جاء الى منزلنا مع مجموعة من الاصدقاء الشلة كما نقول بالعامية المصرية لتسجيل فيلم عن الموسوعة، وحين فرغنا منه، جلسنا نتحدث، وظل عادل حسين صامتاً بعض الوقت، ولعله كان مهموماً بشؤون الحزب والجريدة، ومتى سينفذ حكم المحكمة، فطلبنا منه ان يشترك في الحوار، وقد كان، بدأ يتحدث عن السياسة الاميركية والادارة الجديدة وعن الاقتصاد المصري وعن توازن القوى في العالم ونوعية السلاح في سورية ومصر واسرائيل وتدفق كعادته، فوقف الفنان حلمي التوني وقال ضاحكاً: "أنتم المسؤولون"... كان صامتاً، والآن لن يمكننا أن نوقفه!. تحدثت معه يوم الخميس 8 آذار مارس وجدته ممتلئاً حيوية ونشاطاً، وتحدثنا سريعاً عن كل شيء: عن الأولاد والأحفاد والحلف الصهيوني الاميركي وعن صحتنا وكيف بدأنا نتقدم في السن، وداعبته كعادتي: "هل ما زلت غير قادر على تنفيذ حكم المحكمة؟". وأكدت له أن سؤالي ليس له أي مضمون سياسي أو ايديولوجي، كل ما في الامر أنني أود مساعدته في أن يجد عملاً جديداً، وضحكنا واتفقنا أن نلتقي يوم السبت عند إبنته، لنرى بهية حفيدته الجديدة. وحين اتصلت يوم السبت، أجابت الدكتورة ناهد، بالهاتف فسألتها: "أين الزعيم؟" هكذا كنت أسميه، ضاحكاً وجاداً في آن واحد أجابتني إنه في المستشفى في غرفة العناية الفائقة، لم أصدق الخبر في بادئ الامر، وأمطرتها بأسئلة سخيفة مثل لماذا؟ وكيف؟ وكأنه ذهب لغرفة العناية الفائقة لأمر غير معروف، أو معرفته!. ثم بدأت أدرك الموقف. وظللت أعاود الاتصال بها للاطمئنان عليه، ولأطمئن نفسي. ثم بدأ جرس الهاتف يرن في منزلي، إذ بدأ الاصدقاء يعزونني في الغالي. ساعتها أدركت الموقف جزئياً، وسقط قلبي في قدمي. وحين رأيت جسده الطاهر النحيل ملفوفاً بعلم مصر، وحين رأيت كل اصحاب الافكار والمواقف يسيرون في جنازة الشهيد مع بعض الوزراء والمئات من جنود الأمن المركزي، أدركت الحقيقة أنني فقدت صديقاً عزيزاً وفياً نادراً، طالما أثرى حياتي بفكره وبحبه وبعقله وقلبه وفقدت مصر والعالم العربي والاسلامي مفكراً وقائداً. عرفت لحظتها ان الأمور لم تعد كما كانت، وظهر فراغ لم يسده أحد. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن نقطة النهاية بالنسبة الى البعض هي النهاية، أما بالنسبة الى عادل حسين فهي نقطة الاكتمال، اللحظة التي ندرك فيها البدايات والمسارات، ونرى حياة فرد تتحول إلى مؤشر على الطريق الذي يجب أن نسلكه، وعلى الامكانات الكامنة فينا وفي أمتنا وحضارتنا، والتي تنتظر التحقق. ندرك على سبيل المثال أن الفقيد لم يفصل قط بين الفكر والفعل، والمقاومة عنده تأخذ أشكالاً كثيرة: حين انضم الى حركة "مصر الفتاة" وحين جاهد ضد النظام الملكي، وحين تطوع للقتال ضد قوات الاحتلال في القناة العام 1951، ثم حين اشترك في صد عدوان 1956، كان يقاوم. وحين دخل السجن مرات عدة دفاعاً عن موقفه وعن شرف الأمة، وعُذب غير مرة على رغم تغير النظم السياسية كان يقاوم، وكما يقول محمد سيد أحمد إن استشهاد شهدي عطية الشافعي أثناء التعذيب هو الذي أنقذ عادل حسين من الهلاك تحت وطأة التعذيب في اليوم نفسه وفي اثناء موجة برد قارصة، وكان خرج لتوه من المستشفى بعد أزمة قلبية. أودع في السجن وكان ينام على أرض الزنزانة ولم يكن معه من الملابس ما يكفي، ويقدم الانسان اشاراته الاخوية، فكان بعض المسجونين يعطونه ملابسهم. وفي اثناء فترة سجنه هذه، في اثناء الكفاح من اجل البقاء الجسدي واثناء مقاومة السجان الذي يريد أن يحطم إرادته وتصميمه، لم تفارقه ابتسامته ولم تفارقه الرغبة في تغيير العالم. وفي الحوار معه، ارسل لي رسالة شفوية يقول فيها إن فترة سجنه تعد فرصة ذهبية له للقراءة، ولذا طلب مني ان ارسل اليه نسخة من الموسوعة ولم تكن قد نشرت بعد ففعلت، وحين خرج وذهبت لأهنئه بالافراج عنه، كان يناقشني في ما جاء في الموسوعة، بعد دقائق عدة دهشت وزاد إعجابي بهذا الانسان. هذا العقل المفكر والروح الملهمة، الذي طالما كان يعقد الاجتماعات لمجموعة من المثقفين نقرأ ونتدارس سوياً، شعلة نشاط إنساني، وهبه الله عقلاً نافذاً لكنه ليس عقلاً محضاً بارداً وانما عقل انسان له قلب وروح، قادر على الدخول في علاقات انسانية وفكرية حميمة يتدفق دائماً حباً وحياة وفكراً ومحبة. صداقتي بعادل حسين شيء لم أعرف مدى عمقه إلا ساعة الفراق، كنا نتزاور دائماً وأسرته، عرفته عن قرب في حياته الخاصة، رأيت صلابته في زمن الاستهلاك والفساد والخصخصة والتباهي بالثروة والفضائح، في وسط كل هذا وقف عادل حسين كالنجم الساطع الطاهر، يعيش في شقة صغيرة، أثاثها بسيط وجميل، اسلوب حياته ذاته كان شكلاً من اشكال المقاومة، سمعت أن إحدى حفلات الزفاف في القاهرة تكلفت 7 ملايين جنيه حوالي مليوني دولار. أما زفاف سلمى عادل حسين فكان بسيطاً لكنه من أجمل "الافراح" التي شاهدتها في حياتي، كانت فرصة نادرة ان نستمع الى بعض الموسيقى وان نتجول في حديقة وأن نتجاذب اطراف الحديث مع الاصدقاء. وقالت الدكتورة ناهد ضاحكة "سلمى مبدعة مثل أبيها"، إن اسلوب حياة عادل حسين كان شكلاً من اشكال المقاومة. وهكذا كان فكره ايضاً... بدأ شيوعياً وقضى الربع قرن الاخير من حياته مفكراً عروبياً اسلامياً، ويفسر البعض هذا التحول بأنه نوع من انواع البراغماتية السياسية، ولكن ما حدث لعادل حسين من تحول حدث للكثير من المثقفين العرب في مصر، على الاقل يمكن ان نشير الى طارق البشري ومحمد عمارة وكاتب هذه السطور وغيرهم، وعلى مستوى العالم هناك الكثيرون ومن أهمهم غارودي، وحدث التحول في الفترة نفسها تقريباً ما يدل على أن هناك نمطاً تاريخياً عاماً، لعله مرتبط بأزمة الحداثة وأزمة النظامين الرأسمالي والاشتراكي، ولذا لا تصلح "البراغماتية" ان تكون نموذجاً تفسيرياً في هذه الحال. عادل حسين كان مثالياً ثورياً بمعنى انه يؤمن بأن المثاليات والثوابت جزء اساسي من إنسانيتنا، ولها فاعلية في المجتمع الانساني، وثورياً بمعنى أنه يؤمن أنه عن طريق التمسك بهذه الثوابت والمثاليات يمكن ان نغير المجتمع ومسار التاريخ. والمثالي الثوري لا يؤمن بالحتميات ولا يذعن لقوانين الضرورة ولا يفسر ظاهرة الانسان بعنصر مادي عادة اقتصادي واحد، وحين كان عادل حسين "ماركسياً" فهو كان ماركسياً انسانياً، يؤمن بالعدل كقيمة مطلقة، وبالانسان ككائن متفرد، وان الاقتصاد بُعد مهم لكل الظواهر الانسانية ولكنه ليس البُعد الوحيد، ومن هنا رفضه للقوانين الحتمية المجردة التي تؤدي الى السقوط في المادية المصمتة، وفي نهاية الامر في الستالينية، ومن هنا ايضاً إدراكه لأهمية الخصوصية الحضارية، أي ان ثمة انتقالاً من التركيز على المادي العام الى التركيز على الانساني والحضاري الخاص، وهذا هو جوهر رؤيته في المرحلة القومية العروبية والتي كتب فيها كلاسيكية الاقتصاد المصري من الاستقلال الى التبعية، وساهم في تأسيس منبر الحوار، ومع الايمان بالانسان كظاهرة منفردة في الكون ينتقل الانسان، شاء أم أبى، من عالم الطبيعة - المادة الى عالم ما وراء الطبيعة وما وراء المادة لتفسير هذه الفرادة، فتنفك يد الحتميات وينطلق الانسان الى رحابة الايمان: الإيمان بالانسان الذي يستند الى الايمان بالله، وتسقط الاستمرارية المادية ويصبح التاريخ مجالاً للحرية. كل هذا يفسر تفاؤل عادل حسين، كان يبحث دائماً عن علامات الامل في التاريخ والافراد، فيشجعها ويشير لها، ولعل هذا ما ضمن له الاستمرار، برغم ما يحيط بنا من كل جانب من محبطات. ولأن تحولاته الفكرية شكل من أشكال المقاومة، نجد أن هذا المفكر النظري من الطراز الاول ينتقل من عالم الفكر الى عالم الممارسة في اوائل الثمانينات، فيبذل جهداً غير عادي في تطوير خطاب اسلامي جديد، له مضمون سياسي جهادي حقيقي، وله حس تاريخي عميق، ولذا فهو خطاب قادر على التصالح مع الخطاب القومي ومع اي خطاب مقاوم للحلف الصهيوني الاميركي، ولذا لم يتوقف عادل حسين ابداً عن حضور المؤتمر الاسلامي القومي، او عن الكتابة عنه ويترجم هذا الخطاب نفسه الى حزب معارض، يصبح هو المعارضة الحقيقية في مصر، ويستوعب كثيراً عن التيارات الاسلامية التي ترمي الى اصلاح مصر والعالم العربي، فيبين لها امكانية العمل من خلال القنوات الشرعية ويحول جريدة "الشعب" الى جريدة ناطقة باسم الشعب. هل كان يعلم من قاموا بإسكاته انهم بذلك سدوا الطريق أمام المعارضة السياسية، لتحل محلها أشكال من المعارضة أقل ما توصف به انها هزيلة لا معنى لها "غير اجتماعية"؟. كان عادل حسين يقاوم في عالم الممارسة وهو يعرف تماماً إمكاناته التنظيرية، وكثيراً ما كان يتوقف قليلاً ويصارحني أنه احياناً يود لو تفرغ لكتابة العمل النظري الاكبر الذي يود إنجازه. ولكن جاءت اللحظة، وحتى أشجع الفرسان عليه ان يترجل. يوم وفاته حزنت، بكيت، مادت بي الارض، وفي المساء كان عليّ أن ألقي محاضرة عن "الخطاب الاسلامي الجديد" فكرت: هل أعتذر عن عدم الغاء المحاضرة أم لا؟ ففكرت في عادل حسين، ورأيت انه لو كان مكاني ويا ليته كان مكاني وكنت مكانه لألقى المحاضرة وقام بعد ذلك بواجب العزاء، ففعلت. وهكذا تعلمت منه يوم وفاته، وهذا ما ستفعله الاجيال من بعدي. لم يمت من أنجب فكراً وحرك شعباً... والله أعلم. * كاتب مصري.