عام 1943 كان مهماً في التاريخ الحديث لسورية ولبنان، فيه جرت انتخابات نيابية في كلا البلدين. آنذاك بدا واضحاً تبادل التأثير ما بين الحدثين. جرت الانتخابات السورية على مرحلتين: في 11/7 و26/7، في جوّ جديد لم تألفه سورية من قبل. فازت الكتلة الوطنية بغالبية المقاعد، وكانت الأطروحات هي الأكثر وطنية وعملية الانتخاب من بين الأكثر ديموقراطية في تاريخ البلد، وابتدأ جيل جديد بممارسة دورٍ فعالٍّ في ذلك العام، برز منه شكري القوتلي وخالد العظم. عقب المرحلتين الانتخابيتين السوريتين، في 31/7، أصدر المفوض السامي هيللو مرسوماً حدّد به عدد النواب في المجلس النيابي اللبناني ب 55 نائباً، ينقسمون بحسب القاعدة الطائفية التي اشتهرت في ما بعد: 6/5 أي 30 نائباً للمسيحيين و25 نائباً للمسلمين. أكدّ هيللو على أنّ هذا الحلّ موقت ولعامين فقط ريثما يُجرى إحصاءٌ جديد للسكان. وصدر هذا المرسوم بعد خلاف مرير على مقعد واحد، لكنه كان بداية تحولٍّ مثير في التاريخ اللبناني، تكرّس في انتخابات يومي 29/8 و5/9، ثم تشكيل الحكومة اللبنانية على أساس ما سُمّي في ما بعد بالميثاق الوطني. وعلى رغم الجهود الفرنسية الحثيثة لدعم أنصار الحماية الفرنسية الباقين على مواقفهم حتى ذلك الحين، فقد نجح مسلمون طالما كانوا مع الوحدة مع سورية أو مع عودة الساحل والأقضية الأربعة اليها، مثل رياض الصلح وعبدالحميد كرامي، ومتحمسون سابقون للالتحام مع الأم الحنون فرنسا مثل بشارة الخوري وحميد فرنجية وهنري فرعون. اقتنعوا جميعاً برعاية بريطانية تعمل عكس الريح الفرنسية قبل اي حساب آخر، وبتشجيع عربي انصب على تطمين المسيحيين على الكيان ودفع المسلمين الى القناعة بحدودهم والكف عن تهديداتهم. وبقناعة لبنانية جديدة على حدود جديدة، ونهائية. بقيت الأزمة اللبنانية على حافّة الهاوية بعد الانتخابات وحتى انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. و"تدخّل" السوريون، باتفاق شكري القوتلي رئيس الجمهورية الجديد، وسعدالله الجابري رئيس الوزراء وجميل مردم بك وزير الخارجية، فأرسلوا وفداً خاصاً فيه لطفي الحفار وعفيف الصلح والجابري في المناسبة نسيب أيضاً لرياض الصلح. اجتمع الوفد طويلاً بالقادة المسلمين، وخرج باقتناعهم بتأييد بشارة الخوري للرئاسة... بعد عناد. وبعد انتخاب الخوري، تمّ تكليف رياض الصلح تشكيل الحكومة، التي كان بيانها الشهير حصيلة "الصفقة" التي يُنهي بها المسلمون مطالبتهم بالوحدة مع سورية، وينهي بها المسيحيون مطالبتهم بالارتباط بفرنسا، ليقوم لبنان بشكله الجديد، الذي دشّنه غورو وأطلقه الميثاق الوطني. حدث هذا كلّه خلال شهرين، من القرارات الى الانتخابات، الى استقلال البلدين، وتأسيس لبنان الفعلي. وكان للديموقراطية في سورية شأن في ذلك. الآن، هناك شيء ما في لبنان، وشيء ما في سورية. يحلم البعض بإعادة انتاج الفيلم القديم، ويحلم آخرون بفيلمين نقيضين، وتغرق الغالبية في كوابيسها الصامتة على الضفتين. ابتدأ هذا الشيء بعد خطاب القسم اللبناني بفترة قصيرة، سرعان ما غلب الشعور بالاحباط فيها على من كانوا ينتظرون الكثير، من النظافة والنزاهة والوطنية والحوار خارج الطائفية والاهتمام بتوازن الاقتصاد ومعيشة الناس، مع الرئيسين لحود والحص. جاءت سلطة تحتوي في خطابها على جميع ما يطرحه الوطنيون الديموقراطيون. وكانت المشكلة - كما يبدو - في كونها طرحت كل شيء، وتركت هؤلاء يفتحون أفواههم دهشة وانتظاراً... طويل الأمد. وحدث في لبنان ما يشبه الحال إبّان الهجوم على الصرب في كوسوفو، حين رفعت أميركا كل شعارات العالم المحتملة. فاضطرب الناس وفعلت اميركا ما تريد. ولا بد ان احدى رغبات اللبنانيين رؤية دولتهم تشتد وتقوى لتضمن السلم الأهلي وسيادة القانون وعودة الديموقراطية أو نموها مع اضعاف الطائفية. ويظهر ان ما حدث هو انهم رأوا أجهزة السلطة - لا الدولة - تقوى عليهم، أو هكذا أحسوا. أحسوا ان مخاوفهم المستمرة من عدوى الفيروسات التسلطية تصدق. فأحبطوا، وتراجعت نيات المبادرة في استرجاع قوة المجتمع المدني وتنمية المجتمع السياسي. لم تنجح محاولات "النفي" للنظام القديم في عام 1958 ولا بين أعوام 1975-1990، ولا من خلال "تنظيمات" الطائف. كما لم تنجح في دولة فؤاد شهاب سابقاً، ولا في دولة اميل لحود حتى الآن، ولا من خلال الحلول الخارجية. هي تحتاج الى زلزال في العمق الاجتماعي يعيد التنظيم ويبرز عصبية وطنية تنفي عصبية الطوائف، وتتفوق على قوى المحافظة ذات المصلحة النقيضة، وقد نرى ذلك أو لا نراه ولكنه المناط الوحيد. ولبنان أسير الغول والعنقاء منذ القدم. لديه غول برأسين، يخيف المسلمين بالافرنجي منهما، والمسيحيين بالعروبي. وعنقاء تشدّ بالبعض الى مجد جبل لبنان التوراتي أو الفينيقي أو المهاجر ناشر النور والحضارة، وبالبعض الآخر الى الحلم العربي والاسلامي، وبغيره الى مجد سوريا الأمة... وعنقاء لبنان الكبير التي لم تتجاوز الخطر بعد، ابتكرها ميشال شيحا وآخرون، وهي الواقع الوحيد. لبنان ايضاً أسير كوابيس الخل الوفي. حين كانت السياسة أقوى من الاقتصاد في أواخر عهد الانتداب الفرنسي، واحتاج لبنان لتأسيسه المستقل الى موقف سوري، قال جميل مردم بك: "نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية الى هذا الاتجاه في السياسة اللبنانية، فنحن مستعدون لأن نتنازل عن أي مطلبٍ لنا في لبنان بل ان نوسع أراضي لبنان ان لزم الأمر". أما حين "اشتغلت" البورجوازيتان، فقد اقتتلتا على الحركة الجمركية والتجارية حتى اتخاذ مواقف في غير المصلحة الحقيقية للبلدين معاً. الا ان جزءاً مهماً من البورجوازية كان متوافقاً مع الأخرى دائماً. فقد التجأ مئات من التجار السوريين الى لبنان على اثر ذلك الخصام الجمركي والنقدي في منتصف القرن سعياً وراء تمركز التجارة الخارجية القوي في بيروت، من دون خسارة المجال الحيوي في سورية. والتجأ قسم آخر بدءاً من التأميمات الأولى، وقسم حديث بيروقراطي النَسَب مكتوم المصادر في الأعوام التي استقر الوجود السوري فيها في لبنان. كانت السياسة النبيلة في البلدين وبينهما سائدة وقادرة على القول والفعل، وعودتها - ولو برداءٍ براغماتي وعملي - من متطلبات الخروج من المأزق الراهن. ما هي مسائل العلاقات الاشكالية الآن: طبيعة العلاقة بين البلدين، والعمالة السورية في لبنان، والوجود العسكري والسياسي. حول طبيعة العلاقات يرى - كما يبدو - غالبية اللبنانيي الآن انها ينبغي ان تكون "مميزة"، بعضهم يقبل بهذا تسليماً وبعضهم الآخر رؤية استراتيجية وغيرهم نفاقاً ومصالح سريعة وعجزاً وطنياً. ولدى السوريين شيء من هذا التقسيم، فبعضهم يرى ضرورتها المبدئية وغيره يشتهيها رغبة بالحرية اللبنانية أو نكاية بالانعزالية والتنفج اللبنانيين، أو باباً للعمل أو الاستثمار أو الثقافة او الترويح عن النفس، وآخرون يرون في لبنان مزرعة متاحة لهم من دون قوانين، أو حقلاً لتبييض الأموال واقتصاد النفوذ أو مستقراً شخصياً أو ممراً آمناً في المستقبل. المهم هو حصول العلاقات المميزة على غالبية الأصوات في الطرفين، ما ينقص هو القنونة والإجراءات العملية في التجارة والصناعة وحرية الانتقال والاحتكاك الثقافي والسياسي، المهم هو الباقي للبلدين وللشعبين. مهمة أيضاً الشفافية في العلاقة وفتح أبواب المسائل من دون حرج، في خطين متوازيين ما بين الدولتين والنخبتين. والعمالة السورية في لبنان ليست جديدة، بل قديمة ومعروفة يلجأ بها فقراء سورية ومن مناطقها الأكثر حرماناً بشكلٍ خاص الى جنة الاستهلاك اللبنانية - كما الى عاصمتهم - من اجل العمل فيما لا يقبل كثير من اللبنانيين العمل به. في العقدين الأخيرين تسرب العديد بشكل قانوني وغير قانوني الى لبنان، في استفادة من حركة اعادة اعمار لبنان التي ابتدأت قبل نهاية الحرب، ومن هجرة الشباب اللبنانيين أو حملهم أدوات "أكثر شرفاً" كالسلاح، ومن "الهيبة" السورية في لبنان. الحصيلة الآن حوالى 700 الف عامل سوري كما يقال، يصب عليهم البعض نواتج الغضب من غيرهم، ويزاحمون - بعضهم - الشباب اللبناني على فرص العمل أو يخفضون أجورهم، ويعيشون في ظروف كثيراً ما تتدنى عن الشروط الانسانية. وككل شيء في بلادنا، تغيب الحقيقة البسيطة ما بين الغرائز السياسية والمشاعر الانسانية المتطرفة واجتناب السلطات لما ينفع الناس. هذه الحقيقة التي ينبغي مواجهتها وحلّها، عن طريق الاتفاقات والقنونة ومنع الأذى عن هؤلاء العمال، ومنعهم بدورهم من ان يكونوا مشكلة للتنمية أو مصرفاً لفرص العمل أو الأجور. ويرى البعض ان أس القضايا يكمن في الوجود السوري في لبنان، بعض هذا البعض هو من استدعى هذا الوجود عملياً. ما علينا الآن بحث القديم، هنا على الأقل. هناك ما يُشبه الاجماع على ضرورة العلاقة السياسية المميزة، في باب التسوية والسلام وردّ الأذى المتبادل والتنسيق على العموم في ما يخص المصالح المشتركة في المستقبل. وهناك أصوات تعلو في العام الأخير تستعجل الخروج السياسي والعسكري من لبنان، خصوصاً بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، وأصوات أخرى تتشبث بهذا الوجود بقوةٍ وإلحاحٍ كبيرين، وكأنها تقصد الآن وفي المستقبل. الشريحة الأخرى التي يُلاحظ تناميها وتعدّد طبائعها هي التي تطلب وقف التدخل السوري في الحياة السياسية الداخلية للبنان، ولا تطرح مسألة الوجود العسكري السوري طالما لم يتم التوصل الى تسوية مع اسرائيل، أو لم يستقر توازن الدولة اللبنانية ويزول خطر عودة الاقتتال الطائفي. وفي الآونة الأخيرة، يسمع اللبنانيون أصواتاً سورية تتكلم عن تصحيح العلاقة تحت عنوان حركيّ - تطويرها -، كما يسمعون عن وقف "الدخول في التفاصيل"، وبعضهم ليس مقتنعاً بهذا. منذ أكثر من عام بدأ الحديث اللبناني يعلو، وليس من عناصر متوترة وحسب، بل من بعض خيرة اللبنانيين وطنياً وسياسياً ونظافة موقف من سورية. وفي العام ذاته ابتدأ الحديث في الجانب الآخر عن تجنب الدخول في التفاصيل. والانتخابات اللبنانية مسرح لصراع التصريحات حول الموضوع. يرتبط- ربما - هذا التناقض بجدل التغيير والاستمرار في سورية، فعنوان التغيير المعلن لن يجد طريقه الى التجسد إلا من خلال إزاحة مظاهر الاستمرار التي ستقاوم، لأنها عاجزة عن التأقلم بقوة العادة. وهناك اسباب ميدانية وملموسة تجعل لبنان من مواقع الدفاع المتينة، ربما لأنها تجاور البحر والهواء الحر والمصارف الضرورية. إلا أن التمسك بالمطروح حول الشفافية في البلدين وبينهما، يمكن ان يكون تشريعاً لمطلب الابتعاد عن التدخل، ومشكلات لبنان الأثرية والموروثة تكفيه عائقاً أمام تطوره الديموقراطي. في الوجود العسكري السوري في لبنان يبدو التأني أكثر أماناً، استراتيجياً - بالمعنى العسكري- بانتظار التسوية واتضاح آفاقها، واستراتيجياً - بالمعنى التاريخي - لاستبعاد أي نوع من الاستخفاف بمستقبل العلاقة في عمقها. والتأني نقيض استسهال الرفض الذي يستبطن القطيعة أو القبول الذي يستبطن تجارة قصيرة النظر، مع كونه ليس نقيض طرح المسألة بكامل أبعادها على طاولة البحث الشفافة. في انتظار ذلك يبدو - حتى الآن - أن الممكن هو الإقرار علناً ومن الطرفين أن الوجود موقت - وكونه موقتاً أمر نهائي - ولا علاقة له بالسياسة بين اللبنانيين، كما يمكن البدء بإعادة الانتشار بشكل لا يتعارض مع ما ورد أعلاه. خلاف ذلك، فالانسحاب من لبنان يكون مطلباً للناس السوريين - قبل اللبنانيين - الذين لا يريدون ابناءهم بعيدين عنهم، ولا ان يتكبّدوا نفقات يحتاجونها لغير سبيل، ولا أن يكونوا عصا أو مكسر عصا لأحد. الانتخابات اللبنانية الأخيرة تبعث على التشاؤم بين اللبنانيين، وعلى تفاؤل - محدود - بين السوريين أنا من بينهم مثلاً. ويبدو لي ان التفاؤل أقرب الى الصواب، لأن مواجهة الحقائق والمصارحات تزداد ظهوراً في سورية ولبنان، وهو أقرب الى الصواب لأنه عمليّ أيضاً، وعلى الأقل. ما هو أكثر صحة أن مسار الديموقراطية اللبنانية متصل بمسار الديموقراطية السورية، والوطنيتين والمواطنيتين كذلك. فهي قضية واحدة في بلدين... اقتباساً من التعبيرات الشائعة. * كاتب سوري.