كتبت بنت الشاطئ إهداءها الشخصي للطبعة المحققة من "رسالة الغفران" في بضع كلمات وجيزة "إلى الذي علمني كيف أقرأ". ومع انها كانت تقصد في ما يبدو القراءة العلمية الصحيحة لسطور المخطوطات، وفك ألغازها الكامنة في الإشارات والاسماء والنصوص والعبارات، والمقابلة الدقيقة بين البدائل المختلفة، غير انها كانت تضمر في إبهام اسم الموصول "الذي" طيف رجلين اثيرين عندها، اولهما ابوها الشيخ الذي علمها القراءة في كتب التراث وآثار الاولين، والثاني استاذها وزوجها امين الخولي الذي دربها على التفسير والتأويل، وفتح لها ابواب الابداع في فقه اللغة والادب. فكلاهما علمها القراءة بمفهومها العريض. وربما كانت "رسالة الغفران" من أحفل نصوص التراث الكلاسيكي بالاشارات الثقافية، والاسماء المعماة في غياهب الماضي، ومقاصده الخفية، وكان السياق الذي كتبت فيه ردا على رسالة ابن القارح يجعلها قابلة للقراءات المتعددة المتجددة، بما تحاوله من اعادة بناء الماضي من ناحية، وتهدف اليه من طرح اسئلة الحاضر المعرفية والابداعية على نصوصه الكبرى من ناحية اخرى، لأن فعل القراءة الخلاق يمد دائرة بقدر امتداد افق المعرفة والوعي. وكانت لي تجربتان طريفتان في قراءة نص المعري، احداهما منذ ما يربو على عشرين عاما عندما كنت مشغولا بوضع بحثي عن "تأثير الثقافة الاسلامية في الكوميديا الالهية لدانتي" فأخذت اجمع الاشارات التي تتوافق بين رسالة الغفران و"ألعوبة" دانتي كما كانت تسمى في نهاية القرن الماضي، اقارن التفاصيل والصياغات واللفتات مسترشدا ببحث العلامة الاسباني الكبير أسين بالاثيوس، محاولاً التقدم بالموضوع المقارن خطوة الى الامام بترجمة مخطوطة "معراج محمد" الى العربية مرة اخرى وتجميع شذراتها من كتب التراث والمواعظ والرقائق الاسلامية. وانتهيت حينئذ الى توصيف العلاقة المقارنة بين الاثرين الى انها من قبيل "المصدر المشترك" فكلاهما اعتمد على قصة المعراج المحمدي وصاغها بشكل مختلف، ولأنه لم يقم أي دليل على ترجمة رسالة المعري، أو أي ملخص وافٍ لها الى اي لغة اوروبية فليس هناك سبيل الى القول بعلاقة مباشرة بين الاثرين. لكن التجربة الثانية كانت منذ فترة قصيرة وفي سياق مختلف، اذ اصبحتُ معنياً بقضية حرية الابداع وضرورته للادب والعلم وتوقف نهضتنا الفكرية على تعاظم هامش من هذه الحرية، فأخذتُ أتامل تجربة المعري الفريدة في مواجهة تهم الزندقة والالحاد التي تنهمر لاسباب عقائدية او طائفية أو سياسية على رؤوس كبار المبدعين في الثقافة العربية في العصر العباسي من شعراء ومفكرين ومتصوفة وعلماء، وكيف انه بمهارة فائقة وظف خياله المبدع في تصور رحلة الى الجنة، حافظ فيها حرفياً على منطوق الخطاب القرآني الكريم، ثم اعمل دهاءه الادبي في تسفيه آراء بعض الفقهاء المتعصبين، وتأول بحذر شديد في المشاهد والاخبار كي يسخر منهم برفق، ويداعبهم بمحبة، ويدعوهم الى لون من الطمأنينة الروحية، والثقة بان العدالة الالهية لا تحجب مدارج الغفران. شرحت في بحثي عن "حرية التخيل في رسالة الغفران" منظومة التقنيات التعبيرية والتصويرية التي وظفها المعري في مشاهده وحواراته كي يبني هذا العالم الفني الذي يقدمه، وهو عالم مفعم في جوهره بروح الفكر والثقافة العربية التي تسعى للتحرر، وتستقطر من مشاكل اللغة والادب واخبار الرواة والشعراء دلالات فنية وثقافية لا تبعد عن روح الدين ولا يمكن ان تحاكم بمنطق التعصب وضيق الافق، ولفت نظري في هذه القراءة ان الجزء الاول من رسالة ابن القارح يدين أعلام الثقافة من بشار الى المتنبي ومن الحلاج الى السهروردي ولابد انه تعريض برقة دين آثر استراتيجية برهانية مخالفة، بالكشف عن جوهر العلم باللغة والادب والثقافة، وكأنه ينهره ضمنياً عن الخوض في الضمائر ويدعوه الى ترك احوال الخلق لخالقهم والعناية بما هو انفع لأدبه وعلمه وثقافته، أي يعيد طرح أولويات الفكر الادبي، لكنه التزم جانب الحذر الدقيق في تناول قضايا العقيدة، فاستحضر في كل خطوة من رحلته آيات القرآن الكريم التي تشير اليها واستأنس بما يعرفه عن اخبار الاولين في تقييم مواقفهم ومصائرهم. أي أنه بعيدا عن التجديف انتقم بذكاء شديد من خصوم الفكر والشعر وانتصر لحرية الإبداع والتخيل بطريقة حكيمة. لكن طبعة جديدة من رسالة الغفران وضعها الدكتور سليم مجاعص المقيم في شيكاغو ونشرها في اب اغسطس عام 1998 تدفعني مرة أخرى لإعادة صحبة ابي العلاء، وقراءة رسالته، لانها تجترح امرين غريبين، لا مفر من مناقشتهما ودرء خطرهما: اولهما ايديولوجي يتمثل في المقدمة التي كتبها الدكتور مجاعص لهذه الطبعة، ويستعيد فيها جذعة روح الحروب الصليبية القديمة، ومنطقها القرووسطي كما ساد في عصور الظلام الغربية، وكما اجتهد المعري ذاته في توجيه استراتيجية الثقافة العربية لتجاوزه، فهو يحاكم الرسالة من منظور ديني بحت، ويقرأها بعين مريضة لا ترى سوى مظاهر التجديف والالحاد، فهى في تقديره "تسفيه للتصور الديني عبر إبراز ضعف اسناده وتضخيم تفاصيل رؤيته" حيث يخرج القارئ منها بأن "التخيل الديني لتفاصيل الجنة والنار سراب مضحك مبكٍ "هكذا تصل معرفته باللغة التي يحاكمها ويؤول نصوصها" لا يسوغه عقل ولا منطق الى آخر هذه العبارات العبثية التي تبرز ضلال رؤيته وضعف وعيه بالمعري وعصره، وسوء قصده في توجيه عناية القراء الى هذا الفهم السقيم، ولست أعرف ما هي اولوية هذه القراءة في عالم اليوم وما هي الاهداف التي تخدمها، لعلها تزعم التزام الدقة العلمية وهي غارقة في الهوى الايديولوجي الديني والطائفي، حيث يلتقي المتطرفون الاصوليون والمغرضون عند نقطة واحدة هي دفع الناس الى تحكيم الفهم المتصلب للدين في إدانة المفكرين الاحرار والمبدعين الكبار في الثقافة العربية في القديم والحديث. هل يقدم مجاعص ادلة ملموسة لمحاكم التفتيش التي يدعو الى قيامها اليوم كي تحكم على فقيه المعرة وتصادر كتبه وتنبش قبره، أم انه نسي في مهجره - حيث لا تطاله الايدي الغادرة - إن مسؤوليته ان كان معجباً بالمعري مفتوناً بشجاعته ان يدعو الى فكرة التسامح الديني التي اصبحت دستور الثقافة العصرية. ومع ان الباحث حر في اختيار المنظور الذي يوجه به قراءته وتأويله، إلا انه مسؤول عما يترتب عليها من إحسان أو اساءة، من جرح لمشاعر قراء العربية ومداهنة معسولة لبعض الاتجاهات العلمانية الغربية. ولست ادري بمنطق المنهج العلمي في البحث والتفسير كيف يستبيح الاستاذ لنفسه ان يجمع شذرات من اشعار المعري في اللزوميات باقتطاعها من سياقها الشعري والفكري حيث تخلّ الى دلالات مشروطة مغايرة ليرسم بها الصورة التي يهواها للمعري، وهي ليست صورة جديدة ولا باهرة، فكم روّج لها الجهلاء بالشعر والدين خلال العصور الوسطى، وكم بذل النقاد والمفكرون جهودا مبدعة في استعادة ذكرى المعري من براثن التعصب، واستنقاذ صورته من محرقة التطرف، وكم طرحوا على ابداعه اسئلة ترتبط بكدحهم في الدفاع عن الفكر والشعر والحرية. اما الامر الثاني الذي أود مناقشته في طبعة الدكتور مجاعص فهو ايسر من ذلك لانه يتلاعب بكلمات الادب لا بحساسية الاديان وينتهك حرمة النص لا قدسية العقائد، إنه يجرد "رسالة الغفران" من قوامها الحقيقي في الفكر اللغوي والادبي، ويتخفف من كل الاشارات المعرفية والثقافية بالحذف والاقتطاع ليبقى على ما يطلق عليه "النص المحوري لرسالة الغفران" متصورا انها مجرد حكاية سردية لقصة ابن القارح المتخيلة في الجنة، ولو كان المعري يريد كتابة قصة سردية لفعل، ولكنه يكتب عملاً ادبياً من نوع آخر، له تقنياته وجمالياته واصوله، عملا من نوع "الرسالة" التي تلتقط الخيط من عمل سابق حقيقي او متخيل وتقيم بناءها على محاورته ومنافسته ونقضه، فما تحفل به من استطرادات لغوية وتاريخية ومناقشات ثقافية انما هو جزء حميم من بنيتها النصيّة، ومكوّن جوهري فيها، لا ينبغي اعتباره لغواً ولا هذرا ولا تزيدا، خصوصاً على المستوى العلمي والفكري، اما اذا كان المقصود من ذلك تبسيط النص للطلاب أو التلاميذ الصغار او الاجانب، فلا يكون ذلك طبعة تدعي العلمية وتراعي المنهج، فالمطارحات اللغوية والتفصيلات الشعرية والشروح النحوية تمثل في جملتها الدلالة المركزية للرسالة، وليست الحكاية التي يبتدعها مجرد اطار سردي طريف يلطف من خشونة المادة. أما النوادر اللافتة التي يوظفها المعري بدهاء بالغ في رسالته فإنها تأتي في سياق التنافس الممتع مع غريمه المتحرج الذي يضعه موضع السخرية والتعريض، فابن القارح يكثر من الاخبار الظريفة ليستخلص منها مغزى اخلاقيا او دينيا، يحكي مثلا انه "دفع رجل الى صديق جارية اودعها عنده وذهب في سفره، فقال بعد ايام لمن يأنس به وتسكن نفسه اليه: يا اخي، ذهبتْ أمانات الناس، اودعني صديق لي جارية في حسابه انها بكر، جربتها فإذا هي ثيّب" وهكذا يكون المسافر هو الذي يضيع الامانة! ثم يحكي عن نفسه خبرا آخر: "ومن ظريف الاخبار ان بنت اختي سرقت لي ثلاثة وثمانين دينارا، فلما هددها السلطان - أطال الله بقاءه، ومدّ مدته، وأدام سموه ورفعته - اخرجت اليه بعضها وقالت" والله لو علمت ان الامر يجري كذا كنت قتلته، "فأعجبوا من هريستي وزبوني" فهي تعتذر عن السرقة بتمني القتل. وهكذا فإن كل خبر له دلالته على موقف الراوي وشخصيته. على أن اخبار "رسالة الغفران" ممتزجة بالقضايا اللغوية والادبية في صلبها بحيث لا يمكن تجريدها منها، ومعظمها مرتبط باشارات المراسلة، فعندما يطعن ابن القارح في المتنبي مثلا لقوله: أذم الى هذا الزمان اهُيله ... فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد يرد عليه المعري قائلا: "وأما شكيّته اهل الزمان اليه، فإنه سلك في ذلك منهاج المتقدمين وقد كثر المقال في ذم الدهر حتى جاء في الحديث "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، وقد عرف معنى هذا الكلام، وان باطنه ليس كظاهره، إذ كان الانبياء عليهم السلام لم يذهب أحد منهم الى ان الدهر هو الخالق وهو المعبود، وقد جاء في الكتاب الكريم "وما يهلكنا الا الدهر" ثم يأخذ في ايراد الاشعار التي وردت فيها كلمة الدهر وشرح دلالاتها بما لا يمكن ان ينفصل عن بنية الرسالة ذاتها وطبيعة منطقها ومحاجاتها. واذا كان المعري - كما يبدو لنا اليوم - يمثل ذروة المعرفة العربية باللغة والشعر وتاريخهما فان احترام نصوصه الكبرى لا يكون ببترها وتشويهها، كما انه لا يكون اطلاقاً بتحريفها وسوء تأويلها وقلب استراتيجيتها في الخطاب والبرهان، فقد كتب رسالته دفاعاً بليغا عن حكمة الشعراء وعلم اللغويين، مارس فيها حصافة نادرة، وحرية مدهشة في التخيل المبدع والسخرية اللاذعة من منطق الجهل والتعصب الذميم، ليؤسس من تقاليد الفكر والفن واخلاقيات العلم موقفاً متقدما على عصره، متناغماً مع ما يدعو اليه عصرنا من سماحة وحب، وفهم ومودة. واحسب ان قراءته بهذا المنظور الحضاري تجعل ادبه كله درساً عميقاً للثقافة الانسانية في اجمل تجلياتها الخلاقة.