لم تكن حفلة توزيع جوائز الدورة ال19 ل"مهرجان فجر السينمائي" عادية بمقاييس ايران. اذ طالما حرص الإيرانيون على تقديم صورتهم، السياسية أو السينمائية، الى العالم بكثير من الهدوء. لكن أوان المواجهة حان لقول آخر، أو بذا هجست حوادث ليلة ختام تلك الاحتفالية. كأن "ثورة صغيرة" أو "دراماتيكية" كانت في انتظار من حوتهم تلك القاعة وحولتهم شهود عيان مع سبق الاصرار، وأسهم في الهابها اثنان: مخرج مكرس، ونجم سياسي من طينة أخرى عرف بمواقفه الشجاعة في دعم السينما وحرية التعبير. وبدأ التصعيد العاطفي المشحون أصلاً بقوة السؤال، على درجات. فما ان سمح لضيوف المهرجان بدخول قاعة الاحتفال. حتى تأكد لهم ان اشاعة تنزيل علم "الشيطان الأكبر"، تناقلها البعض من دون اثبات، غير صحيحة. فقد احتلت النجمات والخطوط في ذاك العلم وألوانه، التي لا تخطئها العين، الصف الثاني وسط رموز أقرانه من دول بادل البعض منها ثورة هذا البلد الكثير من العداء. وانتصبت خلف تلك الأعلام جدارية كتب عليها بكل لغات العالم، بينها العربية، كلمة سينما. أشياء ممنوعة بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، صعد المخرج سيف الله داد مدير المهرجان، الى المنصة ليلقي كلمته. فهو مثلما شكر من أسهم في انجاح هذه الدورة، أعتذر لعدم تمكن ادارته من انقاذ شريطين كان من المزمع عرضهما، واحتفظ برسالة وعد الحضور بقرائتها من بعد من دون ان يفصح عن مضمونها. وبالفعل جاء ما لم يكن في الحسبان، إذ انفرطت حبات رمانة شعار المهرجان حبة حبة. كانت الأولى حبة رفض المخرج مجيد مجيدي جائزة أفضل عمل واخراج لشريطه "المطر"، ضمن فقرة "مسابقة الأفلام الإيرانية". وبدت كلمات الشكر خجلى ومتوترة حيال مهانة منع شريط زميله ابراهيم حاتمي كيا "الموجة القاتلة". فشريط كيا هو الأكثر استحقاقاً، والكلام لمجيدي، بالحصول على جائزة. لكن هذه الوقفة من الشجاعة والتضامن، لا تخلو من رسالة سياسية، مع حقوق القول والتعبير والمشاهدة، ولم تجنب مخرجاً فخوراً بإنجازه مثل جعفر بناهي من منع شريطه "الدائرة" داخل ايران. وحتى أسد البندقية لم يشفع له في ثني اقتناع السلطات الرقابية بغير ذلك. منع شريط "الموجة القاتلة" لم يلغ الحديث عنه، فقد وظف مخرجه ثيمة وتقنيات، تُعد غير مستخدمة في السينما الإيرانية. وكما يفصح عنوانه المشتق من المصطلحات البحرية، فإن مخرجه أراد له أن يغور عميقاً في علاقات تبدو هادئة ظاهرياً بين جيل ما بعد الحرب العراقية - الإيرانية والناجين منها. ويعتبر هذا الشريط فتحاً جديداً في توظيف التقنيات الحديثة والأكثر صعوبة لمخرجه، كما يقول في ملخص كلمته الملازمة للفيلم. فقد صور الجزء الأكبر منه تحت سطح البحر، واستعان بكاميرات وأنظمة تسجيل رقمية متطورة. وللمرة الأولى في تاريخ السينما الإيرانية عمد فريق عمله الى استخدام نظام دولبي الرباعي الشديد الحساسية. وغايته اقامة معادل بصري - مجازي لما يحدث في عمق البحر وظاهر سطحه. حب لم يكتمل ولئن تخلى مجيدي عن قبول جائزة واحدة فإن لجنة تحكيم فقرة "المسابقة الإيرانية" منحت بطله الشاب حسين عبيدني، الذي أدى شخصية عامل البناء "لطيف"، جائزة أفضل ممثل. أما لجنة تحكيم فقرة "المسابقة الدولية"، وبين أعضائها المخرج ديمتري ايبيديس مدير مهرجان سالونيك للأفلام الوثائقية والمخرجة رخشان بني اعتماد والمخرج المجري بيلا تار والناقد الأميركي جوناثات روزنباوم، فقد كللته بجائزتها الكبرى. يدور "المطر" على قصة حب لم تكتمل فصولها بين "لطيف" عامل البناء والصبية الأفغانية "زهرة"، ويكون مسرحها مبنى في طور التشييد. فبعد اصابة والدها والحاح الحاجة المادية تتلبس زهرة ثياب العمل الرجولية، وتنخرط في يوميات تبقيها معومة تلوذ بصمت معذب لطفولتها الغضة. بعد حين، وفي لقطة أخاذة، وهي تسرح شعرها خلف ستائر زواية مطبخ صغير مخصص لإعداد الشاي والطعام لزملائها العمال، ينكشف سرها الأنثوي لعيني "لطيف" وحيال هذا الاكتشاف، تتلاشى عداوة "لطيف" لمن أخذ مكانه المريح، على اعتبار انه صبي، لتتحول الى معرفة سر عزيز لا يقاسمه أحد فيه، ويعطي معنى لوجوده الحياتي خارج يوميات العمل وحجارته الصماء، ما يجعله يبذل المستحيل في التقرب ممن عرف سرها وسلبت قلبه في آن. لذا يقرر سحب مدخراته، ويصل الى بيع هويته الشخصية، لاعطائها ثمناً وعربوناً لعائلة "زهرة" المهجرة من الحرب الأفغانية. تأتي اللقطة الأخيرة كأنها تقول له ان ما ظفر به هو عبارة عن أثر زائل تحت حبات المطر المنثال. حصاد مجيدي من الجوائز لم يمنع لجان التحكيم والمشاهدين من تكريم شريط "قتل الكلاب المسعورة" أو "قتل عنيف" لمخرجه المقل بهران بيضائي. فقد حصل على ثلاث جوائز دفعة واحدة وهي، السيناريو والتصوير والجمهور، ضمن فقرة "المسابقة الإيرانية". فيما حصلت ممثلته مزده شمسايي على جائزة رابعة، وهي جائزة أفضل أداء نسوي ضمن فقرة "المسابقة الدولية". يضع بيضائي أصبعه على ما يمور به المجتمع الإيراني المعاصر، حيث الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية، وعبر قصة زوجة هجرت زوجها. وتكون عودتها بمثابة كشف لملفات مزورة، تورطت فيها جهات عدة، وضعت الزوج خلف قضبان السجن بعد افلاسه المالي. الطابع البوليسي والايقاع السريع لشريط بيضائي لم يجعله فقط مجدداً لغته السينمائية، وانما في تناول حبكة شديدة الحساسية تقارب الحدث اليومي وتطاول ثنائيات القديم والحديث: المجتمع في مقابل العائلة، والتسيب أمام سلطة القانون. ومثله جاء شريط "مارال" لمخرجه مهدي صباغ زاده الذي فازت ممثلته ثريا قاسمي بجائزة الأداء النسوي في فقرة "المسابقة الإيرانية"، ليضرب على وتر تلك الثنائية، وعبر قصة حجي وزوجته رضوان وحرمانهما نعمة الأبوة. فينكفئ الزوج الى الصلاة وقراءة القرآن، فيما تنذر الزوجة نفسها للأعمال الخيرية، إلا ان هدوء حياة الزوجين سرعان ما تتصدع، إثر هزة أرضية تضرب منطقة سكنية قريبة من دارتهم، بعد قرار الزوجة استضافة شابة فقدت ذويها. هاجس الهلال والحرام يدفع رضوان الى عقد قران زوجها على تلك الفتاة، ظناً منها ان ذلك سيعيد الإلفة الى حياتهما الزوجية. عمل جريء في المقابل، قدم الشاب سيد رضا مير كريمي عمله الجريء "تحت ضوء القمر"، وفيه قارب موضوعاً بدا شديد الحساسية ومن صنف "التابو"، بطله طالب في مدرسة دينية. فقد كانت اشتغالات السينمائيين تدور، عموماً، على مواضيع محددة، مثل القيم والتقاليد البالية والعسف المسلط على الأطفال والمرأة ومهمشي المجتمع، من دون الوصول الى درجة التماس مع السلطات والمؤسسات الدينية. لكن مير كريمي عرف كيف يوظف المحنة الأخلاقية للطالب سيد حسن، ويحولها قراءة شجاعة لا تخلو من النقد والتهكم لعقليات الانغلاق الفكري والازدواجية. يغلف المخرج شريطه، وفي لقطاته الأولى، بمفارقات طريفة من الحياة اليومية، وتبدأ بمنع الطالب سيد حسن من قراءة المجلات الرياضية، بينما يتحمس مدير تلك المدرسة لاقتناء هاتف نقال. وحتى يزيد من غربة سيد حسن، عمد المخرج الى نقل الفعل الدرامي الى الشارع، متمثلاً بسرقة صبي مشرد ملابسه المخصصة لحفل التخرج، ما يدفعه الى ملاحقة ذلك الصبي، لينتهي في قرارة عالم سفلي قائم على السرقة والمخدرات والبغاء العلني والتشرد. يكسر سيد حسن صمته المؤرق عبر لعنة يضعها المخرج على لسانه بقوله إن "بحر الفقر لا حدود لشواطئه". وضمن سياق التجارب الشابة عرض شريط "أغنية غير مكتملة"، وهو العمل الأول لمازيار ميري، وفيه متابعة لرحلة باحث موسيقي شاب مهتم بجمع الفولكلور الغنائي المؤدى بأصوات النسوة. يتقاطع الشاب مع تقاليد اجتماعية تمنع المرأة من الغناء العلني، لكنه يظفر بمغنية معروفة اعتزلت مهنتها وهربت من قريتها، لتنتهي سجينة في أحد المخافر. تذكرنا فكرة هذا الشريط بموضوع "الأرض الصفراء" للصيني تشان كايجه، حيث يرسل متطوع حزبي لجمع الفولكلور الغنائي للقرى النائية. ولئن غابت المرأة في شريط مازيار ميري، إلا في لقطاته الأخيرة وهي تسجل اغانيها خلف بوابات السجن، فإن سيدة السينما الإيرانية المخرجة رخشان بني اعتماد وضعت بطلتها "توبة" أمام مطالبات دوامة الصراع اليومي، وفي قلب شريطها "تحت جلد المدينة". توكيد هذا الحضور لم يأتِ تحت الزامات الحبكة السينمائية، بل أملته حقيقة حياتية لدور المرأة العاملة الطاغي في هذا البلد. يوميات "توبة"، العاملة في معمل للنسيج وكفاحها في تأمين مستلزمات عائلتها المعاشية، يضعها في تقاطع مع شرطها الاجتماعي القاسي. فقد ابتلت بزوج مقعد، وابنها الكبير عباس العامل في معمل للخياطة، لكنه من دون مهنة محددة، بينما يواصل ابنها الآخر وأخته الصغرى مراحلهما الدراسية، من دون امل في إنقاذ تلك العائلة من انسحاقها القدري. لكن حنو الأكبر عباس على أفراد عائلته لم يجنبه لوثة السفر الى الخارج، وبالفعل يقع ضحية نصب أحد المكاتب المختصة بتنظيم الهجرة الى اليابان. وينبش شريط "الجانب المخفي" لتهمينة ميلاني في الماضي الثوري القريب لبطلتها فروشته "نجمة السينما الإيرانية نيكي كريمي"، وعلى شكل وصية دستها في حقيبة سفر زوجها الحاكم لدى ديوان رئاسة الجمهورية. ومثلما أخفت تلك البطلة ماضيها وتضامنت مع الواقع نتيجة انكسار حلمها الثوري، فإن ثمة سجينة سياسية تستغيث بطلب الرحمة. لذا كان من الطبيعي ان تتعاطف تلك الشابة مع هذه السجينة، وتطلب من زوجها ان يقارب قضيتها بعيداً من الأحكام السابقة. لا يأتي الشريطان بجديد لمن عرف اشتغالات مخرجتيه، ولكن لا يمكن النظر إليهما من دون تأويلهما سياسياً وفي ضوء ما يحدث في إيران. ومثلما أخذ كل نصيبه من هذه الاحتفالية، فإن مفاجأة الدورة جسدها حضور الدكتور عطا الله مهاجراني وزير الثقافة والإرشاد السابق ومستشار رئيس الجمهورية، الذي كرمه المهرجان بجائزة كبرى. فما ان نودي عليه، حتى قابله الحضور بعاصفة تصفيق زادتها كلماته المنتقاة بذكاء عال. بعد تمنع، استجاب الدكتور مهاجراني اغراء المايكروفون، وجاءت كلماته لتصب في رحى صراع الأجنحة الدائر في ايران. فقد أعاب على ضيق افق السياسي والعسكر بالمثقف والمبدع في شكل خاص، وحسب قوله إن نتاج المبدع باق لأجيال مقبلة، في حين يقترن وجود رجال السلطة بظرف سياسي موقت. وضرب مثالاً لعلاقة ستالين بالمخرج الروسي ايزنشتاين. فالأول أراد ان يلغي صور تروتسكي من فيلمه "ثورة اكتوبر"، بينما أصر الثاني على أنه يرى الأمور بعين أخرى. وعد سيف الله داد جاء في مكانه وكانت خاتمة "مهرجان فجر" مسكاً ستذكر لاحقاً. لقطات - عرض شريط "مريم المقدسة" في فقرة "المسابقة الإيرانية" وضمن برنامج "السينما وحوار الحضارات". - كرم المهرجان المخرج اليوناني ثيو انجلوبولس جائزته الكبرى وتسلمها من علم السينما الإيرانية عباس كيارستمي. - خصص المهرجان فقرة لحياة شكسبير وأعماله الدرامية، وقدمت اقتباسات "ماكبث" معالجات سينمائية مختلفة لأورسون ويلز ورومان بولانسكي وترفور نان، وكذلك "هاملت" للورنس اوليفييه وفرانكو زيفيرلي وكينث برناه. - عرضت على هامش المهرجان أعمال الإيطالي روبرتو روسوليني، بينها "روما مدينة مفتوحة" و"رحلة الى إيطاليا". - خصصت فقرة لأعمال النجم الأميركي روبرت دي نيرو أطلق عليها "بطل لكل الأزمان".