على رغم التفاؤل الذي رافق عودة الصحافة الخاصة الى الساحة الإعلامية السورية بعد انقطاع دام ما يقارب الأربعين عاماً، لا يبدو هذا الحدث المهم على المستوى المأمول بعد تغيرات عالمية شملت الكثير من مفاهيم الإعلام المطبوع، عدا التبدلات الطارئة على دور الصحافة السيسيولوجي، اضافة الى توطد ظاهرة الإعلام المتلفز، ومن ثم النشر الالكتروني. من هنا تبدو عودة الصحافة السورية المستقلة الى الانطلاق من نقطة التوقف حدثاً ينبغي ألا نبالغ بعقد الآمال عليه وفقاً للمؤشرات التي ظهرت خلال الأشهر الأخيرة من صحف خاصة حزبية أو غيرها، فهي لا تعد خلال المستقبل المنظور بخروقات جزئية أو اضافات محدودة على ما تقدمه الصحافة الرسمية، وانما العكس تماماً جاءت الصحافة الحزبية أضعف بكثير من الصحافة الرسمية، حتى الصحيفة "الساخرة" المستقلة وعلى رغم أرقام التوزيع الكبيرة، لم تتجاوز المطروح في الصحف المحلية في الزوايا الانتقادية. ومع ان الشكل كان مختلفاً إلا ان المضمون لم يتعد الهزل والتنكيت السطحيين، وجاءت متخلفة عن الصحافة الساخرة في الخمسينات التي كان أهم دعائمها النقد السياسي الذكي المتميز بنكهته المحلية اللاذعة، ومقاربة لكل ما لا تتمكن الصحافة الجادة من تناوله. فإذا كانت هذه حال بوادر عودة الصحافة السورية الخاصة، وهي عدم قدرتها على الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها، وهو أضعف الاحتمالات، فمن الصعب أن يعوّل عليها في فتح متنفس لأقلام دأبت على التنفس في الصحف العربية. لذلك لا يكفي وجود صحافة خاصة لإحداث نهضة صحافية سورية تواكب على الأقل الصحافة العربية المجاورة، ان لم نقل صحافة تتماثل مع المقاييس العالمية، إذا لم يتم استقطاب كبار المثقفين والكتاب السوريين للعمل تحت سقف أكثر علواً من سقف الصحافة الرسمية، أو على الأقل ما يوازي المسموح به رقابياً لما تنشره الصحافة العربية بأقلام سورية عن سورية. هل يبدو الطموح لوجود صحافيين محليين مؤثرين في الرأي العام طموحاً ساذجاً ضمن مناخ إعلامي عسر مخاضه، بسبب افتقاره الى أقلام جادة لا الى الدعم المالي؟!. وفي حال بقاء الأقلام السورية مرتحلة في مناخات وفضاءات أخرى، تنتج كتابات هجينة لا تؤسس لحالة اعلامية محلية صحية، يصبح الأمل بظهور قامات صحافية، وهو الأهم من عودة الصحافة الخاصة، حلماً بعيد المنال، أمثال نجيب الريس صاحب صحيفة "القبس" الذي كان له دور مهم ومؤثر في تاريخ العمل السياسي والإعلامي السوري، ونصوح بابيل نقيب الصحافيين وصاحب صحيفة "الأيام" الذي ساهم مع أبناء جيله من الصحافيين السوريين في وضع تقاليد "الصحافة السورية، وكذلك الصحافي المرموق حبيب كحالة صاحب أهم مجلة ساخرة "المضحك المبكي"، التي استمرت لفترة طويلة وما زالت تعتبر حتى يومنا هذا من أفضل المجلات العربية. فهؤلاء الى جانب كونهم صحافيين متمرسين كانوا أيضاً سياسيين محنكين، وأصحاب رؤية وموقف، ولديهم القدرة على صناعة الرأي العام والدفاع عنه وليس فقط التأثير فيه، وما من أحد كتب عن تلك الفترة من تاريخ سورية إلا وتوقف ملياً عند افتتاحياتهم العقلانية والساخنة، وبالأخص نجيب الريس، حيث يتمكن من يقرأ لهؤلاء اليوم، من وضع تصور عام للمرحلة، لما كانت تحمله تلك الكتابات من مقاربة موضوعية وحادة أيضاً تناقش وتفند الواقع السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي. لكن مع أفول تلك الحقبة من الزمن وتماوت الصحافة المستقلة في سورية، غاب الصحافي السياسي الفاعل والمؤثر، وهو أمر لا بد من استقرائه، ووضع اشارتي استفهام وتعجب كبيرتين حول دواعي ذلك الغياب وظروفه، وخصوصاً في المؤسسة الإعلامية الرسمية المحتاجة أكثر من غيرها لمثل هؤلاء الصحافيين الذين يمتلكون وحدهم القدرة على صياغة خطاب إعلامي اقناعي ينير الرأي العام، وهو ما قد يدفع أيضاً الى تصنيع مثل هؤلاء الصحافيين بحال افتقادهم ضمن الكادر الرسمي لاعتبارات عديدة، وهذا بالطبع لا ينفي وجود كتّاب وصحافيين غير رسميين يكتبون على صفحات الإعلام المحلي، لكنهم ليسوا صحافيين وسياسيين محترفين، بقدر ما هم كتّاب وأدباء وباحثون يمارسون الكتابة في الصحافة كعمل اضافي، وهم ليسوا في خضم العمل الصحافي والسياسي اليومي، والمفارقة ان يتم تلافي ذلك الغياب بالاعتماد على صحافيين وصحف غير محلية، فنجد انه للاطلاع على ما يجري في سورية من زاوية غير رسمية يقرأ باتريك سيل بالدرجة الأولى، وأحياناً محمد حسنين هيكل، وكذلك الأمر للتعرف على وجهة نظر اعلامية محايدة تقارب وجهة النظر الرسمية يقرأ غيرهما. لكن هل هؤلاء قادرون فعلاً على الحلول محل صحافي سوري يكون قريباً من القيادة بإمكانه شرح ومناقشة برنامج القيادة بلغة موضوعية تعكس المصلحة العامة بحياد بعيداً عن الحفاوة اللامحدودة؟ لعل وجود هكذا صحافي ليس صعباً ضمن المؤسسة الرسمية في حال أسند الى شخصية غير رسمية هامش من الحرية والثقة تستأهلهما، وتستطيع ان تجعل من الصحافة الرسمية ليس مجرد قناة ناقلة لرسائل القيادة بل قناة اتصال وتواصل لتشكيل رأي عام مقنع للداخل والخارج معاً، يكون انعكاساً للتعددية السياسية والفكرية المفترض وجودها، ومثلاً لماذا لا تكون صحيفة "البعث" الناطقة بلسان حزب البعث العربي الاشتراكي هي المعبر عن القيادة الحزبية الحاكمة؟ بينما تترك للصحيفتين الأخريين "تشرين" و"الثورة" لنقل وجهات نظر أخرى احداها للحكومة على تعدديتها السياسية"، والأخرى، للمثقفين والمفكرين من عامة الناس على تعدد مشاربهم أيضاً، كخطوة لازمة لتشكيل تيارات فكرية وسياسية جديدة تعبر عن المرحلة الراهنة والمقبلة، وهو ما قد يجنب الصحافة الرسمية التضاؤل أمام مد صحافة خاصة قادم، لم يحمل حتى الآن مؤشرات جادة أو فعلية لتناول الهم العام السياسي والفكري والثقافي، وعلى النقيض من هذا تبدو ملامح الصحافة الخاصة القادمة متجاهلة ما جرى تأسيسه من تقاليد صحافية أيام كان لسورية صحافتها المستقلة والمهمة، إذ تعود اليوم لتنبثق من قلب سوق الإعلان والروح التجارية المسعورة، أو من شراذم أفكار ورؤى كانت في زمن ماض تقدمية، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بلد عريق يسكنه أكثر من سبعة عشر مليون مواطن عاجز عن انجاب صحافي له مكانته وموقفه ورؤيته بما يجعل الناس ينتظرون افتتاحياته؟