الكتاب: مدخل الى الشعر الشفاهي الكاتب: بول زومتور ترجمة وليد الخشاب الناشر: دار شرقيات - القاهرة يضعنا الباحث الفرنسي بول زومتور في مدخله الى الشعر الشفاهي إزاء الفضاء المترامي الذي يتمتع به صوت القصيدة المنبورة، وهو يتنقل بين الأزمنة والأصقاع والشعوب. فاتحاً من خلال مداراته حيّزاً شاسعاً تتواشج فيه عناصر القصيدة بأشكالها وتحولاتها وتجسيداتها المتنوعة، متآصرة ومتآلفة مع أصولها الفسيولوجية والسيكولوجية ومحيطها الاجتماعي والإنساني. وعبر تشريح مكونات الصوت، يقدّم االمؤلف مفاهيم ودلالات جديدة لمفردات مثل اللفظ والأداء والذاكرة السمعية وسواها من معانٍ تتجاوز حدود المتداول والمتعارف عليه. وتنحو صوب تشكيل مقولات فكرية معقدة وموضوعات حياتية ملحّة. بل تتحوّل مسألة الشعر الشفاهي بين يدي زومتور الى قضية وطنية سياسية ينافح عنها، داعياً الى الحفاظ من خلالها على خصوصيات الشعوب والأمم، والى إتاحة المجال لانبثاق تعبيراتها الجمالية والثقافية كافة. ويعزو الكاتب دوراً مهماً للصوت الإنساني بعد أن جرده التراث الكتابي الطويل والمتواصل من عرشه الذهبي، وحدّ إغواء الصورة المبثوثة والكلمة المطبوعة في العالم المعاصر من هيمنته وسطوته. وكان ماكلوهان من قبل عالج في كتابه "مجرة غوتنبرغ" 1962، التحولات التي نجمت عن الانتقال من الحضارة الشفاهية ولغتها المنطوقة، الى الحضارة الكتابية ولغتها المطبوعة. كذلك تناول جاك دريدا في "الغراماتولوجي" الطابع الصوتي للفكر الأوروبي، معتبراً ان الفكر يكمن في الكلام وليس في النصوص. وتعرفت العربية منذ سنوات قليلة على ترجمة "الشفاهية والكتابية" لوالتر أونج. بيد أن زومتور يختلف عن سائر زملائه وأقرانه بأنه يُقارب اشكالية الوجود الحيوي للصوت بروحية المولّه العاشق لموضوعه، حتى ليكاد ان يكون عنوان كتابه "لذة النطق" إذا صحت المقارنة مع "لذة النص" لمواطنه رولان بارت. وحيث يكتب المؤلف بمثل هذه المتعة الفكرية، ويستفيض شرحاً وتعريفاً بضروب الصوت وأنماطه، والتعليق على مكونات القصيدة الشفاهية ووظيفتها وأبعادها، انما يزيل في الوقت عينه، الالتباس عن الكثير من المسلمات الثقافية والحضارية السائدة، وعلى رأسها إعلاء الناس والكتّاب الباحثين من قيمة الكلمة المكتوبة وتوقيرها، والحطّ من قيمة الكلمة المنطوقة، والتبخيس من دور الصوت ووظيفته، بل قمعه وكبته أحياناً كثيرة، والاستخفاف بقدرته وفاعليته. بيد ان زومتور الذي يتفهم خطورة نتاج الصوت البشري وتجلياته الكثيرة وامكاناته اللامحدودة، يقدم البراهين والأمثلة والنماذج الحية على فاعليته النفسية والاجتماعية، وعلى تجذّره في صلب الحياة والمعاناة اليومية وأوصابها. بل وفي التكوين العصبي والتنفسي للإنسان. وفي ايقاعات الأعمال والمواسم. وحيث تتكشف مع تطورات الحداثة الضغوط التي تتعرض لها الخامة الصوتية البشرية، من قبل آلية النظام التكنولوجي الساعية الى تغييرها بنيوياً واستدماجها في صلب وظائفها، عبر تصنيع الصوت و"تعليبه" و"نقله" من مكان الى آخر كأي سلعة تجارية. يرثي المؤلف لمآل هذا الصوت، ويرى الى هذا "التوسيط" التكنولوجي الذي يعمل على تطوير تقنياته وتوسيع مداه المكاني والزماني إضعافاً لتلقائية الصوت وعفويته، وتعديلاً لمعايير وشروط استخدامه، وتبديلاً لظروف ممارسته ودوره بما يلائم ايديولوجيا الاتصال الحديثة. ويحاول زومتور ازاء اللامبالاة أو إغفال النظريات النقدية الأدبية الناحية الصوتية من الكتابة، ان ينقذ هذا العصب المتجذر في كينونة الإنسان قبل ان يسقط تحت نير اللغة المكتوبة، أو تحت تروس الحضارة التكنولوجية، ومواضعاتها النمطية العالمية الدالة على جبروتها وقوتها. والرامية الى المحو الجزئي للثقافات المحلية القديمة أو تهميشها وتحنيطها. وإذْ يصبو الباحث الى التعريف بمكنون الصوت البشري وطاقاته ودينامية علائقه بمنبعه ومحيطه. فإنه يرسي في مدخله الى الشعر الشفاهي أساساً نظرياً ومعرفياً يحيلنا الى قواعد عامة تحكم الصوت وتمظهراته الشعرية وطريقة ادائه وتشكيل هياكله. وهي قواعد وشروط معقدة، وأنواع غزيرة تتراوح بين القصيدة الشعبية والأغنية والأنشودة والترتيلة والمناجاة والتعاويذ، الى ضروب أخرى من طقوسيات التلفّظ والايحاءات والألعاب والبهلوانيات الصوتية. وفي غمرة هذا التنوع يتشكّل النص الشفاهي الكثيف الطبقات، في قلب محيط انفعالي يمثّله الاداء، ويهبه صورته وهويته الاجتماعية ويحدد مجالاته وامكاناته. ويضع زومتور إصبعه على منبع من منابع القوة في القصيدة الشفاهية في ظروف عصيبة، حيث تتماهى مع ارادة الحفاظ على الجماعة، وتصطبغ بلون ايديولوجي ووطني، متحولةً الى واجهة دفاعية يلوذ خلفها الشعب في لحظة من لحظات الوعي الوطني والقومي المهدد بعدوان الخارج، أو المعرض لذوبان هويته وكيانه السياسي والحضاري. أو حتى في ظل معاناة معيشية كالفقر والبطالة. وتشكل ضروبٌ من الأنواع الشعرية الشعبية، بل وضروب من الابتهالات الدينية جزءاً من "الثقافة المضادة". ويعرض الكاتب في هذا المقام أمثلة حصلت في عدد من الدول، مثل ايرلندا التي أفرزت مقاومتها الاستعمار البريطاني خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سلسلة من التراتيل الشعبية في مدح السيدة العذراء أو الافخارستيا . وكذلك في منغوليا غذّى الاحتلال الصيني عام 1919، ضرباً من الأناشيد المنغولية الكفاحية. وواكبت أغانٍ محلية وقبلية حركات التحرر في الكثير من البلدان الافريقية التي رزحت تحت نير الاستعمار، أو الحكومات الاستبدادية عقب الاستقلال. ويحسب زومتور ان تعلّق الشبيبة بما يسميه "الصوت الوحشي" الغاضب أو الايقاع الصاخب انخراطاً في ثقافة رافضة تنبذ قيم البالغين ومعاييرهم الاخلاقية، وتتمرد على قوانينهم وشروطهم. ويرى من طرف آخر، ان اشكال الحضارة الغربية القهرية حطمّت "ثقافات عريقة جليلة، ممتعة ورهيفة" وجرّدت الشعوب العالمثالثية من خصوصياتها، ولم تُبقِ من صروحها الشعرية والجمالية الا الأوابد والبقايا الفولكلورية. ويحلّل زومتور كيفية تغلغل الآداء الصوتي في فضاء الوجدان البشري بما يحمل من شحنات وطاقات كلامية، لا ينفصم عُراها عن ايقاع تنفس الجسد وحركة أحاسيسه ومشاعره. وتتجلى هذه الطاقات في أغاني المهد المعروفة في انحاء العالم المتحضر والبدائي حيث يولّد صوت الأم الدافئ الاحساسات المريحة والمهدِّئة لدى الطفل، ويتناغم مع اللغة الموقَّعة على أنفاس الجسد، وحركات النعاس والاستيقاظ والايحاءات والتداعيات اللفظية. كذلك يتحول صوت الأب في محيط التكوين العائلي الى صوت القانون الأخلاقي والاجتماعي الصارم. ولا يقتصر الصوت على الدور العاطفي والوجداني، بل يتعداه في كثير من المجتمعات الى دور الناقل المعرفي عبر الامثال المقفّاة والموقعة والألغاز والأحاجي المسجعة. والى دور مؤازر للعمل الجماعي، حيث يواكب الغناء في المجتمعات التقليدية النشاطات العملية، مثل بذر البذور والحصاد وعصر العنب وطحن الحبوب، قبل ان تفرض الصناعة الحديثة ايقاعاتها الميكانيكية على العمال. وفي هذا المقام يعقد زومتور علاقة طريفة بين الغناء واليد، فيرى الى ان الغناء يحيل العمل رقصاً ولعباً وعشقاً. وهو يؤدي وظيفة مزدوجة: يسهل حركة اليد بتنظيمه اياها من جهة، ويسهم في محو اغتراب العامل من جهة أخرى، حينما يقرّب منه المادة التي يعمل فيها يده، ويستحوذ على ما يعمل ولو بصورة تخييلية. فيغدو العمل حالئذٍ، وكأنه مجرد عنصر مساعد على الغناء. ومن وظائف الصوت الأخرى انه يتعلق بالاحتفالات والشعائر الدينية الدورية والتعازيم والمرثيات الجنائزية، ويشحذ العواطف والارادة ويوحّد الانفعالات الجماعية العارمة عندما تتفاقم الظروف المأسوية، فتهدّئ الأغاني من لوعة الحسرة والأسى. وإذا كان زومتور يصنف المعايير التي تحكم الشعر الشفاهي وطابعه الزمني الخاطف والمباشر، وشفافيته وتلقائيته، ومعانيه النابعة من مشهدية العمل الشعري والنسق الآدائي، فإنه يتعامل مع أي شعرية شفاهية على انها تعبير عن خواص صوتية "فكل شعر يتوق لأن يجعل من نفسه صوتاً". ويعقّب على رأي باحث يزعم ان ليس من وظيفة الشعر الشفاهي أن ينقل مضامين مفهومة، بل أصوات وايقاعات فحسب. بأنه كلام حق، محيلاً الى عبارة ماياكوفسكي الشهيرة "يظل الايقاع قوة القصيدة المغناطيسية". راوياً حادثة حصلت معه شخصياً تدل على أهمية المنحى الايقاعي في فهم المعنى، مع جهل اللغة المستعملة في الشعر. وانتهاجاً لهذا النزوع الايقاعي يصف قرع الطبول في القبائل الافريقية بأنه عبق روح الاسلاف، وبأن القبيلة التي تُحرم من طبولها تفقد الثقة بنفسها وتنهار! يرسي زومتور في كتابه ذي الإيقاع الأسلوبي الدافق والحار والكثيف، والمترجم الى لغة وليد الخشاب العربية التي لا تقل جاذبية وحيوية، منطلقاتٍ نظرية ومنهجية يمكن ان نضيء بها على موضوعات وميادين أسلوبية وفكرية ما تزال رهينة المفاهيم والمقولات التقليدية السائدة في خطابنا النقدي. إذا قلما طُبقت النظرية الشفاهية على أي من الأساليب والموضوعات القديمة والحديثة. وعلى رأس هذه الأدبيات منبرية الشعر العربي وتراكيبه المرتبطة بإيقاعاته الصوتية وتقيّده الصارم بموتيفات وأشكال وأنماط ثابتة، هي من جوهر المزاجية الشفاهية. ومن المفارقات ان الغربيين هم من عكفوا على تطبيق النظام الشفاهي على الشعر العربي، وخصوصاً الشعر الجاهلي. حيث نجد جيمس منرو على ما يذكر حسن البنا عز الدين يحلّل الأوزان العربية المعقّدة وصيغها الصوتية، ومفرداتها المكررة والنمطية. كذلك يشرح زويتلر الملامح "النموذجية" للقصيدة الجاهلية وموتيفاتها الثابتة. ويمكن الإضاءة كذلك على الكثير من المأثورات القائمة على الصيغ المكررة التي تتحكم في العمليات الفكرية في ثقافتنا العربية القديمة والحديثة. وعلى الرواسم الكليشهات والصيغ النعتية المستخدمة في التشهير السياسي في النصوص الخطابية كأثر باقٍ من العادات الشفاهية.