فقد "آدم" الاسرائيلي ورقة التوت المسماة "اوسلو"، التي اسُتخدمت على مدى سبع سنوات بعد 1993 لإخفاء حقيقة افعاله في الاراضي المحتلة وحجبها عن اي تفحص ذي معنى من قبل الحكَم الذي يُعرف بالشرعية الدولية. الآن، تبخرت كلياً ورقة التوت هذه التي جرى التمسك بها بقوة، كما نذكر، ليس من قبل "آدم" ذاته فحسب بل من قبل "بيل" المستميت و"عرفات" ايضاً. لا أحد يشك في ذلك. هكذا، يقف آدم الآن مكشوفاً، امام منظومة كاملة من الشرعية الدولية لا تشمل كل قرارات الاممالمتحدة ذات الصلة منذ 1947 فحسب، بل منظومة القانون الانساني الدولي بأكملها ايضاً التي طرأ عليها تطور كبير خلال نصف القرن المنصرم. لكن، يجب ان نتساءل ما الذي تعنيه فعلاً هذه الاهمية المتجددة لعوامل "الشرعية الدولية". هل تعني ان بإمكاننا ان نتوقع رؤية جيوش حلف شمال الاطلسي تتدفق على القدسالشرقية وبقية الضفة الغربية وغزة، كما تدفقت على الكويت لنقض ما اقدم عليه صدام حسين، كي تتولى انهاء "احتلال الارض بالقوة" اللاشرعي تماماً؟ كلا، انها لا تعني ذلك. هل تعني انه يمكن ان نتوقع دوراً نشطاً لوزارة الخارجية الاميركية في منطقة النزاع العربي - الاسرائيلي يماثل دورها في اجزاء اخرى كثيرة من العالم، بدفع الاممالمتحدة الى انشاء محاكم مختصة بجرائم الحرب لمقاضاة زعماء متهمين بارتكاب "انتهاكات خطيرة" لمواثيق جنيف واجزاء اخرى من القانون الانساني الدولي؟ فعلى رغم كل شيء تذكروا كيف هرعت ادارة اميركية كانت رفضت ارسال قوات حفظ السلام لحماية سكان مدنيين مهددين في يوغوسلافيا ورواندا وفعلت ايضاً الكثير لمنع الاممالمتحدة من القيام بذلك في الوقت المناسب، وبعد ارتكاب مذابح متتالية فظيعة في هذه الاماكن، لتقوم ب"نشر" مدعين جنائيين للشروع بملاحقة قضائية لمجرمي الحرب، وإن يكن بعد ارتكاب المذابح الجماعية. فهل يمكن ان نتوقع اذاً "نشر" فرق القضاة هذه لملاحقة القادة الاسرائيليين بشأن كل "الانتهاكات الخطيرة" التي ارتكبوها في الاراضي المحتلة؟ كلا، لا يمكننا القيام بذلك. لكن ما يعنيه تلاشي ورقة توت اوسلو بالفعل هو ان الطريق سالكة تماماً امام كل اولئك الذين يريدون ان يروا سلاماً ممكناً يقوم على العدل بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وان يثيروا القضايا الكبيرة المتعلقة بالشرعية الدولية والقانون الانساني الدولي والمبادىء الاخلاقية الاساسية. بصراحة ووضوح كان يصعب تحقيق ذلك طالما كان هناك بعض الامل - بطريقة ما - في الحصول على شيء ذي شأن عبر عملية اوسلو. اذاً، هاتوا المحامين! لنطلب من كل خبراء القانون الدولي، فلسطينيين وعرباً وعالميين، ان ينكبّوا على معاينة احداث ال 34 عاماً الماضية في الاراضي المحتلة عبر عدسة القانون الدولي. فالقدسالشرقية وبقية الضفة الغربية وغزة لا تزال كلها في وضع "اراضٍ خاضعة لاحتلال عسكري عدائي". اي من قبل اسرائيل. فكما اكد جول سينغر وخبراء قانونيون اسرائيليون آخرون، لم يغير ابرام اتفاقات اوسلو اي شيء اطلاقاً من الوضع المهيمن لاسرائيل ك"قوة محتلة"، حتى في المناطق التي منحت قدراً من السيطرة الفلسطينية المحلية. ويلقي هذا الوضع، بالطبع، على اسرائيل، من منظور الشرعية الدولية، كل اعباء التزام مواثيق جنيف وبقية منظومة القانون الانساني الدولي التي تشهد تطوراً سريعاً. يمثل تركيز الاهتمام على متطلبات القانون الانساني الدولي عملاً صائباً في الوقت الحاضر لاسباب عدة: اولاً وقبل كل شيء، هناك مبادىء اخلاقية انسانية واسعة قوامها حقوق الانسان ذات الطابع الشمولي، وتشكل اساس القانون الانساني الدولي. ويمكن للفلسطينيين على نحو مشروع ان يخاطبوا العالم ويقولوا: "ليس من العدل ان يتمكن كل هؤلاء الاشخاص من المجيء الى ارضنا، وان يشرعوا بالاستحواذ عليها، وان يسعوا الى التحكم بحياتنا بالقوة!". وسيدعمهم القانون الانساني الدولي في هذا الموقف. فهو لا يقول ان اجراءات اسرائيل في الاراضي المحتلة مجحفة فحسب بل انها ايضاً غير مشروعة. يمكن للفلسطينيين، بالاضافة الى ذلك، ان يقولوا هذا بقوة بشكل خاص لليهود في ارجاء العالم، بما في ذلك اليهود في اسرائيل. تذكروا ان اجراءات الحماية المحددة التي يوفرها ميثاق جنيف الرابع لسكان الاراضي المحتلة المدنيين صيغت وكرست بشكل قانوني من قبل قوى التحالف المنتصرة في 1949 في ضوء معاينتهم لما تعرض له السكان المدنيون في الاراضي التي احتلتها المانيا النازية في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي، كما كُشف للجميع في محاكمات نورمبرغ. ينتاب اليهود الغضب - ولعل ذلك امر مفهوم - كلما اعتقدوا ان احداً يقارن افعال الاسرائيليين بما ارتكبه النازيون. لكن هذه ليست المقارنة المهمة التي ينبغي اجراؤها. فالمقارنة المهمة هي بين اولئك السكان المهددين الى اقصى حد من اليهود وغير اليهود في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا وغيرها من الاراضي المحتلة في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين، وبين ما يتهدد الفلسطينيين في الوقت الحاضر. بالاضافة الى ذلك، تحظى وجهة النظر الفلسطينية، بشأن مدى انطباق القانون الانساني الدولي فعلاً على القدسالشرقية وبقية الضفة الغربية، بتأييد كامل - نظرياً على الاقل - من قِبل المجتمع الدولي كله، باستثناء اسرائىل. لكن قبل ان يمضي احد بعيداً في تفحص القانون الانساني الدولي نأتي الى نقطة ذات اهمية محورية. فاجراءات الحماية التي يوفرها لسكان اراضٍ محتلة لا تقدم الاّ الى "السكان المدنيين" لهذه الاراضي، وليس للمقاتلين. وحيثما يكون هناك "مقاتلون" ممتزجون مع السكان المدنيين، يسمح القانون الانساني الدولي بهامش كبير لمقاتلي الطرف الآخر بأن يواصلوا محاربتهم. بالاضافة الى ذلك، يتعين على القادة العسكريين بموجب القانون الانساني الدولي ان يتخذوا اجراءات لعزل المقاتلين تحت امرتهم عن السكان المدنيين، الى اقصى ما يمكن، والاّ يسعوا الى "حماية" المقاتلين باخفائهم وسط المدنيين. ويبدو ان من الحكمة تماماً ان يلجأ القادة الفلسطينيون الى ابقاء القوات الفلسطينية المسلحة منفصلة الى اقصى ما يمكن عن ناشطي المقاومة غير المسلحين. وللسبب ذاته ينبغي مطالبة القادة الاسرائيليين ايضاً بصوت عالٍ بالكف عن "حماية" قواتهم عبر جعلها تختلط بعائلات المستوطنين المدنيين. وبالفعل، على رغم انه من المحزن ان اُضطر الى تذكير اصدقائي الاسرائيليين بذلك، فان وجود هؤلاء المدنيين الاسرائيليين هناك في الاراضي المحتلة هو بالذات عمل غير مشروع. فبموجب القانون الدولي لا يوجد اي مبرر قانوني اطلاقاً لوجودهم في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وغزة. وأي حكومة اسرائىلية تشجّع او حتى تسمح لهم بالوجود هناك ستُعد فعلاً منخرطة في تعريض حياتهم الى الخطر على نحو متهور. سيكون من الحماقة، بالطبع، الاعتقاد بأن قوى السلام الفلسطينية والاسرائيلية اياً كان ما تبقى من هذه الاخيرة يمكن ان تحقق اي نتيجة مقبولة، او حتى مرضية جزئياً، للنزاع الحالي بالاحتكام كلياً الى القانون الدولي. فقد حاول الفلسطينيون ذلك طيلة 17 عاماً بعد 1948 ولم يحققوا شيئاً. لكن القانون الانساني الدولي اصبح اقوى كثيراً في السنوات الاخيرة، ويمكن الاحتكام اليه والى المبادئ الاخلاقية ذات الطابع الانساني العميق ان تشكل اداةً مهمة بالنسبة الى قوى السلام. بالاضافة الى ذلك، يمتاز المجتمع الفلسطيني داخل الوطن بكونه معبّأً على مستوى أعلى بكثير ومنظماً على نحو افضل مما كان عليه قبل نصف قرن من الكفاح بفاعلية من اجل حقوقه. لا أعني بتعبير "منظماً على نحو افضل" حيازته اسلحة ثقيلة. ينبغي ان اقول هذا من دون مواربة: في اللحظة الراهنة، لا تمثل اسلحة الفلسطينيين مصدر قوة. بل العكس تماماً، انها ابعد من ان تكون قوة قادرة على ارغام قوات الاحتلال الاسرائيلية على التراجع او حتى ان توفر حماية عملية للمناطق الفلسطينية. في غضون ذلك، يعطي وجود تلك الاسلحة الخفيفة في ايدي الفلسطينيين ذريعة للمتطرفين الاسرائيليين يرحبون بها - وهم يستخدمونها امام الرأي العام العالمي وامام شعبهم بالذات - للانغماس في اعمال عنف اكبر بكثير مما كان سيُسمح لهم تذكروا الانتفاضة الاولى. لذا فان اصدقائي الفلسطينيين سيحسنون صنعاً كما كتبت سابقاًً اذا وضعوا اسلحتهم جانباً، وسعوا الى تطوير كل ما في حوزتهم من وسائل التعبئة المدنية الجماهيرية. فأين هي تلك الحشود من المدنيين العزّل الذين يمكن ان يخرجوا الى الشوارع، ليزيلوا متاريس الجيش الاسرائيلي، ويطمروا الخنادق المهينة لدباباته، ويجعلوا الطرق سالكة من جديد، ويحضوا بهدوء الجنود الاسرائيليين الشبان الخائفين القابعين في دباباتهم البشعة: "عودوا الى دياركم"؟ ستكون الاسابيع المقبلة حاسمة. فقد شرع شارون "الفاتح البطل" لصبرا وشاتيلا وفؤاد بين أليعيزر "الفاتح البطل" لتل الزعتر ومارتن انديك بتهيئة الرأي العام العالمي لهجوم اسرائىلي كبير الى داخل المناطق الفلسطينية، بوصف السلطة الفلسطينية مجموعة "ارهابيين"، والتحذير من خطر تفجر "حرب عصابات" بين التنظيمات الفلسطينية. قد ينتهي الامر اذاً، بأن يعيد شارون احتلال اجزاء كبيرة من المنطقة "أ" بذريعة "مكافحة الارهاب"، او حتى "إعادة القانون والنظام". كيف يمكن لجم جنون عظمة كهذا ووقف مثل هذا الاستخفاف الفظ بالشرعية الدولية فوراً؟ * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط.