ليس جديداً العنف الذي تمارسه المدارس بحق الطلبة في العراق، فالأجيال تتذكر جيداً ألواناً من الضرب والعقوبات الجماعية كانت تمارسها ادارات المدارس في العراق، غير ان سيادة قيم العنف في العشرين عاماً الماضية حين أصبح العراق نهباً للحروب والقمع والحصار جعلت من أشكال العنف في المدارس تزداد نوعاً وكماً كما انها لم تعد في اتجاه واحد تمارسه ادارات المدارس بحق الطلبة، فهناك حوادث تثبتها المصادر الحكومية عن عنف يمارسه الطلاب بحق الأساتذة وعنف ما بين الطلاب أنفسهم. وآخر تمارسه المؤسسات الحكومية والحزبية ضد المدرسة كقيمة تربوية إذ أصبحت المباني المدرسية مواقع عسكرية أثناء الحروب ومقار للاجتماعات الحزبية وحتى أمكنة لتنفيذ حكم الاعدام كما حصل في شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي حين نفذ الإعدام في مدرسة متوسطة في مدينة الثورة صدام برجلين قاما بإطلاق النار على مسؤول حزبي هو مدير المدرسة. وازدياد حوادث العنف في المراكز التربوية العراقية دعا وسائل الإعلام الحكومية اضافة الى وزارة التربية الى مناقشتها علناً. ومع اقرار المصادر الحكومية بوجود العقوبات الجسدية وغيرها "العقوبات في مدارسنا أريد منها ان تكون عملية تقويمية وليس الانتقام" الا ان ندوة عقدتها مجلة "ألف باء" الرسمية أكدت ان العقوبات أدت الى "تسرب" الطلاب من مدارسهم في اشارة الى مئات الآلاف من الطلاب الذين باتوا يشكلون اليوم في العراق ما يسمى ب"أطفال الشوارع". كما أشارت الى ان عقوبات الضرب وصلت حد استخدام وسائل مؤذية جداً الأنابيب البلاستيكية القوية! مدير "متوسطة القيروان للبنين" صدام فهد حطاب يقول: "تقوم الدنيا ولا تقعد من قبل أولياء الأمور ان تعرض الطالب للضرب ناسين أو متناسين انهم يمارسون ذلك مع أولادهم"، مؤكداً ان "نماذج من الطلاب لا يردعها إلا العقاب البدني وربما تعودت عليه وكثير من الدول أجازت العقاب البدني...". ومع اقرار مدير "اعدادية الشهيد حماد شهاب" ان العقوبة الجسدية أسلوب غير تربوي إلا ان عبدالحق عبدالكاظم يقول ان "العقاب البدني مطلوب أحياناً"، لافتاً ان "تمادي الكثير من أبنائنا وعدم اكتراثهم واهتمامهم بل تجاوز الحدود المعقولة في هذه الأيام وابتعادهم من أداء الواجبات اليومية واللهاث وراء الرغبات ووسائل اللهو المتعددة والتهرب من المدرسة أجبرت بعضاً من التربويين اتباع العقاب البدني اضافة الى الفصل والطرد من الصف". الحوادث التي تنشرها الصحف العراقية تكشف أشكالاً من العنف الذي تمارسه ادارات المدارس ومعلموها بحق الطلاب، فالطالب فهد داود سلوم من مدرسة ابتدائية في "حي البنوك" في بغداد حصل على تقرير طبي من الصحة المدرسية يؤكد وجود كدمات على فخذيه الأيسر والأيمن اضافة الى كدمات في ساعده الأيمن تسببت فيها ضربات عصا وجهتها اليه مديرة المدرسة بعد ان كان يلعب وزملاؤه في ساحة المدرسة. وتسبب في تفجير بالونة نفّاخة فأزعج الصوت المديرة الغاضبة. والد الطالب كشف انه حمل شكوى الى مديرية تربية الرصافة التي تتبع اليها المدرسة غير ان علاقات المديرة الجيدة حمتها من المساءلة! وإذا كان العنف في المدارس مرتبطاً الى حين بمدارس الذكور فإن المعلمات ومديرات المدارس في العراق أكدت "ريادة" في ممارسة العنف بحق طلابهن. فإضافة الى مديرة مدرسة حي البنوك، أقدمت معاونة مديرة "مدرسة الحبانية الابتدائية" على الإمساك بعنق احدى تلميذات المدرسة وراحت تضرب رأسها على حافة طاولة خشبة ما أفقد التلميذة وعيها وبصرها لنحو نصف ساعة كما يثبت ذلك تقرير طبي صادر عن "مستشفى الرمادي العام". ومجلس الآباء والأمهات احدى الوسائل التي شكلتها وزارة التربية العراقية لمناقشة الوضع التربوي بالاشتراك مع أولياء الأمور، الا ان عدم تعويل أولياء أمور الطلاب على تعليم الأبناء واعتبارهم العمل أجدى نفعاً سبب فشلاً ذريعاً لتلك المجالس، اضافة الى انتقال العنف الى مستويات جديدة، فقيم العنف جعلت الطلاب ينظمون ما يصفه المدرسون "عصابات داخل المدرسة" لم تتوقف عن تنظيم مواجهات داخل بناية المدرسة بل انتقلت الى خارجها، وطاول بعض تلك العصابات المعلمين والمدرسين. وتكشف "دائرة اصلاح الأحداث" في بغداد ان 34 صبياً مودعاً فيها تسببوا خلال الأعوام الثلاثة الماضية في احداث جروح بليغة لمعلمين ومديرين في مدارس توزعت على مناطق عدة في العاصمة العراقية، اضافة الى ايقاعهم اصابات بزملاء لهم. ويقر كاتب في مجلة "ألف باء" بأن أرقام حوادث العنف في المدارس العراقية "مخيفة وتشكل ظاهرة لا بد من دراستها ووضع الحلول لمعالجتها". ويشير عبد الرسول حسين الى ان وزارة التربية لا تتوافر على توثيق احصائي بحوادث العنف في المدارس، مشيراً الى ضعف دور "المشرف التربوي" فيها وهو المكلف أصلاً بدراسة مثل هذه الحالات ووضع الحلول المناسبة لها. ويرى استاذ عراقي متخصص في "علم النفس التربوي" ان هدماً منظماً للمدرسة بوصفها مكاناً للمعرفة يقارب القدسية شهده العراق في السنوات العشرين الأخيرة وهو ما أشاع جواً من العنف في أمكنة يفترض انها ترسخ قيماً تربوية رفيعة، مشيراً في هذا الشأن الى ان المدارس في العراق اليوم مراكز للتدريب على السلاح، ومناطق تجمع لميليشيات "البعث" الحاكم كما ان ساحاتها تشهد كل خميس ومنذ الحرب العراقية الإيرانية اطلاقاً لزخات من الرصاص الحي من البنادق الرشاشة مع رفعة العلم وهو اجراء أمر به الرئيس صدام حسين وذلك "لإنماء روح القوة والتحدي عند الأجيال الجديدة". ومما ساهم في اعلاء روح العنف في المدارس تحول الطلاب "البعثيون" الى "محققي أمن" لهم صلاحية استدعاء الطلاب المشكوك في ولائهم الى غرف "الاتحاد الوطني" في المدارس الثانوية والاعدادية وممارسة أنواع من العنف بحقهم. كما ان القيادات الطالبية التابعة للحزب الحاكم كثيراً ما تسببت في اعتقال أساتذة تحت ذرائع سياسية. كما وتتخذ القيادات من المدارس مواقع في عمليات الاستنفار الحزبي واستخدمتها قيادات عسكرية مواقع بديلة أثناء حرب الخليج الثانية 1991 ما أبعد المدارس عن صورة أمكنة العلم والمعرفة والتربية السليمة. ويؤكد استاذ "علم النفس التربوي" ان سؤالاً بات يطرحه بعض أولياء الأمور مفاده: ما فائدة المدرسة؟ ينطوي على تحريض ضد قيم التربية والمعرفة وأججته ظروف الفاقة والحرمان التي يعانيها العراقيون ما دفع نسبة كبيرة منهم الى رفض ارسال أولادهم الى المدارس واشراكهم في العمل وللمساعدة في تأمين الحاجات اليومية، اضافة الى تكوين "مستقبل مضمون" للطالب طالما ان "الشهادة لا تطعم خبزاً".