يبدو أن تمثيل عالم المرأة العربية سردياً ما زال يستأثر باهتمام متزايد، خصوصاً الروائيات اللواتي لهن كثيراً من تجاربهن الذاتية فعبّرن عنها بوسيلة السرد، فظهرت مجموعة من النصوص التي تستثمر تلك التجارب وتعيد تركيبها مجدداً طبقاً لمعايير فن الرواية. هذا الدمج بين التجارب الذاتية والمادية السردية المتخيلة هو الذي افضى إلى ظهور نوع سردي ثانوي، هو السيرة الروائية. ومن الواضح أنه نوع بدأ يستقطب اهتمام الكتّاب. ويأتي نص "نساء على أجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي في هذا السياق، لكنه يأتي هذه المرة من باحثة ومفكرة لها موقع في دراسة قضايا المرأة العربية، وبأدوات البحث الفكري والنقدي والتاريخي المعروفة، استبدلت المرنيسي وسيلة السرد الأدبي لترسم معالم طفولتها المبكرة. فكتاب "نساء على أجنحة الحلم" وثيقة تخيلية تستكشف عالم الحريم في النصف الأول من اربعينات القرن العشرين في المغرب، العالم المنسي المنحبس خلف بوابة ضخمة يحرسها رجل صارم. يعرض ذلك العالم من خلال رؤية طفلة في السابعة، يصرّح الكتاب مرة واحدة باسمها فاطمة. وككل نص يريد انتاج سيرة ذاتية تخيلية مستعادة تتداخل فيها مستويات الحقيقة بمستويات التخيّل، فإنه بقدرته البارعة على الاختلاق، يوهم تماماً بالحقيقة. يُدعم النص بهوامش توثيقية، ويحرص على انزال الأحداث في إطار تاريخي محدد، وتترافق تلك الأحداث مع نهضة المغرب الحديث، وتهيمن وقائع الحرب العالمية الثانية على أجزاء الكتاب من خلال الوجود الفرنسي والاسباني والأميركي، ولكن كل ذلك يأتي بوصفه خلفية لإعطاء معنى لمضمون النص، فالرسالة التي تنبثق من ثناياه تريد كشف النسق الثقافي السائد إلى عالم الحريم، ثم بداية انهيار ذلك النسق بسبب المؤثرات الثقافية الخارجية. ولكي لا يقع المتلقي في وهم الوثائقية التي يوحي بها الكتاب، تسارع المرنيسي إلى الاعلان عن الصفة التخيلية لكتابها "هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية، وإنما أحداث متخيلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة" ص255. ويبدو لنا ان هذا التوضيح يزيد الأمور التباساً أكثر مما يجليها، لأن النص يتخطى التبسيط الذي تؤكده تلك الفقرة. في الواقع ان كتاب "نساء على أجنحة الحلم" يمثل إحدى أكثر الرؤى عمقاً وتشريحاً للعالم المغلق الذي تعيش فيه المرأة العربية، قصدت بالعالم المغلق ذلك الكيان المقصى والمهمش الذي دارت حوله نصوص أدبية رغبوية شغلت بإثارة الشهوات الحبيسة، لكنها اخفقت في تمثيل التراتب الثقافي فيه، ولم تجرؤ على الدخول في تفاصيله النفسية، وفي كشف نمط العلاقات السائدة فيه، وفي تأثير العلاقة المتكسرة بينه والعالم الخارجي الذي يحتل الرجل المركز الأساسي فيه. وبالطبع لا يمكن لكتاب توثيقي أن يؤدي هذه المهمة، فعالم الحريم مجاز رمزي كثيف لا يعبر عنه بلغة وصفية، كونه غادر بفعل الزمن حقيقته الموضوعية وأصبح موضوعاً مشبعاً بتقاطع الرؤى الايديولوجية المتنازعة التي تصدر عن منظورين ثقافيين متعارضين: أحدهما مشغول بالحفاظ على الهوية الثقافية بمعناها التقليدي، والآخر مسكون بهاجس التغيير. الأول يريد تغييراً في الدرجة لعالم الحريم، والثاني يريد تغييراً في النوع، الأول يريد إعادة صياغة لذلك العالم بما يطابق التهميش الثابت لدور المرأة، والثاني يسعى إلى إلغاء هذا المفهوم من أساسه. والمشكلة تتفجر بعد كل هذا، فالتيار الأول يريد تكييف دور المرأة بما يوافق تعليمات "الماضي"، والثاني يريد إعادة دمج المرأة في الوسط الاجتماعي استجابة لتعليمات "الآخر". وبالنسبة إلى التيارين، فالمقصود بذلك التعليمات الثقافية التي تفرض حضورها بالتعلم والمعايشة والادعاء المزدوج لكل من الحفاظ على التقاليد والاندراج بعالم التحديث. والمثير بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من معنى ان كل هذه الرؤى والمواقف تتقاطع في وعي الطفلة الصغيرة "فاطمة". والحق أن النص يفجّر مشكلات أعمق، فالطفلة التي تحبو في عالم الحريم منقسمة على ذاتها بين الاستجابة لرغبات الأم الحالمة بأن تكون ابنتها منفكة من قيود الحريم، متخطية أسواره والامتثال لروادع "لللاالطام" التي تتعهد دروس التربية الدينية، وتزرع في قلب الطفلة فكرة مؤداها: ان كل خرق لسياج الحريم إنما هو خرق لسياج الدين. لكن النص يثير إلى ذلك مشكلة اجرائية، فمن الواضح أن فاطمة المرنيسي تسقط وعيها اللاحق بوصفها إحدى العاملات في مجال قضايا المرأة على طفولتها المبكرة، لتجعل من تلك الطفولة مجالاً لمناقشة هذا الموضوع البالغ الأهمية، لكنها تصرّح في الكتاب ان تلك الطفولة مختلفة عمّا ارتسم في صفحاته "لو حاولت ان أحكي لكم طفولتي لما استطعتم اتمام الفقرتين الأوليين، لأن طفولتي كانت مملة إلى حد كبير" ص25. ولا يمكن تخطي كل هذا إلا إذا تحررت القراءة النقدية من شرط المطابقة بين فاطمة المرنيسي وفاطمة الشخصية الرئيسية في الكتاب، وهو تحرر يهدف إلى مطابقة من نوع آخر، ففاطمة الصغيرة طفلة الحريم إنما هي قناع للمرنيسي التي تنوء بوعي ناقد يشرح الاكراهات التي شوهت وضعية المرأة في الثقافة العربية - الإسلامية قديماً وحديثاً. وقضية الاكراهات التي تعرضت لها المرأة موضوع يشكّل مركز الجهد الفكري الذي انتجته فاطمة المرنيسي وشغلها مدة طويلة. ففي كتابها المثير فكرياً "الخوف من الحداثة: الإسلام والديموقراطية"، طوّرت حفرياتها في الجانب المغيّب من وعي الثقافة العربية، وهو، المرأة بوصفها كائناً فاعلاً اجتماعياً. وفتحت كوّة إلى العالم الذي جرى تناسيه، وطمر في طيات معقدة من الاحتيال على الذات، طيات متكسرة تعفنت زواياها بسبب العتمة الدائمة، حيث لا حضور للزمن، وسعي متقصد للنسيان الذي يأخذ شكل الاختزال والاستبعاد. وكانت في كتاب آخر "الحريم السياسي: النبي والنساء" عممت حالة الرسول قبل هيمنة التصور الاقطاعي للإسلام، حالته العمومية كفرد يتواصل مع أسرته في منأى عن الضخ الايديولوجي الذي ولّده الإسلام المتأخر، حين لم يكن ثمة انفصال بين الفرد وعالمه، ومن هذا المنظور تنعطف المرنيسي إلى عالم النساء في حياة الرسول، بعيداً عن التجريد اللاهوتي الذي قام وتصلب في ما بعد، فهي تريد ان تنفتح على أفق أكثر سعة، لتؤشر إلى الفكرة الحاضرة الملتبسة حول كيفية الاندماج الطبيعي بين المرأة والرجل في عالم يحدث نفسه، وهو منشطر بين غرب يسعى إلى تحويل التحديث إلى عمل مستحيل، من خلال تمزيق الانساق التي لا بد لكل تحديث ان ينتظم فيها، ومجتمع ذكوري يتعمد اقصاء نصفه كعورة فاضحة، قاصرة ومبتورة، ولكنها مثيرة للشبق، وهو قطاع النساء. وعلى هذا، فكل من الغرب والذكورية العربية يتبادلات المصالح، ويقهران المرأة، وسلسلة الانهيارات المعاصرة في سلم القيم، يراد بها، الحؤول دون تقبل المرأة كآخر. وفي نهاية المطاف تدفع المرأة إلى الحاشية ليجري تهميشها ككائن خلق للنسيان في طيات الحياة المهملة. كذات يأخذ وجودها معنى واحداً هو: الجسد مادة اللذة وموضوعها، إنها جسد يمكن أن يقلب على كل جوانبه، يفحص باستيهام ذهني، وتدرج تفاصيله في سياق الشبق اللغوي، ويعاد انتاجه مادة دعائية من أجل استثارة رجولة خاملة، تعاني الاخفاق والانكسار في عالمها، فتبالغ في الادعاء الذكوري، وبازاء هذا الاختلال، وتلك المصادرة، لا يحصل توافق طبيعي بين الأجساد، لأنه توافق هش ومصطنع يقوم ذهنياً على الاستباحة والاغتصاب والأنانية. يتحول جسد المرأة في منظومتنا الثقافية إلى حرباء متقلبة، يحجب ويفضح في آن واحد، فخلف كل حجاب ثمة جسد يفجره العنفوان، وصورة المرأة معقدة في مجتمعنا، انها رماد يطمر جمراً، مرة يريدها الرجل رماداً، ومرة جمراً، يخفي كينونتها الإنسانية وراء حجب الاهمال والاستبعاد، لكنه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة. وهكذا فالعلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل، وبسوء فهم دائم، ففي الوقت الذي يمارس فيه الرجل هذه الازدواجية، تستجيب المرأة للضغوط المتقاطعة التي تفرضها تقاليد شبه مغلقة. تقاليد صار هاجس بعثها مجدداً أحد أكثر التحديات الثقافية حضوراً في عصرنا، تواكبها تطلعات تحررية مستعارة انجزتها مجتمعات أخرى. يطرح الكتاب قضية الحريم موضوعاً مركزياً وسط دائرتين متراكبتين: دائرة مدينة فاس كبؤرة رمزية للأحداث المتخيلة ومن ورائها ينبثق المغرب في صراعه ضد الفرنسيين والاسبان في الأربعينات من القرن العشرين، وكيف ان الرجال كمجتمع وتقاليد وثقافة وذاكرة يتخطون وجود الأغراب ويشغلون بالحفاظ على "الغريبات" وتحصينهن، فيبدو الرجل - بدلالته الرمزية - خائفاً من نصفه الآخر أكثر من خوفه من الغريب الذي يحتل البلاد، ويقسّم المدينة الى قسم فرنسي وآخر مغربي. انه مشغول بحجز النساء في البيت الكبير ولكنه لا يظهر تململاً من وجود الأجنبي حتى ان المرأة "طامو" هي وحدها التي تخترق حاجز الخوف، وتكاد تغيب صورة الرجل في الصراع ضد الأجانب سوى ظلال باهتة تتردد باستحياء عن ثورة الخطابي. ودائرة أخرى أكثر سعة يمثلها الصراع الثقافي بين نمطين من القيم: القيم الموروثة من الماضي كتقاليد وفولكلور التي تؤمن بشريعة حبس النساء كحريم، ويمثلها الرجال اجمالا، ومعها فئة متنفذة من النساء، مثل: "لللاالطام" و"لللامهاني" و"لللاراضية" وهن الجيل الأكبر، جيل الجدات. وقيم مستحدثة غزت الجيل الأصغر بفعل المؤثرات الغربية، وبفعل الحركة الوطنية المغربية الناهضة في تلك المرحلة، وهي تريد تخليص المرأة من الأسر الاجتماعي ثم دمجها في مسار المجتمع كعنصر فاعل، ويناصر هذه القيم كل من: الأم والخالة "شامة". وتتقاطع هذه التيارات المتعارضة في شخص الطفلة الصغيرة، ابنة السابعة "فاطمة". تبدو الحرية لنساء اسرهن مفهوم الحريم ضرباً من الأحلام المستحيلة، ولهذا يلجأن الى محاكاة أولئك الذين يتمتعون بها. تقوم بهذا الدور "شامة" إذ تعيد عبر التمثيل والحكي عالم الحرية الخارجي داخل أسوار بيت الحريم، ومصادرها الكتب الخرافية والسحرية والاذاعة التي يسترق السمع اليها سراً حينما يخلو البيت من الرجال وتفلح النسوة في اقتحام غرفة الذكور حيث يقبع الراديو الكبير القديم. ثمة عرض مسرحي أو حكائي شبه يومي تتعهده "شامة" أمام الحريم اللواتي ينزلقن بسهولة بالغة الى المماهاة بالأحداث والشخصيات التي تقوم شامة بعرضها أو بأدائها. الحكاية الأثيرة مستلة من ألف ليلة وليلة انها حكاية الجارية بدور والبحث المثير عن الحبيب الغائب. ما أشد وقع حكايات الحب والمغامرة على نفس حبيسة الأسوار؟ ولكن من الواضح ان الكتاب يعنى أكثر بنموذج من نوع آخر يؤدي دوراً لا يختلف في مغزاه، لكنه يختلف في تفاصيله. انه نموذج الفنانة اسمهان الطالعة آنذاك في سماء الفن. تغرم شامة بتقمّص دور اسمهان فتوقد شرارة الأحلام في أفئدة الحريم، فكانت تحاكي تنهداتها الحبيسة التي تحمل النساء على أجنحة الأحلام الى فرسان غائبين الى الأبد. كانت اسمهان غزت قلوب الحريم على النقيض من أم كلثوم المتجهمة التي تترفع عن فضح الضعف الانساني، وتتخطى بسهولة تحسد عليها الرقة الانثوية. وفي مجال المقارنة والميل يكون تأثير اسمهان أشد وقعاً في نفوس الجيل الثاني والثالث من الحريم. الى ذلك فإن "شامة" تعرض لأفكار: عائشة التيمورية، وزينب فوّاز، وهدى شعراوي، رائدات المطالبة بحرية المرأة. وعلى رغم تحذيرات "لللا الطام" من أن حالة من التهتك قد اجتاحت عالم الحريم، فإن النساء يستغرقن في حالة عميقة من التماهي مع ما يعتبرنه رموز الحرية، سواء جاء من الحكايات الخرافية أم من الأوساط الفنية أم من النساء المطالبات بحرية المرأة، وكلما جُرّد النموذج من أبعاده الواقعية كان يلهب خيال الحريم. تحتاج ذهنية الحريم الى نوع خاص من الاستثارة، وكما يصور الكتاب، فإن اسمهان كانت النموذج الذي اخترق عالم الحريم. ويحسن ان نتوقف عليه لما يتضمنه من دلالة عميقة. كان صوت "اسمهان" الذي يصل عبر الأثير الى الحريم خلسة، يفعل فعله في تأجيج الرغبات الخفية، فتعلن عن نفسها في جو احتفالي راقص حول نافورة الدار، كانت اغنية "أهوى.. أنا أهوى" تثير رعدة في الأجساد ورغبة في النفوس، فكان "الطرب يبلغ مداه، كانت كل منهن تتخلص من خفيها وترمي بهما، ويرقصن حافيات حول النافورة، الواحدة تلو الأخرى، وهي ترفع قفطانها بيد وتضم الى صدرها باليد الأخرى حبيبا متخيلا". ويحسن ان نتتبع النص من خلال منظور فاطمة ليتضح لنا الأثر الذي لا يمحى في نفس الصغيرة، وهي تقارن وتشرح في الوقت نفسه الفوارق بين ام كلثوم واسمهان والانطباعات التي تتشكل في وعيها آنذاك "يا له من فرق بين أم كلثوم الفتاة الصغيرة ذات الصوت الذهبي القادمة من احدى القرى المجهولة في مصر، التي حققت النجاح بفضل الانضباط والعمل الدؤوب، وبين اسمهان الارستقراطية التي لم تبذل جهداً لنيل الشهرة! كانت أم كلثوم تتوفر على هدف في الحياة، وتعرف ما تريده وما تسعى اليه، في حين كانت اسمهان تهز قلوبنا بضعفها البادي، أم كلثوم كما رأيناها في أفلام سينما بوجلود قوية وسمينة ترتدي دائماً فساتين طويلة واسعة تخفي صدرها الممتليء... كانت اسمهان عكسها تماماً، مخلوقة نحيفة ذات صدر نافر، مظهرها يوحي بأنها ضائعة غارقة وسط الضباب، متجذرة في الأحلام أكثر من ارتباطها بواقع يتجاهلها، كانت بالغة الأناقة في قمصانها الغربية المفتوحة على الصدر، وتنوراتها الضيقة، لم تكن مهووسة بالأمة العربية، وكانت تتصرف كما لو أن القادة العرب الذين تتغنى بهم أم كلثوم لا يوجدون، ما كانت تريده هو أن تحصل على أزياء جميلة، وتضع ورداً على شعرها وتحلم وتغني وترقص بين ذراعي رجل محب رومانسي مثلها، رجل عاطفي رقيق تكون له شجاعة خرق التقاليد، ومراقصة المرأة التي يحبها في العلن. كانت اسمهان تهمل الماضي وتنغمس في حاضر مليء بالرغبات الهوجاء، حاضر يستحيل القبض عليه، يفلت من قبضة العرب كعشيق متهرب. لم تكن اسمهان الا بحثاً مستمراً ومأساوياً عن لحظات سعادة بسيطة ولكنها آنية، والنساء العربيات اللائي حكم عليهن بالرقص في ساحات مغلقة معجبات بها لأنها تجسد حلمهن برجل وامرأة عربيين متعانقين يرقصان على نغم غربي". تبين المفاضلة بين أمل كلثوم واسمهان أثر الدرس الثقافي في مجتمع الحريم، فالأولى تضع مسافة رمزية بينهما عندما تغني وبين المستمعين، لأنها تهدف الى ايقاظ سباتهم، ولهذا فثمة تباعد بينها واولئك المستمعين أما أسمهان، فمع الحرص على الصورة الارستقراطية المرتفعة التي رسمتها لنفسها، نجحت في دمج النساء في عالمها، لأنها تخطت الدرس الثقافي الذي تلقينه في بيت الحريم، فقد داعبت ذلك الجزء الكامن في نفس كل امرأة مقهورة وهو التطلع الى تحقيق الذات، وأوقدت فيهن شرارة الأحلام الكبيرة، حينما اخترقت هي بنفسها سياج التقاليد المحكم، فقبلت الفن وتخلت عن لقب أميرة، وبذلك فالتماهي معها يكون أكثر حرارة، لأن المطابقة بينها والحريم قائمة في الأصل سوى أنها نجحت في تجاوز عالمها الحريمي، وفشلن هن في ذلك، فأصبحت مثالاً يحتذى ، تلوح صورة اسمهان في النص، وكأنها "بدور" الخرافية، أو "هدى شعراوي". لقد ركبت لها صورة توافق الأحلام المستحيلة في عالم الحريم. ولهذا فإن تقليد أدوارها هو نوع من التماهي في عالمها الذي فهمته الحريم على أنه الحرية الحقيقية. لقد اسهم نقص الحرية أو انعدامها في شيوع ايديولوجيا محاكاتية، عبر عنها مجازياً من خلال التماهي بشخصية أخرى. والحق ان هذا قانون اجتماعي يظهر حينما تشح بئر الحرية، فيتحول الأفراد الى قطيع من المحاكين لا يعرفون من أمرهم شيئا حقيقياً سوى الاستغراق المتواصل في وهم الحرية عبر محاكاة المتحررين. وهو مظهر من المظاهر الأشد حضوراً في مجتمعاتنا المعاصرة. وفي كتاب "نساء على أجنحة الحلم" تمثيل سردي عميق لهذه المعضلة الاجتماعية - الثقافية، اذ تقوم "شامة" بتلك المهمة تحت وهم امتصاص الاحباط التاريخي المخيم في نفوس الحريم، لكن تلك المحاكاة تتحول الى ممارسة مغلقة، ففي النهاية تختفي "شامة". ووحدها فاطمة تواجه الواقع. فمن تعارض القيم الممثلة بقطبين: التقليدي الذي تمثله "لللاالطام" والحديث الذي تمثله "شامة" تركب فاطمة خيارها الفكري، ومن أجل الوصول الى هذه النتيحة كان من اللازم عليها ان تمر في حالة الازدواج الحقيقي. وهذا الكتاب يرسم سردياً التفاعلات غير المرئية في نفوس بشرية تقطعت سبل اتصالها بالحاضر بالدرجة التي تقطعت بها سبل انفصالها عن الماضي، فبترت عن حاضرها وعن ماضيها. * أستاذ في جامعة قطر.