لاقى قرار القيادة السورية السماح لأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" بإصدار صحافتها الخاصة وبيعها في السوق، صدى ايجابياً في الأوساط السياسية والاعلامية والشعبية، وأثار العديد من النقاشات داخل أحزاب الجبهة وخارجها تمحورت بشكل رئيسي حول التحديات التي ستواجه صحافة الاحزاب في حال صدورها. ومن تلك التحديات ضرورة تجديد الخطاب الحزبي بما يتناسب والمتغيرات الراهنة، وانعكاسه على تفعيل أحزاب الجبهة في الحياة السياسية السورية بعد عقود من التفرج، وايضاً المسألة الايديولوجية التي بدأ العالم يتجاوزها من خلال تنقيحها المستمر، بينما لا زالت الاحزاب العربية عموماً تتشبث بها. وكذلك التحدي المقلق جداً المتعلق بالامكانات المالية المطلوبة لإصدار صحافة قادرة على دخول السوق والعرض الى جانب الكم الكبير الصحف والمجالات العربية المتنوعة. هناك من رأى في قرار السماح للاحزاب بإصدار صحافتها الخاصة رصاصة الرحمة الأخيرة التي أطلقت على أحزاب طال احتضارها. ومن منظور آخر ثمة من رأى ان القرار فرصة تمكّن أحزاباً لا تزال تتمتع ببعض الحضور الشعبي من البقاء على قيد الحياة. وفي الحالتين يبدو هذا القرار وكأنه خطوة لإسقاط ورقة التوت الأخيرة الساترة عيوب تلك الاحزاب، أمام نفسها وأمام الدولة والشعب ايضاً. اذ يعتبر قرار السماح لصحافة الاحزاب بدخول السوق ضمن سياق تحرك القيادة السورية لغربلة واقع العمل السياسي، وفتح صفحات جديدة فيه، قبل السماح بتشكيل أحزاب اخرى. ولا بد لمتابع تلك النقاشات وما يتم منها داخل الجبهة التي راحت تبحث عن سبل لتفادي الصعوبات التي قد تقف في طريق اصدار صحف حزبية خاصة، ان يتوقف عند طرح سبل وامكانية الحصول على دعم مالي من الدولة، خاصة وان الأرقام المتداولة حول تكاليف إصدار تلك الصحافة تتسم بالمبالغة. وهو ما ينم بشكل غير مباشر عن توجه البعض من تلك الاحزاب الى استثمار قرار السماح انسجاماً مع واقعهم كدكاكين للعلاقات العامة. فما معنى ان يصرح أحد القادة بأن تكاليف إصدار جريدة اسبوعية لفترة معينة يحتاج ضعف المبلغ الذي يطرحه آخرون وهو: 200 ألف دولار اميركي، علماً ان صحيفة ك"نضال الشعب" من الورق الشعبي وفي حجم 12 صفحة بلونين، يكلف العدد الواحد منها بين الألف والألفي دولار. وهو رقم فيه شيء من المبالغة ايضاً لأنها تعتبر تكاليف طباعة فقط دون أجور التحرير. واستناداً الى تجربة شخصية في هذا المجال، فإنالعدد الواحد من صحيفة نصفية تضم 8 صفحات ملونة أربعة ألوان وورقاً ممتازاً، لا تتجاوز قيمة طباعة ألف نسخة منه 800 دولار اميركي. وعدا عن ان ذلك واحد من أبواب الاستثمار، هناك بين قادة الاحزاب من يتحدث عن صعوبة اصدار صحافة حزبية تنافس صحف الدولة الرسمية: "تشرين" و"الثورة" و"البعث"، لأن كوادر اي من الصحف الثلاث تتجاوز الألفي موظف بين محرر صحافي واداري. وهذا الطرح بحد ذاته يكشف مدى جهل صاحب هذا الرأي بالعمل الصحافي في سورية، علماً ان العاملين في حقل الاعلام الرسمي من اذاعة وتلفزة وصحافة واعلان عموماً هم حوالي خمسة آلاف عامل، اذا ما أخذنا في الاعتبار ان عددهم سنة 1998، حسب المجموعة الاحصائية، كان 4771 عاملاً. وكثيرون من هؤلاء لا يعملون في الصحف، بل في المؤسسات بشكل عام ما بين عمال مطابع وسائقين ومستخدمين واداريين. وحتى لو اعتبرنا ان رقم ألفي موظف في المؤسسة الواحدة قريب من الواقع وجب ألا يغيب عن الاذهان ان تلك المؤسسات تنوء بأعداد العاملين فيها. فهل يفكر عتاة رجالات الاحزاب في سورية في استنساخ حالة البطالة المقنعة التي تعيشها مؤسساتنا الاعلامية، ونقلها الى الجبهة بهدف التمكن من منافسة الصحافة المحلية، والتي هي بالأساس خارج اطار المنافسة؟ وهو أمر تنبّهت اليه الصحافة المحلية في السنوات الأخيرة وتحاول بخطى متعثرة الخروج من واقعها المتردي. فإذا كانت الصحافة التي ستصدرها الأحزاب تطمح الى منافسة صحافة ما تزال تتلمس طريقها لتجاوز الاطار المحلي المغلق، فهذا يعني ان الدولة والشعب سيتحملان الى جانب عبء اصدار ثلاث صحف متطابقة الى حد بعيد، عبء اصدار صحافة جديدة لن تضيف الى سابقتها شيئاً. وحتى لو ان الصحافة الموعودة تولت مهمة مراقبة عمل مؤسسات الدولة، كما يجري الحديث، فهي ايضاً لن تضيف الى ما تقدمه الصحافة الرسمية في هذا المجال اضافة مهمة، كون الصحافة المحلية لم تقم طوال عقود صدورها بأي عمل مؤثر وفاعل في الحياة السورية، سوى مراقبة مؤسسات الدولة وملاحقة المخالفين وحل قضايا المواطنين المتعلقة ببعض النظم الادارية: كمخالفات السَوق، وتنظيم الشوارع، وتوصيل تيار الكهرباء، والمياه... الخ من قضايا حياتية يومية. اما ما يتعلق بالجانب السياسي وتشكيل الرأي العام، فقد أخلت الصحف السورية الساحة للصحف العربية لتقوم بهذه المهمة، مجتذبةً بدورها غالبية الكتاب المعروفين والمثقفين السوريين. هكذا أقصت الصحافة السورية نفسها عن ساحة المنافسة مكتفية بكونها صحافة مغرقة في المحلية. وحتى التنافس الذي نشأ بين تلك الصحف في السنوات الأخيرة لم يتعدّ السعي الى زيادة التوزيع عبر إحداث صفحة حوادث وجرائم في صحيفة "البعث"، أو زيادة عدد الصفحات المنوعة والتسلية كما في صحيفة "الثورة"، أو بالاهتمام بقضايا الفساد بين الموظفين ومتابعة أخبار الاقتصاد في صحيفة "تشرين". وتجدر الاشارة هنا الى انه في الأشهر الأخيرة سجلت "الثورة" تغييرات واضحة في سياستها الاعلامية وأبرزت اهتماماً بالقضايا الفكرية من خلال صفحة اسبوعية، بينما خصصت "تشرين" أربع صفحات اسبوعية للقضايا الثقافية باسم "مدارات". ومع ذلك لم تسجل أرقام التوزيع قفزات تذكر، او تتفاوت من عدد الى آخر مرتبطة بالمتغيرات، بقدر ما رسخ الارتباط بالمناسبات ونشر القرارات والمراسيم الجمهورية التي تمس شرائح واسعة من المواطنين كقرار العفو أو تعديل قانون الايجار... الخ. ويعود عدم زيادة أرقام التوزيع عموماً الى جملة من الاسباب منها: التصور الراسخ لسنوات طويلة في أذهان الجمهور السوري حول صحافته، وكذلك جملة من الاسباب لها علاقة بطبيعة المجتمع وتراجع تقاليد قراءة الصحف حيال المد الاعلامي الفضائي. ان الاشكاليات التي تعاني منها الصحافة السورية كثيرة ومعقدة، وهي مدار البحث والعمل اليوم بين كافة الاطراف الداخلية في العملية الاعلامية. لذلك يبدو رفد الساحة بمزيد من الصحف سقفها التنافس مع ما هو موجود على الساحة المحلية لن يضيف الا عثرات واعباء أخرى. وما لم تسع الصحافة الموعودة الى اصدار صحافة حقيقية تنافس الصحافة العربية فإن ذلك لن يطور العمل الصحافي بما يخدم المجتمع ويتلاءم مع المتغيرات المتلاحقة على الساحة السورية الداخلية. وسابقاً تمت الإشارة الى تخلف الصحافة السورية عن الأداء السياسي الخارجي للبلد، ويخشى اليوم ان يتخلف الاعلام المحلي عن الأداء السياسي الداخلي النشيط، معمّقاً الاعتقاد السائد القائل إن سورية لا تجيد تسويق صورة موضوعية عن نفسها. ولعل المأمول اليوم من صحافة جديدة هي رصد الموزاييك السوري الشديد التنوع بمختلف تياراته، وان يتم الحديث عن اصدار صحافة ضمن مشاريع رائجة اقتصادياً لا مشاريع خاسرة سلفاً تسعى لانقاذ نفسها بمعونات مزمنة ترافقها طوال حياتها. ولم يعد خافياً ان احزاب الجبهة سبعة تعبر عن ثلاثة تيارات هي الناصري، والقومي، والشيوعي. ولا يمكن للمواطن العادي التمييز بينها من خلال اسمائها بل من خلال اسماء الاشخاص القائمين عليها، فهناك احزاب بكداش وفيصل واسماعيل وقدسي وعثمان وقنوت والأسعد. فهل ستكون صحافة الاحزاب الصادرة صحافة حزبية مستنسخة عن الرسمية، أم صحافة خاصة تميزها اسماء الاشخاص أيضاً؟ والسؤال الذي لا بد منه كذلك، هو: هل ستعطي الدولة الدعم الذي يجنب تلك الصحافة الزوال، مكررة تجربة الجبهة الوطنية، وستعيش صحافة الاحزاب الموعودة في غرفة الانعاش الى جانب أحزابها الآيلة الى انقراض؟ أم ان تلك الصحافة ستنجح في تحقيق ما فشلت في تحقيقه أحزابها وتبرهن على ان الحرية كانت الدواء لأحزاب عاشت عالة على الدولة وكادت ان تقضي حياتها وتعلن وفاتها على المقاعد الوثيرة وفي السيارات الفارهة!؟