الأمم المتحدة: قوات الاحتلال تقتل أكثر من 71 مدنيًا في لبنان    صندوق تمكين القدس يدعو إلى إغاثة الشعب الفلسطيني    ولي العهد يعزي رئيس وزراء ماليزيا في وفاة عبدالله بدوي رئيس الوزراء الماليزي الأسبق    محمد بن فهد.. موسوعة القيم النبيلة    مجلس الأعمال السعودي - الفرنسي يبحث تعزيز الشراكة الصحية    رأس اجتماع اللجنة الدائمة للحج والعمرة.. نائب أمير مكة: القيادة الرشيدة سخّرت جميع الإمكانات لراحة وطمأنينة ضيوف الرحمن    يعد ضمن النسبة الأقل عالمياً.. 2.3 % معدل التضخم في المملكة    القيادة تعزي ملك ماليزيا    المملكة تؤكد على وقف الدعم الخارجي لطرفي الصراع في السودان    الأردن يحبط مخططات تخريبية ويوقف 16 متورطاً    جريمة قتل في القاهرة    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (3-3)    العليمي والزنداني يرفعان السقف: لا حلول وسط مع الميليشيا.. رسائل يمنية حاسمة: تفكيك الحوثي شرط للسلام واستقرار البحر الأحمر    في إياب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا.. تحد كبير لآرسنال في معقل الريال.. وإنتر لتأكيد التأهل    بعد خسارته في إياب نصف النهائي أمام الشارقة.. التعاون يودع بطولة كأس آسيا 2    في ختام الجولة 29 من " يلو".. نيوم للاقتراب من الصعود.. والحزم لاستعادة التوازن    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الهولندي القضايا الدولية    بدعم من مركز الملك سلمان للإغاثة.. 598 مستفيدًا من مركز الأطراف الصناعية في تعز    السجن 5 سنوات لمواطن احتال على 41 ضحية    المظالم ينجز46 ألف دعوى خلال 3 أشهر    فيلم "هو اللي بدأ" خطوة لصناعة دراما برؤية مختلفة    حسن عبدالله القرشي.. شاعر البسمات الملونة (2/2)    المدينة المنورة: تطوير تجربة الزائر بربط المواقع التاريخية وإثراء البعد الثقافي    رُهاب الكُتب    الأول من نوعه في السعودية.. إطلاق إطار معايير سلامة المرضى    تغريم 13 صيدلية 426 ألف ريال لمخالفتها نظام "رصد"    قريباً في جدة    صدور الجبال.. معقل النمر والصقر    هل ضاعت الملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي؟    مواقف في بيت ثعابين    تعليق الدراسة الحضورية في نجران بسبب موجة الغبار والأتربة    الأمير سعود بن نهار يطلع على منجزات ومبادرات أمانة الطائف    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    بلدية محافظة البدائع تفعل "اليوم الخليجي للمدن الصحية"    مؤسسة الوليد للإنسانية وجمعية الكشافة توقعان اتفاقية استراتيجية لتمكين الشباب    توقيع اتفاقية تمويل "رسل السلام" بقيمة 50 مليون دولار    محافظ الطائف يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الفنون البصرية    انطلاق أعمال الدورة ال47 للجنة الإسلامية للشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية    برشلونة يتأهل إلى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا لأول مرة منذ 6 سنوات    مؤتمر القدرات البشرية.. مجمع الملك سلمان يقدم ثلاث مبادرات نوعية    مركز الملك فيصل يصدر "كتاب الأزمنة" للمُبرّد    أمسية بتبوك تستعرض الصالونات الأدبية ومكانتها الثقافية    تعليم الباحة يطلق جائزة الشيخ الدرمحي للتميز التعليمي    تعليم الطائف ينفذ مشروع معاذ للسلامة الإسعافية في مقرات العمل    "بينالي الفنون الإسلامية 2025" يواصل استقبال زوّاره في جدة    الأخضر تحت 17 عاماً يعاود تدريباته استعداداً لنصف نهائي كأس آسيا    إجراء قرعة دوري الإدارت الحكومية لكرة القدم 2025 بمحافظة حقل    تحت إشراف مركز الملك سلمان للإغاثة.. فريق «البلسم» الطبي يصل سورية استعدادًا لإجراء 95 عملية ضمن المشروع الطبي التطوعي لجراحة وقسطرة القلب    سمو أمير الباحة يتسلم تقارير منجزات أمانة المنطقة والبلديات    العالم على أعتاب حقبة جديدة في مكافحة «الجوائح»    نائبا أمير الرياض والشرقية يعزيان أسرة بن ربيعان    20 ناطقا بغير العربية ينافسون عربا بمسابقة قرآنية    بخيل بين مدينتين    فرع الإفتاء بجازان يختتم برنامج الإفتاء والشباب في الكلية الجامعية بفرسان    أمير نجران يعتمد الهيكل الإداري للإدارة العامة للإعلام والاتصال المؤسسي بالإمارة    الحقيقة التي لا نشاهدها    الفلورايد تزيد التوحد %500    أمير تبوك يزور الشيخ محمد الشعلان وبن حرب والغريض في منازلهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إقصاء الآخر
نشر في الحياة يوم 11 - 04 - 2001

"الآخر" المشتهى، من منظور الاتحاد به أو المحاكاة له، هو، من ناحية مقابلة، موضوع للكره والرغبة فى الإقصاء أو الاستئصال، فالعلاقة به هي علاقة تضاد عاطفى بأكثر من معنى. والشخصية التي تنوب عنه، وهي "سيمون" فى حالة رواية "أصوات" لسليمان فياض، بقدر ما تثير الإعجاب وتبعث على الحب، تثير مشاعر مضادة، وتبعث انفعالات مناقضة. أول هذه المشاعر والانفعالات ما يتصل بالذكريات السلبية التي لا تزال بقاياها فى الوعي الجمعي الذي لم ينس ضحايا غزو قوم "سيمون" أيام الحروب الصليبية أو أيام الحملة الفرنسية على مصر.
ولذلك لم تخل أحاديث القرية التي اهتزّت بقدوم سيمون الفرنسية من الحكايات المختلفة عن بلادها "الفرنساوية". وتذكّر المتعلمون الحروب القديمة التي كانت بيننا وبين الفرنسيين منذ حوالى مئة وخمسين سنة. وأفضت أحاديث الذكريات إلى أن "الفرنسيين" أقاموا فى "الدراويش" سنين وعاشروا نساءها "والعياذ بالله فى غير حلال". وكشفت الذاكرة الجمعية، بواسطة المسنّين أهل الخير والبركة، نقلاً عن الأجداد الراحلين أن سبعة عشر ألفاً قد ماتوا من أبناء "الدراويش" والبلدان المجاورة بيد قوم سيمون، وأن النساء بقرت بطونهن لمعرفة ما يحملن من ذكور أو إناث، وأن الدجاج والبط فى القرية كان يُقتل بدكّ عصاة فى مؤخرته حتى تخرج من العنق أو الفم. ولم تنس الذاكرة الجمعية الإشارة إلى القرى التي أُبيدت بأسرها على أيدي جيش نابليون. وكلها ذكريات لا تزال تترك أشد الحزن فى النفوس، فتثير أشد الغضب فى الصدور.
والعودة إلى التاريخ الرسمي أو التاريخ الشعبي، فى هذا السياق، هي عودة إلى الوعي الجمعي الذي يتأصل فيه عداء "الآخر" الغازي، ومن ثم الحضور السالب لهذا الآخر المعتدى الذي لا يمكن هزيمته فى الحاضر كما حدث فى الماضي، فلا سبيل إلا إلى تقبّله والإفادة من حضوره الإيجابي، خصوصا فى الأبعاد التي لا تتصل بالغزو العسكري أو الاستغلال المادي المباشر، وهي الأبعاد التي بدت واعدة فى حضور سيمون التي جلبت معها، على سبيل المثال، عادات النظافة التي لم تعرفها القرية، كما جلبت معها الرعاية الصحية بالعيون لاحظ تكرار دال "العيون" ودلالاته اللافتة فى عالم سليمان فياض القصصي الذي جعل عنوان إحدى مجموعاته القصصية "العيون". لكن الأبعاد الإيجابية التي اقترنت بحضور سيمون لم تخل من معنى التهديد للحضور الراسخ للتقاليد الجامدة للقرية، ولم تفارق دلالة إقلاق الوعي بإيقاظه من سباته الذي استراح له. أقصد إلى الواقع المتخلّف الذي أصبح طبيعيا تماما فى وعي القرية إلى الدرجة التي تجعل من أية محاولة لتغييره محاولة لتدمير الناموس الذي ألفه الناس، وباركه أولو الأمر، وبرّره وعاظ المساجد، ولا يزال يصونه حراس الاتباع الجامد الذين لا يترددون فى ممارسة العنف إزاء محاولات تغيير الواقع الذي يحمونه.
بعبارة أخرى، عندما تصعب هزيمة "الآخر" أو من ينوب عنه، ويبدو تمثيله قاهرا فى حضوره الذي يفرض نفسه، ويهدّد بإزالة قيم الثبات التي تمّ تطبيعها فى النفوس، فلا بد من القضاء على هذه التمثيلات، إن لم يكن من منطلق مبدأ الواقع فمن منطلق مبدأ الرغبة، حيث الأداء الرمزى لتمثيلات أفعال الإقصاء أو الاستئصال.
هكذا، لا يُخفى صوت أحمد الداخلي مدى ما وصل إليه حاله من سخط وضيق بزيارة حامد وسيمون اللذين قلبا حياة القرية كلها. صحيح أنه كان فخورا بأخيه أمام أهل القرية، معتزّا برفع رأسه بينهم أكثر من العمدة وبطانته، ولكنه لم يكتم ما شعر به من الغيرة من ناحية مقابلة، فقارن بين حاله وحال أخيه، وزوجته هو وزوجة أخيه. ووصل به توتر الغيرة إلى حدّ أنه رأى، فى الحلم، أنه "يقتل أخاه بسعادة" مؤديا الشعيرة الطقسية التي مارسها قابيل على أخيه هابيل، مكررا مشاعر الشر الخبيثة نفسها.
ولم تكن هذه المشاعر بعيدة عن ما شعر به محمود بن المنسي الذي لم يخل قلبه من حسد لحامد، سواء على الجسد الحي الفتيّ الذي يملكه، والتكامل النفسي الذي أحسه فيه، وسيمون التي أحبته، والنجاح الذي حققه. ولم تكن هذه المشاعر، كذلك، بعيدة عن أعماق العمدة الذي ظل يسأل نفسه: هل يحب حامد أم يكرهه؟! وظل يخاف من حضوره الذي يهدد وجوده بوصفه أكبر رأس فى البلد، فحامد بعزوته وماله وزوجته الفرنسية يمثل خطرا فعليا على العمودية، واحتمالا قويا لأن تعلو عائلته المستضعفة به، وتقوى بماله على عائلة العمدة التي كانت أكبر عائلة فى القرية.
وترتفع حدّة المشاعر المتناقضة عند زينب التي فرحت بحامد ووجدت فيه موضوعا لرغبتها، كما فرحت بسيمون التي أخذت تقلّدها. لكنها - من ناحية مقابلة - لم تستطع هي وزوجها أن يخفيا الحسد الذي رآه محمود المنسي واضحا فى حركاتهما وعيونهما. وعندما نستمع إلى صوتها الخاص فإننا نستمع إلى نجواها التي تؤكد كرهها لسيمون، وحسدها على ما هي فيه: "حظها من الدنيا خير من حظي، وزوجها أفضل من زوجي، وولداها الاثنان فقط أفضل، فى الصورة، من أولادي الخمسة". ولذلك تحركت رغبتها المضادة للحب لتشفي غليل نفسها، وتبرد نار قلبها.
الطريف أن مشاعر الأم لم تختلف كثيرا إزاء سيمون "الخواجاية" التي قلبت حياتهم، ولم تكتف بالإطاحة بها من غرفة نومها التي احتلها زينب وحامد اللذان طرداها إلى السطح، وإنما أخذت تماري سلوكها الغريب وأفعالها الفاضحة. قد تغفر الأم لابنها حامد جهله باللغة التي تصله بها، ولكن انصياعه إلى أوامر زوجته، وتشديده عليهم فى الاستجابة إلى طلباتها المجنونة، وتركها فى حالها على حل شعرها، فأمر لا يمكن احتماله، ويزيد عليه ابنها أحمد الذي فقد نخوة الرجولة فأصبح ظل الخواجاية، يستجيب إلى نزواتها استجابة العبد لسيده، أو سيدته الخواجاية التي تسلك سلوك الرجال، وتأمر وتنهي كأنها واحد منهم. كل هذا لم تحتمله الأم طويلا، خصوصا بعد أن لاحظت أن زوجة ابنها لا تحلق شعر إبطها الذي يبدو مع حركة ذراعيها كالإثم أو النجاسة. ويبدو أن معاناة الأم من حالات الخرف والجنون التي أخذت تنتابها، من منظور هذا السياق، استجابة لا واعية لعنف الانقلاب الذي حدث فى عالمها، واحتجاج عليه ورفض لمن تسبب فيه بالقدر نفسه.
والمفارقة الدالة فى علاقات هذا السياق، أن حامد برَّ بأهله جميعا، لكنهم قابلوا بِرَّه بالجحود الذي أخذ شكل الغش والكذب، شأنهم فى ذلك شأن بقية أبناء القرية التي يمثلونها، فلم يروا فيه سوى "آخر" مجنون، يبدد المال، ويثير من حوله الحسد، كما لم يروا فى زوجته "الخواجاية" سوى امرأة تشبه "غواني الكباريهات فى ملاهي مصر"، أو شيطان يستعاذ بالله من فتنته، ومن فتنة البلاد التي ينتسب إليها، والتي لا سبيل إلى مقاومتها إلا بإقصاء حضور شيطانها الذي اتخذ شكل أنثى غاوية.
ولا تختلف دلالة الأنوثة الغاوية، فى علاقات هذا السياق، عن الدلالات العدائية التي ينطوي عليها استخدام كلمات مثل "الفرنجة" و"الفرنسيس" وغيرها من المفردات التي كانت تستخدم فى الإشارة إلى الغرب، العدو، الغازي، الكافر، الآثم، النجس. وكان ذلك فى السياق نفسه الذي أثارت فيه الأنوثة الغاوية لسيمون، فى أعماق الرجال، المشاعر التي اختلطت فيها رغبة الجنس برفض حضورها الأنثوي، ذلك الحضور الذي كان يعني وضعا جديدا مقلقا لحضور المرأة، أعني وضعا ما كان يمكن للرجال ولا للنساء أن يقبلوا به، لما يترتب عليه من احتمالات تدمير أوضاع علاقات التراتب البطريركية بين الرجل والمرأة. ولذلك كانت النظرة السلبية إلى سلوك سيمون مع الرجال من ناحية، وعلاقة التكافؤ التي كانت تجمعها وحامد زوجها من ناحية ثانية، فضلا عن ثيابها وإشارات جسدها من ناحية ثالثة - أقول كانت هذه النظرة السلبية قاسما مشتركا بين الرجال والنساء الذين أقلقهم الحضور المستفز لسيمون.
أما الرجال فكان أول ما أثار انتباههم فى سيمون، خلال عيني محمود بن المنسي، هو ثقتها بنفسها، وما يتصل بهذه الثقة من الصفات التي جعلت محمود بن المنسى يتحول إلى ما يشبه التابع المطيع فى علاقته بها. وكان ثاني ما لفت نظر الرجال، خلال عيني أحمد البحيري، جسارة الجسد، والإحساس الكامل بالندّية فى العلاقة بالرجال. ولا شك أن جسارة الجسد أثارت مشاعر العمدة الذكر، ولكنه استاء من العري الظاهر من الثوب القصير بوصفه عمدة مسؤولا عن الآخرين، خصوصا بعد أن رأى أثر هذا العري فى أعين جميع الذكور، فأدرك الخطر الذي تمثله هذه "الخواجاية" على بنات القرية "العفيفات" وعلى نسائها المتّشحات بالسواد، وقبل ذلك كله على الشباب. ولذلك همس لنفسه بلعنة زوجها "النطع" الذي سمح لها بارتداء فستان يكشف عن ما كان ينبغى له أن يستر من جسدها، وأوضح لنفسه ولنا - نحن القراء - أن سيمون كانت المرأة الوحيدة فى الحفل باستثناء الراقصة: "فمن يقبل أن يأتي بامرأته إلى مثل هذا المجلس؟!". ولا يفكر أحد، قط، فى إمكان ارتداء زوجته ثوبا كذلك الذي ارتدته سيمون، فذلك من رابع المستحيلات، ويدخل فى باب أكبر الكبائر.
ولم تختلف نظرة النساء المقموعات عن نظرة الرجال القامعين، فقد كان الوعي الإمبريقي أو التجريبي، إذا استخدمت أحد مصطلحات لوسيان غولدمان هو الذي يحكم تصوراتهن عن أنفسهن وعن تبعيتهن للرجال فى الوقت نفسه. ولذلك وجدن سلوك سيمون داخلا فى باب العيب، وفى علاقاتها بالذكور، ما يدخل فى باب الإثم، وفى علاقتها بجسدها ما يدخل فى باب النجاسة التي تستحق الطهارة. ولم تفكر واحدة منهن فى إمكان التشبّه بسيمون فى المساواة الحقيقية بالرجل. فقد كان ذلك أمرا مستحيلا من منظور وعيهن المقموع الذي تحوّل إلى وعي قامع فى التعامل مع سيمون. هكذا، قررن إصلاح ما تصورنه اعوجاجا وانحرافا فى حضورها الجسدي وسلوكها الأخلاقي.
وتلفتنا حوارات النساء اللائي يجمعهن الحسد لسيمون والغيرة منها إلى تثبيت صورة المرأة التابعة للرجل فى وعيهن، بوصفها موضوعا للرغبة الجنسية بالمعنى المباشر الفج، وظيفتها الأساسية تفريغ الشهوة وتفريخ الأولاد بالمعنى الذي يجعل المعاشرة الجنسية أشبه بمعاشرة الأرانب، فيما تقول زينب لزوجها بعد حضور سيمون. يضاف إلى ذلك الاعتقاد بأن المرأة خلقت لغواية الرجل وإضلاله، وأن قوة الغريزة الجنسية الموجودة فيها طاقة تدمير للرجل ما لم تُهذَّب هذه الغريزة، ويتم تقليص عرامتها بالختان الذي هو تطهير للمرأة من شيطان الغريزة، واختزال لحضور الغريزة نفسها داخل حدود آمنة مقموعة إلى الأبد.
ويبرر ثبات وعي المرأة بنفسها الدهشة التي عانتها أم أحمد، وهي ترقب امرأة ابنها مثل حكيمة المستشفى، تأمر وتنهي، ويسمع لها ابنها أحمد ويطيع على طوله وعرضه. هذه الدهشة تحولت إلى السؤال: "هل تزوج ابني حامد من رجل مثله؟!". وصيغة السؤال دالة فى كشفها عن سبب جذري من أسباب رفض سيمون التي خرجت عن الصورة التي استقرت فى وعي نساء القرية عن أنفسهن. وهي الصورة التي ثبتتها فى وعيهن هيمنة المجتمع الذكوري البطريركي الذي جعل الرجل أفضل من المرأة على الإطلاق، وجعل المرأة مجرد تابع ذيلي هامشي.
وكان حضور سيمون يمثل نقضا لهذه الصورة الثابتة فى وعي المقموعات عن أنفسهن، ودعوة غير مباشرة إلى التمرد على هذه الصورة، سواء من منظور المساواة الذي فرضته سيمون على زوجها الذي أصبح مثلها فى الإيمان بالأفكار التي تمثلها، أو من منظور السلوك الذي تمارسه مع غيره من الرجال بوجه عام، أو منظور الأفعال المحرمة التي تقترفها أمام الجميع دون خجل. باختصار، كان هذا الحضور تهديدا مباشرا لكل ما اعتادته نساء القرية، ولكل ما ثبت عليه وعيهن. ولذلك، كان التفكير فى إقصائها حماية لهذا الوعي من مراجعة نفسه، وإبقاء على استنامته إلى وضع المرأة الذي بدا طبيعيا تماما مع تعاقب الأجيال التي تقبَّلته تقبّل مسلمات الوجود وعناصره الثابتة. وكان التفكير فى إقصاء سيمون، من زاوية مقاربة، خلاصًا من الشرور التي كان يمكن أن تتسبّب فيها، والتي كان منع وقوعها أمرا طبيعيا فى منطق النساء اللائي قررن القيام بفعل الإقصاء نيابة عن الرجال، ودفاعا عن العالم الذي ألفنه وحرصن على إبقائه على ما هو عليه.
ويلفت الانتباه، من هذا المنظور، أن رغبة القتل التي تحققت رمزيا، فى حلم أحمد البحيري عن أخيه، هي نفسها الرغبة التي تجاوز دائرة الفعل الرمزي إلى دائرة الفعل المادي فى حالة النساء اللائي أفضت بهن المشاعر المكتومة للكره المضفور بالحسد والغيرة والحقد إلى ممارسة فعل العنف العاري الذي يجسّد رغبة الإقصاء الجسدي والاستئصال المادي فى احتدامها القمعي. وتبدو هذه الرغبة مبررة بالمعتقدات الشعبية التي تنطوي عليها تأويلات دينية مغلوطة، وعلى عملية لا شعورية يستبدل فيها اللاوعي الجمعي لخمسة من النساء برغبة الاستئصال رغبة الطهارة التي تبدو مبررا مقنعا لإعلان الدوافع المكظومة، وتمهيدا لممارسة أفعالها القمعية على سيمون.
ويبدأ ذلك برفض حضور "الخواجاية" الفرنساوية التي تتحكم فى الرجال وتدور على حل شعرها فى حواري البلد والغيطان، وتشرب الخمر جهارا فى البندر وتنوي فضح القرية فى جرائد بلدها التي تكتب فيها. وتنتقل المؤامرة إلى إدانة الزواج من مسيحية رغم أن الشرع يبيح للمسلم أن يتزوج مسيحية، ولكن المسلمات أولى بالمسلمين وأنظف وأطهر. أما أن يتزوج المسلم مسيحية، وتخرج من صلبه ابنة يمكن أن تكون مسيحية مثل أمها، فهذه هي المعصية الكبرى. ولا يقتصر شرّ الخواجاية الفرنساوية على إفساد الأخلاق، فهناك صفة "النجاسة" التي تحرّمها على المسلمين الأطهار؟!. إنها امرأة لا تحلق شعر جلدها، تحت الإبطين وبين الفخذين. وألعن من ذلك أنها لم تختتن، و"المرأة إذا لم تختتن تصبح هائجة مثل القطة تطلب الرجال ولا تشبع أبدا، ثم إنها ترهق رجلها كل ليلة، بل تخونه كلما أتيحت لها الفرصة. وسيمون قد فعلت ذلك، ولا بد، مرات كثيرة قبل زواجها من حامد وبعد زواجها منه". هذا ما قالته الست نفيسة الداية، ونطقت به كأنها تنطق بالقول الفصل بوصفها ممثلة الصحة النسائية. ولذلك تنجح فى إقناع أم أحمد بضرورة حلق شعر جلد سيمون - زوجة ابنها - لتطهيرها من النجاسة، وإذا لزم الأمر ختانها.
وتوافق زينب على ارتكاب الجريمة التي تقوم بتنفيذها الداية، فى حضور أم أحمد وأم خليل وأم إبراهيم بوصفهن نائبات عن نساء القرية. وتبرر زينب لنفسها المشاركة فى الجريمة برغبتها فى أن تُرى حامد الآخر أنها أفضل من زوجته وأنظف، وأن "المصرىة خير من الخواجاية ألف مرة". وتنتهي مؤامرة الختان بنزيف الضحية، وموتها نتيجة تخلّف الداية التي "أخذت تمارس مهمتها بسعادة بالغة، والنسوة واقفات مستريحات ينظرن إلى مهمة جليلة، وفى قلق وسرور شديدين". وينقلب السرور إلى كارثة، وتتحول المهمة الجليلة إلى مهمة اغتيال. وتهرب الداية مرتكبة الجريمة، ومعها بقية المحرضات، ولا يبقى سوى أم أحمد التي استأصلت حضور ولدها الذي أصبح "آخر" غريبا عنها وزينب التي أقصت حضور المرأة "الأخرى" ليخلو لها الطريق إلى حامد الذي أقصته إلى الأبد بالإسهام فى اغتيال زوجته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.