على رغم مرور نحو تسعة أشهر على طرح المشروع الاميركي - الاسرائيلي للتسوية الفلسطينية في اجتماعات كامب ديفيد برعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون وقتها - إلا أن فحصاً دقيقاً وتفصيلياً لعناصر ذلك المشروع لم يجر بأسلوب شامل أبداً. في ما بين القمة العربية في تشرين الاول اكتوبر الماضي والقمة العربية الوشيكة في آذار مارس الجاري جرت اجتماعات فلسطينية عربية عدة كان يمكن فيها طرح ذلك الحساب. لكن الحساب لم يجر أبدا. وبدلاً منه كان هناك حرص من الاطراف المعنية على التخفي وراء تعويمات وتهويمات شتى. فالطرف الاسرائيلي يركز على فكرة أن سخاء اسرائيل وصل الى حد الاستعداد لإعادة 95 في المئة من الضفة الغربية مثلاً، ومع ذلك لم يعط الطرف الفلسطيني هذا السخاء قدره. والمفاوضون الفلسطينون أنفسهم بدا عليهم مسايرة هذا الطرح الاسرائيلي كما لو أنه يعبر عن حقيقة مسلم بها وليس عن تلفيق ضمن تلفيقات أخرى كثيرة، فما هو مقصود بأنه 95 في المئة من الارض إنما هو في الواقع 95 في المئة من الضفة الغربية بعد استقطاع مساحة القدس الكبرى التي اقامتها اسرائيل بعد 1967. بكلمات أخرى هي في أحسن الأحوال مجرد 65 في المئة من مساحة الضفة الغربية والتي هي اصلاً، وبعد اضافة قطاع غزة اليها، لا تزيد على 22 في المئة من فلسطين 1948. هناك تلفيق آخر بالنسبة الى القدس. فاسرائيل قالت إنها عرضت على الطرف الفلسطيني معظم القدسالشرقية باستثناء "الحي اليهودي" وحائط المبكى. والرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون استخدم وقتها شعاراً براقاً مضللاً خلاصته "ما هو يهودي يكون لليهود وما هو عربي يكون للعرب". في التطبيق هذا يعني مجرد ثلث القدسالشرقية التي هي أصلاً أرض محتلة حسب مواقف رسمية أميركية قائمة منذ سنة 1967 الى أن نسفها اتفاق اوسلو وتوابعه. بل إن المفاوض الفلسطيني اختصر القدس في بُعدها الديني واختزل مضمونها ليصبح المسجد الاقصى، كما لو أن كل ما يقصد بالقدس هو الصلاة في المسجد الاقصى ولا يذكرون حتى بُعدها المسيحي. هذا ايضاً ينسف الموقف العربي الاساسي القائم منذ 1967 وجوهره ان القدس قضية سياسية بصفتها جزءاً من الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967 بإقرار من مجلس الأمن الدولي. أما التضليل الأكبر فيتعلق بجانب اللاجئين الفلسطينيين من التسوية. في إعلان صهيوني بمساحة صفحة كاملة منشور في صحيفة أميركية كبرى بتاريخ 31/1/2001 يطرح مشايعو اسرائيل المنطق التالي: الفلسطينيون يريدون إقامة دولة وقد وافقت لهم اسرائيل على ذلك في معظم المناطق الفلسطينية ولا أحد يمنع مستر عرفات من فتح حدود تلك الدولة مستقبلاً لأي عدد من الفلسطينيين. لكن مستر عرفات يريد اليوم توطين 7،3 مليون فلسطيني اضافي داخل دولة اسرائيل التي يبلغ سكانها بالكاد ستة ملايين. هذا يعني اقامة دولتين فلسطينيتين احداهما فوراً والاخرى بمرور الزمن من خلال تفكيك اسرائيل ديموغرافيا. بهذا الشكل يصبح المطلوب من اسرائيل هو أن تنتحر. مع قارئ أميركي، وغربي عموماً، يصبح هذا الطرح مغرياً في ضوء جهله بالحقائق الأساسية الحاكمة. أما الأسوأ من ذلك فهو تكيف المفاوض الفلسطيني مع هذا الطرح، إما بالصمت أو بالعجز عن طرح الحقائق. في مقدم الحقائق ما جرى بالضبط في مفاوضات تموز يوليو الماضي في كامب ديفيد. لقد تسربت من وقتها حقائق مروعة. وهي تسربت اميركياً واسرائيلياً وليس فلسطينيا. منها مثلاً ان مشروع التسوية لم يتضمن فقط مقايضة بين فتات القدس وحقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض، وانما تضمن كذلك اتفاق الجانبين معاً - اسرائيل ومفاوضها الفلسطيني - على مساهمة الدول العربية في تعويض اللاجئين الفلسطينيين مالياً كبديل عن حق العودة. أكثر منذ لك، الاتفاق ايضاً على قيام العرب والمقصود تحديداً دول البترول العربية بتعويض يهود البلاد العربية الذين هاجروا الى اسرائيل بحجة ان لهم أملاكاً وثروات جرت مصادرتها عربيا. كان هذا تطوراً غريباً وشاذاً في حد ذاته، حيث ناقشت أطراف متفاوضة التزامات يجري فرضها في ما بعد على أطراف أخرى لم تكن طرفاً في التفاوض، بل وحتى هي أصلاً من ضحاياه. أما الوجه المأساوي في المسألة فهو ان ينقلب الصراع الصهيوني - الفلسطيني بقدرة قادر الى قيام دول عربية بدعم اسرائيل مالياً تعويضاً عن مظالم لحقت بها - لحق بإسرائيل. ليس في المسألة هزل ولا كوميديا سوداء. في المسألة توجه جاد مزدوج الخطورة. فهو خطير بحد ذاته وخطير أيضاً بعدم الكشف عنه مبكرا. فالملف الذي أعدته اسرائيل في السنوات الأخيرة يلفق فكرة أن اليهود الذين هاجروا من البلاد العربية في ما بين سنتي 1922 و1952 خلفوا وراءهم ممتلكات وثروات تقدر بثلاثين بليون دولار. هناك مؤتمر صحافي عقده قبل أسابيع قليلة موشي شاهال وزير الأمن الداخلي السابق في اسرائيل بصفته رئيساً لمنظمة جديدة جرى اقامتها دولياً لتمثل اليهود الذين غادروا البلاد العربية. في المؤتمر يقول شاهال إن تلك المنظمة تثير هذه القضية بهدف الوصول الى تعادل مع مطالب اللاجئين الفلسطينيين في مفاوضات السلام. بناء عليه يصبح مطلوباً تعويض اسرائيل مالياً عن ممتلكات اليهود الذين غادروا دولاً عربية تتضمن العراق ومصر وسورية ولبنان وليبيا وتونس والمغرب. وحسب الطرح الاسرائيلي هناك 850 ألف يهودي غادروا تلك البلدان العربية سواء بعد قيام اسرائيل كدولة في سنة 1948 أو عموماً بسبب ارتفاع شأن القومية العربية في القرن العشرين. والأرقام محسوبة على أساس أن هناك 600 ألف يهودي غادروا الدول العربية الى اسرائيل مباشرة، او غادروها الى أماكن أخرى وبعدها الى اسرائيل. في الحالتين يجب تحميل الجانب العربي مسؤولية تعويض اسرائيل مالياً عن كل هؤلاء، بمن فيهم من غادروا الدول العربية منذ سنة 1922، أي حتى من قبل قيام اسرائيل ب 26 عاما. ولنتذكر هنا انه في أعقاب مفاوضات كامب ديفيد في شهر تموز يوليو الماضي تحدث الرئيس الاميركي - بيل كلينتون وقتها - علناً عن الحاجة الى حل "قضية اليهود الذين هاجروا من الدول العربية الى اسرائيل أو الى دول أخرى". في حينها لم يتوقف أحد بالمرة عند دلالات تلك التصريحات الخطرة، ولا حقيقة أنها كانت جزءاً مما جرى التفاوض بشأنه بين اسرائيل والفلسطينيين في كامب ديفيد. ومنذ قنبلة اتفاق اوسلو السري في سنة 1993 نبهنا - مع آخرين - إلى أن التضحية بحقوق اللاجئين الفلسطينيين هي في صلب منطق المفاوضات الغريبة المنطلقة من أوسلو. في حينها نبهنا الى أن فرض التوطين النهائي للاجئين الفلسطينيين سيكون جزءاً من الثمن الفادح الذي تقود إليه أوسلو. مع ذلك فخلال سبع سنوات بدأنا نكتشف ان شهية اسرائيل تفتحت الى درجة طلب فاجر آخر بحجم إلزام الدول العربية بدفع تعويضات مالية لاسرائيل، عن يهود كانت اسرائيل ذاتها باستخباراتها وتحالفاتها الدولية هي التي ضغطت على الدول العربية أصلاً لكي تسمح لهم بالهجرة. في سياق العملية التفاوضية نفسها لم يقم الجانب الفلسطيني بأي من واجباته المنزلية. واجبات تبدأ من تعبئة فلسطينيي الشتات ليكون لهم صوت مسموع دولياً، الى حصر الممتلكات الفلسطينية والعربية التي صادرتها اسرائيل عند قيامها سنة 1948 وما تلاها. فقط كل ما فتح الله به على نجوم اوسلو في كل مرة هو ان يمارسوا كفاحهم التفاوضي بالسعر التشجيعي. فكلما تحدث أحد عن أهمية النضال يقول نجوم اوسلو للعرب: هاتوا فلوس، ومن غير محاسبة. مع أن الذين ناضلوا فعلاً على أرض فلسطين، سواء في انتفاضة 1987 او في انتفاضة 2000 لم تكن لهم علاقة، لا بالفلوس، ولا بأوسلو، إنهم بالدقة ضحايا أوسلو، تماماً كالعرب أنفسهم المطلوب منهم إتاوات الفلوس. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.