كان أبو العلاء في الستين من عمره حين أملى "رسالة الغفران" ذلك النص الفريد في الأدب النثري العربي، والنص الذي لا يزال يُقرأ حتى يومنا هذا ويثير من السجال ما يثير. و"رسالة الغفران" كما قد لا يدل اسمها، هي رحلة في الحياة الآخرة، رحلة من ذلك النوع الذي تمنى المفكرون والكتّاب، دائما، القيام به أو التعبير عنه، وعرف نفر قليل منهم كيف يفعل ذلك. ومن هؤلاء، بالطبع، أبو العلاء المعري، شيخ المعرة الضرير وشاعرها، ولكن أيضاً دانتي اليغيري، أحد أكبر شعراء عصر النهضة الايطالية والنزعة الانسانية، ذلك الشاعر الذي لطالما قورنت "كوميدياه" ب"رسالة" المعري واستنتج البعض انها تكاد تكون منقولة عنها، فكرة وفي الكثير من التفاصيل. وهذا الأمر الأخير لا يزال لغزاً أدبياً محيراً الى اليوم. لكن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو ذلك النص الطويل الذي أملاه المعري يوماً، وقد بلغ من الشيخوخة مبلغاً ليصف فيه جولة في النار والجنة، يقابل خلالها السابقين عليه ويصف حياتهم في الآخرة، على ضوء ما فعلوه في الحياة الدنيا، متحدثاً عن شعرهم وحياتهم وما اقترفوه من شر أو ما قاموا به من خير. "رسالة الغفران" هي قبل كل شيء نص فلسفي يتأمل الوجود والتاريخ والحياة، ويتأمل أيضاً ضروب الابداع الانساني، وهذا النص من الواضح ان أبا العلاء انما شاء فيه، وعبر وصفه وتحليله للشخصيات التي يلتقيها خلال رحلته، من شعراء وقادة وأدباء وفلاسفة ومفكرين ومتكلمين، شاء فيه أن يعبر أول ما يعبر عن ذلك التمزق الذي كان، هو، يعيشه، بين ايمانه وشكه، يأسه وأمله، متسائلاً عن جدوى كل ما عاش فيه وله، ومتسائلاً عن مكان الانسان في هذا الكون. فمن ناحية، تكشف لنا "الرسالة" كم أن المعري مؤمن، يعيش ايمانه بكل جوارحه، يؤمن بوحدة الله ورسالة نبيه، وكم انه في الوقت نفسه شكاك، لا يرى فائدة في الصورة التي يصنعها المتكلمون للدين. ولعل في هذه السمة الأخيرة من سمات موقف المعري، في "رسالة الغفران" ما شجع الكثيرين على اتهامه بالزندقة والكفر. غير أن الدكتورة عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ المفكرة المسلمة الراحلة، والتي قامت بأفضل تحقيق لنص "رسالة الغفران"، مستبقة إياها بنص محقق ل"رسالة ابن القارح" التي كانت دافع ابي العلاء الى كتابة "رسالة الغفران"، تنفي عن فيلسوف المعرة وشاعرها تلك التهم، متبعة في ذلك خطوات استاذها طه حسين الذي وضع غير كتاب عن المعري، وكان - الى حد ما - يرى نفسه شبيهاً به. فالدكتورة بنت الشاطئ، والتي لا يفوتها في مناسبات عدة ان تنوه ب"ايمان المعري" مبررة لحظات الشك واليأس التي عاشها، تورد تفسيراً مميزاً لتأليف المعري ل"رسالة الغفران"، إذ تقول ان هذه الرسالة انما تعبر عن "أمانيه الموؤودة" وهي "مشحونة بأصداء أشواقه المكبوتة وصليل القيود التي كبلت نفسه بالحرمان الباهظ، وقد أطلق لها العنان في رؤيا عجيبة من رؤى يقظته وهذيان أمانيه، فصورت لنا عالمه الآخر كما تمثله وكما اقترحه عليه حرمانه. فالمقيد الذي لم يغادر محبسه منذ عاد من بغداد الى أن مات، والذي ألجم عواطفه الهادرة وكبت انفعالاته الجياشة، جاءت جنته حافلة بالحركة بريئة من الهدوء والسكون، فيها رحلات صيد وزيارة ونزهة، وقد تعنف الحركة فتصير عراكاً ومنافرة وعربدة، ويعلو الصوت فيصير صياحاً وجعجعة. على أن هذه الحركة الحسية لا تقاس بالحركة النفسية العنيفة التي تموج بها جنة الغفران وتضطرب فيها نفوس الموعودين...". وتضيف الدكتورة بنت الشاطئ ان "صائم الدهر الذي حرم على نفسه لذات الدنيا، ملأ جنته بالخمر والنساء، وتفنن في حشد صنوف من اللذائذ الحسية والشهوات المصورة". بالنسبة الى هذه الباحثة المميزة، كانت "رسالة الغفران" إذاً، نوعاً من التعويض بالنسبة الى انسان حرم كل شيء في دنياه، فأراد أن يحصل على كل شيء في الخيال، ولو عن طريق شخصيته الرئيسة ابن القارح. غير ان النص تجاوز، في طبيعة الحال، تلك الرغبات التي تخضع الى التحليل النفسي على ضوء سيرة المعري وشخصيته، لكي يصبح قراءة في تاريخ الفكر والشعر والكلام، وتحليلاً لأبرز أعلامه، حيث في كل مرحلة من مراحل الرحلة تطالعنا وجوه نعرفها ونعرف الكثير عنها، ولكن كان من الصعب علينا تصور أي مصير كان لها. كتب أبو العلاء المعري - أو بالأحرى أملى - نص "رسالة الغفران" وقد بلغ الستين من عمره، وكان ذلك في العام 1040 ميلادية تقريباً، أي قبل رحيله عن عالمنا بأكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، وذلك في وقت كان قرر أن يستقر في المعرة لا يبارحها، مكتفياً لرؤية الناس، أن يستقبلهم فيها. وهو كان قبل ذلك قام برحلته الشهيرة والحاسمة الى بغداد. لكنه لم يقم في بغداد سوى عام ونصف العام، وهو الذي كان عازماً قبل ذلك على أن يقيم فيها زمناً أطول، ليس لكونها عاصمة الخلافة وموطن العمل السياسي - فهذان الأمران لم يكونا يعنيان شيئاً للمعري - بل لأنها المدينة التي تتوافر فيها العلوم والآداب كافة. كانت خيبة المعري في بغداد كبيرة، لذلك نراه سرعان ما يعود مكتهلاً يائساً، ويشرع فوراً في التفكير في كتابة "رسالة الغفران" خالقاً في داخلها عالماً متكاملاً، عجز عن أن يضع نفسه داخله في عالم الواقع. ولد أبو العلاء المعري العام 979 م. 363 ه. في معرة النعمان، شمالي سورية، فقد البصر وهو في الرابعة. وعلى سبيل التعويض عما حل به من عاهة مستديمة، وجد باكراً أن ما يمكنه الحصول عليه انما هو العلم والغرق فيه، والأدب والنهل منه، وهكذا راح يطلع على ما كتب السابقون، ولا سيما على اشعار المتنبي، "استاذه" وسابقه العظيم. ولكن لئن صاغ المتنبي شعره انطلاقاً من ظروفه وتقلبات حياته، فإن المعري لن يعير الظروف الطارئة اهتماماً، وسيكتب شعراً تأملياً وفلسفياً، وضعه بعد ذلك في الصف الأول من شعراء العرب. والحقيقة ان المعري لم يفعل، في حياته، شيئاً آخر غير التأمل والاملاء، فأنتج بعض أروع وأغرب ما في الشعر العربي، وحسبنا للتيقن من هذا أن نقرأ "اللزوميات" و"سقط الزند"، وأن نقرأ ونعيد قراءة "رسالة الغفران"، لتجدنا أمام عبقرية نادرة في تاريخ الانسانية، عبقرية لا تزال حية على رغم ان صاحبها رحل عن عالمنا قبل أكثر من تسعة قرون ونصف القرن في العام 1058 م..