تحمل طالبة قد تبدو هي الاكبر بين زميلاتها في احدى مدارس بغداد الابتدائية، جرساً حديداً وتضربه بقطعة كبيرة من الحجر لتبدأ الدروس في مدرسة طاول الخراب فيها كل شيء: حديقتها بحيرات آسنة، والطريق اليها ممرات ترابية تسندها المعلمات ببعض الحجارة. النوافذ بلا زجاج، الأبواب متآكلة الى النصف والصفوف الدراسية تكتظ بالطلاب والطالبات، اقل من ربعهم تتوفر له الفرصة بالجلوس على مقاعد خشبية وإن تهرأت، بينما الغالبية تتكوم على أرضية عارية ملوثة. هذا ما حملته اخيراً كاميرا الفضائية العراقية ليصبح مشهداً يتم من خلاله عرض واقع التربية والتعليم في العراق ضمن برنامج "حوار صريح جداً" الذي استضاف وزير التربية الدكتور فهد الشقرة: "ثلاثة آلاف موقع دراسي تدمرت كلياً او جزئياً في مواجهة ام المعارك او ما اعقبها من اعمال تخريب في صفحة الغدر والخيانة" كما يقول الوزير الذي كان في السبعينات مسؤول التنظيم الطلابي البعثي "الاتحاد الوطني لطلبة العراق". ويستدرك الشقرة ليقول: "بعض الضربات لتلك المواقع كان مقصوداً والآخر جاء من خلال قوة القصف الهائلة للقنابل التدميرية". ويؤكد الوزير ان التدمير الذي طاول البنى التعليمية العراقية اثناء "صفحة الغدر والخيانة" وهو التعبير الرسمي للانتفاضة الشعبية التي اندلعت في جنوبالعراق وشماله بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، وصل الى كل المواقع التي لم تطاولها "القذائف التي وجهها العدوانيون الى العراق". وكانت القيادات العسكرية والحزبية العراقية قد اتخذت في حرب الخليج الثانية "مواقع بديلة" تخلصاً من تهديدات القصف الجوي الذي طاول مقراتها الرئيسية في الأيام الأولى من الحرب، فتوزعت بين الجامعات والمعاهد والمدارس التي كانت قد تعطلت الدراسة فيها قبيل اندلاع الحرب. وهو ما حاول الشقرة الاشارة اليه بقوله ان القذائف كانت تستهدف مواقع عسكرية قريبة من المدارس التي تهدمت بفعل القصف القوي. وكانت المدارس بل حتى المساجد "مواقع بديلة" لأسلحة مقاومة الطائرات في مناطق من بغداد الى جانب غالبية المحافظاتالعراقية التي صارت فيها هذه الاسلحة "هدفاً" للجموع التي خرجت لتهاجم مقرات الأمن والاستخبارات والحزب الحاكم. ويرى وزير التربية العراقي ان المخطط الانكلو - سكسوني يستهدف الطفولة في العراق عبر خلق مشاكل في التعليم وتدعيم وتقوية الحصار على حقل التربية ورفض الموافقة على عقود اقرتها مذكرة التفاهم الموقعة مع الأممالمتحدة والتي خصصت اكثر من مائتي مليون دولار للتربية ضمن المرحلة الخامسة من تنفيذها. ويصف الوزير المخطط الذي يستهدف اطفال العراق بأنه "الفيروس الاميركي الجديد الذي يفتك بمستقبل العراق". ويضيف الشقرة "ان ما يخيف الاعداء حقاً هو منهاجنا التربوي الذي وضعناه وقدمناه على التعليم، فنحن نريد لشعبنا ان ينشأ وفق تربية فكر القائد ولا نريد له ان يظل تحت رحمة قانون النفط مقابل الغذاء الذي يتبجح من خلاله المندوب الأميركي في مجلس الأمن بأنه وفّر للمواطن الانساني مستوى غذائياً مشابهاً لما هو موجود في الدول المتقدمة". وكان مجلس قيادة الثورة العراقي أعلى سلطة تشريعية أصدر أواخر تشرين الثاني نوفمبر الماضي "قانون وزارة التربية" التي كان اسمها في الأيام الأولى لتسلم الرئيس العراقي صدام حسين سلطاته في تموز يوليو 1979 وزارة التربية والتعليم. ووضع القانون الجديد في صدر مهمات الوزارة تربية النشء في العراق في ضوء "فكر الرئيس القائد صدام حسين" - يقف تلميذ صغير أمام الكاميرا ليقول: "انني ابن صدام حسين بطل القادسية وأم المعارك". ويعاني ملايين الطلاب العراقيين في المراحل الدراسية الثلاث: الابتدائية والمتوسطة والثانوية لا من فقدان التجهيزات الدراسية الأساسية فحسب: الكتب ووسائل الإيضاح الى جانب المقاعد الخشبية المتهرئة ان وجدت، بل كذلك من ارتفاع أسعار دفاتر الكتابة والأقلام والحقائب التي يستوردها التجار من الصين واندونيسيا وتباع بأسعار تبدو خرافية ازاء المرتبات الشهرية للعراقيين خمسة آلاف دينار ثلاثة دولارات تقريباً. المعلمات تخاطبن التلاميذ بصوت عال في الصفوف: لماذا كتبكم ممزقة؟ فيجيبون بصوت موحد: أميركا... تسقط أميركا. ولماذا تجلسون على الأرض؟ يجيبون: أميركا... تسقط أميركا. وفي الفيلم المصاحب لحوار الفضائية العراقية مع وزير التربية تسأل المذيعة احدى الطالبات: لماذا حقيبتك ممزقة فتجيبها: "ما عدنا فلوس" فترد المذيعة عليها بحزم: لا، السبب أميركا هي التي تجعل حقيبتك ممزقة! وعلى رغم ان الصفوف الدراسية في العراق تبدأ على وقع جملة موحدة أصبحت لازمة منذ الثمانينات يقولها التلاميذ ما أن تدخل المعلمة أو المعلم الصف ويأمرهم بالقيام ليردوا: "يحيا القائد" الا ان جملة جديدة بدأت تدخل النهج التعليمي التلقيني في المدارس العربية: "بماذا تحاربون أميركا" فيجيبون "بالقلم". وعن أقلام الرصاص يقول وزير التربية ان لجنة العقوبات في الأممالمتحدة تمنع وزارته من استيرادها ويعتبر ذلك "نكتة سمجة" فإن مندوبي الولاياتالمتحدة وبريطانيا في اللجنة يعتبران "أقلام الرصاص" من المواد المزدوجة الاستخدام. ويذكر الوزير ان لجنة العقوبات تقول في احتمال قيام العراق بتفريغ ما تحتويه الأقلام من كرافيت الذي قد يستخدم في صنع أفران للصناعات الثقيلة الحربية! غير أنه لم يعلق على مئات الملايين من أقلام الرصاص التي يستوردها سنوياً تجار القرطاسية في شارع المتنبي وسوق السراي في بغداد. ويضيف الوزير الشقرة ان المنع طاول ورق الطباعة الخاصة بالكتب المدرسية، ويكشف عن سبب الرفض بحسب ما تراه لجنة العقوبات: قد يستخدم في طباعة صحف ومجلات وزارة الثقافة والاعلام العراقية. وذلك - ودائماً بحسب الوزير العراقي - أدى إلى توقف مطابع وزارته عن طبع الكتب المدرسية وبحثها عن مصادر طباعية أخرى. تطبع صحيفة "الدستور" الأردنية كتب وزارة التربية العراقية للعام الدراسي الحالي بموجب عقد بلغت قيمته مليوني دينار أردني. ويعتقد فهد الشقرة ان ضغوطاً قوية تمارس على المنظمات الدولية كي لا تقوم بدورها في انقاذ الوضع التربوي في العراق على رغم أنه كشف عن قيام اليونيسكو ببناء 450 مدرسة في العراق، فقال: "كما اعلن مدير منظمة اليونيسكو السيد فيدريكو مايور، فإن اليونيسكو ستبني مدارس في العراق بقدر الصواريخ التي ضرب بها في المواجهة الأخيرة مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا"!! واعتبر مواقف "المنظمة العربية للتربية والثقافة" و"المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم" سلبية، لأنها لم تفعل شيئاً ينقذ الوضع التربوي في العراق، وأكد ان "الحملة الوطنية لبناء المدارس" ستمضي قدماً "بدعم مباشر من الرئيس القائد صدام حسين". يذكر ان الرئيس صدام حسين أمر مجلس الوزراء في آخر جلساته للعام المنصرم ان تكون تكاليف بناء المدارس في العراق "من الآن فصاعداً" مناصفة بين الدولة والمواطنين.