذا الدفع ان المداخلة على العلاقة ما بين البلدين قد غابت كلياً عن أقلام السوريين المقيمين. نشرت مقالة في الموضوع، فهم منها احد الكتاب اللبنانيين أنني أريد ان أقول فقط إن سورية هي التي قامت بالدور الأكبر في استقلال لبنان وفي الاتفاق غير المكتوب المُسمى بالميثاق الوطني عام 1943، لأني ذكرت في مقدمة المقال انه حين كانت السياسة نبيلة، قال جميل مردم بك للمسلمين اللبنانيين، إنه باتفاقهم الوطني على تأسيس لبنان المستقل، لا يتخلى السوريون عن مناطقهم المضمومة الى لبنان وحسب، بل هم على استعدادٍ لاعطائهم غيرها ان كان ذلك ضرورياً. حين تطالب نخب لبنانية أخواتها السوريات باتخاذ موقفٍ من "الوجود السوري في لبنان"، يُهمل كل الرأي العام هنا، ويُبحث في بعض الرأي العام اللبناني. يفعل بنا تماماً ما تفعله السلطات المتعالية والعازلة للشعب، في حين أن الأخير هو الأبقى لعلاقةٍ سوف تتعاطى مع التاريخ. ينسى ان الجنرال غورو قد اقتطع في خريطة لبنان الكبير أجزاءً كانت متداخلة مع مناطق أخرى بقيت على خريطة سورية. لم يذكر مواطن سوري هذا الأمر منذ عشرات السنين، وهو ببساطته لا يفكر في تصفية أيّ "حساب قديم" سيمون كرم - ملحق "النهار" - 8/1/2001، كما ان المثقف السوري لا يحتفظ في أعماقه بعقدة عام 1920/جهاد الزين - "النهار" 150-3-2001. هذا المواطن وهذا المثقف وذاك السياسي بحاجة الى ان تأخذه النخب اللبنانية في حسابها، والى ان لا يستسهل بعضها طعم التحريض الذي يغذي مشاعر العصبوية والعنصرية والتطرف أو على الأقل .... اللامبالاة. عقدة 1920 ربما كانت في غرب المصنع أكثر من شرقه، فهناك يتم نسيان الموضوع دائماً، ولا ينتهي أيّ موضوعٍ بنسيانه. منذ كان اسم الوجود السوري "مبادرة" في عام 1976، وقفت قوى وطنية تعارضها، وهذا غير بيان المثقفين الذي قال عنه البعض إنه جاء دعماً للفلسطينيين ومؤيديهم في "الحركة الوطنية"... فقط. المسألة أعمق من ذلك، لكنها تزداد وضوحاً مع الزمن. كان تكوين لبنان الحديث من حظ سورية في جانبٍ من جوانبه، حين خلصها من الشكل المركز لإرث المسألة الشرقية. وكان ذلك من حظ لبنان أيضاً، ولكن الى حين. فالحل الذي كان موقتاً في عام 1943 أصبح حلاً دائماً، تخلى به لبنانيون عن مسؤوليتهم، وتنازل آخرون عن حقوقهم، من اجل "الستر" والسلام واستمرار الحياة. "المصالح المشتركة" التي كان البلدان يتقاسمان من طريقها عائدات الجمارك، أُلغيت بعد سنوات قليلة، وأصبح الصراع اقتصادياً يُدافع فيه كل بلدٍ عن طبقاته السائدة. ميناء اللاذقية ثم ميناء طرطوس انهيا هيمنة ميناء بيروت وهذا الاشتباك، وحوله الى صراعٍ أصغر حجماً وعلى عناوين أخرى. المصالح المشتركة الآن مشتركة فعلاً. المال السائد والسائب متآزر في البلدين، في الاستثمار والسمسرة والتهريب. هو أيضاً متحالف مع مراكز القوى ذاتها التي تستعمل وجود العنف بالكمون حالياً ولو لم تستعمله دائماً بالفعل، وهي تتقاسم العائدات معه بالحماسة ذاتها. لكن الحق يُقال، أرض لبنان أكثر حرية ومتعة للطبقتين. المهم هو ان طبيعة الحلف ما بين المال المتوحش وعناصر التسلط واحدة. ما يُحد بها أكثر مما يفرق، والخلافات حول الحماية في الزراعة والصناعة وحقوق التصدير والعمالة في البلدين لا تقارن بحجم المتوافق عليه بين الأساطين، وهي قابلة للحل على الطاولة في أي تفاوضٍ طبيعي، وبحثٍ طبيعي عن "المصالح المشتركة" الحقيقية. المسألة اللبنانية بذاتها مصلحة دولة ومجتمع ووطن في سورية، وهذا ملموس عيناً باهتمام السوريين - نخباً وناساً - بأبسط تفصيل عند جيرانهم قانون الانتخاب مثلاً. المسألة السورية بذاتها مصلحة دولة ومجتمع ووطن في لبنان، وهذا ملموس أيضاً باهتمام النخب اللبنانية سلباً وايجاباً أو اشاحة وجه. والمسألة السورية - اللبنانية مصلحة ثنائية لن يستوي التاريخ والمستقبل إلاّ بمواجهتها بالموضوعية والحوار وارادة التسوية، وانطلاقاً من المصالح أولاً. الموضوعية ممكنة بالجهد والدأب، ولكن الحوار غير ممكنٍ رسمياً إلا عند التكافؤ وليد جنبلاط، وهذا يحتاج عملياً الى وقف التدخل في "التفاصيل" وابتعاد القوة بكل أشكالها الى أماكن اعادة الانتشار في هذه المرحلة. هذا أيضاً لا يتحقق تحت الضغط الذي يؤذي لبنان قبل سورية حازم صاغية - "الحياة"1/4/2001، وهو يتباطأ من دون ذلك، وتفكيك تناقض الحالين مسؤولية ورش العمل المجتهدة. في كل من سورية ولبنان "نظام" يختلف عن الآخر، يعتز لبنانيون وسوريون بهذه الموضوعة كثيراً. لكننا حالياً لا نرى من آثارها إلاّ جوانب لا تلمس جوهر المسألة. في سورية ولبنان مجتمعان ودولتان ونظامان، واقعهما ومستقبلهما متشابك أكثر بكثير مما يرى المستغربون اللبنانيون والمنعزلون السوريون. وهذا لا يتعلق بالأخوة وانقسام الأسر نفسها و"سوا ربينا" وجميع ما يستفز البعض عند تكراره. لن أناقش الجانب الاقتصادي في الموضوع، لأنني لم أعد قادراً على استيعاب جوانبه في ازدحامها أو زيفها. مسائل الحماية الجمركية والتبادل والصناعة والتجارة والزراعة، والعمالة أيضاً، لا تحل إلا من خلال البحث، ومن قبل الاختصاصيين الأكثر موضوعية ووطنية. لأن الخفايا سوف تبقى سائدة حتى يستقر التوجه في البلدين نحو الاصلاح ونحو مصلحة الاقتصاد من حيث هو اقتصاد وطني، لا مزارع فيه ولا فساداً طاغياً ولا هيمنة سلطوية تقطع وتقتطع وتوزع. تتجدد رياح الطائفية في لبنان مع اشتداد الدعوة الى الانسحاب السوري التي يبدو على رأسها البطريرك صفير ظاهرياً، وتقودها بالفعل تلك القوى الأكثر تشنجاً تحت ستار ما لحق بها من استقصاء بعد اتفاق الطائف واستقرار التوازنات الجديدة التي تحمل اجحافاً ما. هذا الأمر يستنهض قوى تحرير الجنوب المظفرة وأخرى هامشية وغير مسؤولة وفي حين ان الضمانة المثال هي نهضة القوى الوطنية والديموقراطية، الأمر الذي تواترت أخيراً بعض أخباره. في سورية أيضاً تشتد ردود الفعل الغاضبة، على المستوى الشعبي وفي بعض النخب والزوايا الرسمية الظليلة. والأخيرة انعكاس للآراء المحافظة التي تعتاش على التوتر وتفرح به في بواطنها، في حين تشكل أية خسائر في الوعي الشعبي نكسة للديموقراطيين في البلدين. واذا كان لهؤلاء ان يفعلوا شيئاً فينبغي الاستعجال في ذلك، ولا بأس في أن يكون ذلك بالتوافق على جوامع الموقف وأساسياته: أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية ما بين سورية ولبنان، هي طموح دائم. لا يتناقض ذلك مع الاستقلالية والسيادة والاعتراف الحر. يتفق أيضاً مع الحاجة الى التلازم في مواجهة عقابيل اعتداءات إسرائيل السابقة، وتلك التي يمكن ان يغلق الله عليها عقول اناسٍ مثل شارون في الأيام القادمة، أو الى التلازم على أية طاولة تفاوض في المستقبل. في هذا يكون التكافؤ مطلباً مشروعاً للجميع، وهو سند السيادة والاستقلال نحو العلاقة المتميزة الطبيعية. على الطريقين: لبنان وطن نهائي للبنانيين في حدوده الجغرافية والاجتماعية الحالية، لم يعد أرضاً لأفكار الانقسام على الذات والتقسيم مع الغير، لا يناقض العلاقة الناضجة مع سورية ولا مع العرب الآخرين، ولا مع الطموحات القومية المستقبلية سورية كانت أم عربية. سورية أيضاً وطن نهائي للسوريين، وليست مجرد قطر ينتظر متعطلاً تلك الوحدة الشاملة الكاملة في الشارع القومي، ولا يناقض ذلك الانطلاق البراغماتي نحو أفضل أشكال الاتحاد والتكتل والوحدة على أساس المصالح المشتركة. بمعنى آخر، العودة الى جوهر فكرة "ان لا يكون لبنان ممراً أو مستقراً..." واعادة بنائها على الصخر هذه المرة، من حيث مفهوم التسوية التاريخية والعقلانية والحديثة. الابتعاد عن التحكم في شؤون لبنان الداخلية، وتقليص الوجود المادي الى حيث يستدعي سياق الصراع مع إسرائيل والوقاية من أخطاره المحتملة والمشتركة، حتى استقراره على اتجاه السلم والتسوية، فالانسحاب الذي هو مطلب الامهات والآباء السوريين، وحاجة الاقتصاد المُرهق. يتلازم الطريقان ويتوازيان: في بناء مجتمعٍ حديثٍ قويّ اللحمة في كل بلدٍ منهما تكمن مصلحة الآخر مباشرة، وفي تعزيز روح الانتماء الى وطن ودولةٍ بدلاً من أشكال الانتماء المنكفئة أو المتكفِّئة الأخرى، يزداد نسيج البلد الآخر متانة. يتلازم الطريقان ويتوازيان: في كل خطوة نحو الحرية والديموقراطية: صغرت أم كبرت: تتحقق لبلد من البلدين يأخذ ثانيهما نفساً وروحاً على الطريق ذاته. ولا انقاذ حقيقياً الا بذلك، مع الاحترام لكافة الاجتهادات والبيانات العابرة. ما زالت هنالك فرصة حقيقية، فهنالك جوامع تتبلور في البلدين، تتقاطع على أرضٍ واحدة تتضح الحدود عليها. يزيد من قوة هذه الفرصة دخول سورية عهداً نأمل ان تأخذ فيه العقلانية والاصلاح والتحديث دوراً متقدماً وثابتاً... ونعرف المصاعب والكوابح. لكن انجذاب السوريين الراهن الى تشكيل كتلة تاريخية، واللبنانيين أيضاً شيئاً فشيئاً، يجعل من الملح تشكل نواة اجتماعٍ وطنية وديموقراطية... ويطرح على الجميع مهمات عملية ملموسة. ندوة الياس خوري وطلال الحسيني وسمير فرنجية وكريم مروة وعاصم سلام وسيمون كرم في "ملحق النهار" أوائل العام، واسهامات جوزيف سماحة ونهلة الشهال وحازم صاغية، وغيرهم كثرٌ من المخلصين الباحثين عن العنب قبل الناطور، وظهور تجمع وطني انقاذي يساعد معهم على شق الطريق الثالث وتعبيده بالحوار، وبالانكباب على الجد والبحث ضمن منطق الاعتدال، مع التركيز على "الكيفيات" وعلى الانطلاق من "الوقائع" على رأي وضاح شرارة... هو منفذ لبنان الى المستقبل الآمن. مثل هذا في سورية... ومثله بينهما أيضاً. * كاتب سوري.