إذا كانت التسعينات هو عقد السينما الآسيوية، فان لنتاجات "الجيل الخامس" في الصين وتجارب "الموجة الجديدة" الايرانية شرف التربع على رأس قائمتها. صحيح ان ثمة اختلافات جوهرية بين هاتين التجربتين تطاول ظروف الانتاج والتمويل والأنظمة الرقابية والعلاقة مع السوق المحلية والعالمية، إلا انهما تمكنتا من اختراق حواجز العزلة التي تفرضها قوانين السوق والعداء السياسي والايديولوجي. والفضل يعود الى جهد سينمائيي هذه البلدان في مقاربة موضوعات شديدة الخصوصية، الا انها تحمل في ثناياها نفحات انسانية وقيماً جمالية تتجاوز حدود محليتها. بالاضافة الى ما أثارته من اهتمام نقدي، بعيداً عن الاعتبارات والأحكام السياسية المسبقة، نجدها شكلت مادة اغراء لمشاهد أجنبي مختلف الذائقة وقليل الاكتراث. وضمن هذا السياق لا يمكننا ان نغفل دور العامل الثاني، الا وهو الدور المهم الذي لعبته المهرجانات السينمائية، خصوصاً تلك التي تجتهد في الانفتاح على نتاجات سينما العالم الثالث والتعريف بها. فالتنوع واللاتجانس، أحياناً، لم يفقدا هذه السينما بوصلتها الفنية، اذ راحت تقتفي حالات ومفردات يومية لتثبت ان النص السينمائي الذكي ما زال قادراً على تناول الحاضر المعيشي عبر الصورة. ولكن هل يكفي المقترب الانساني والقيم الجمالية ونجاح المهرجانات في استقدام هذه السينما لتثير كل هذا الاهتمام؟ وهل يمكن لسينما توظف رموزها المحلية ان تخترق حواجز السوق من دون مساومات كبيرة؟ ربما نجد في تناول تجربة السينما الايرانية ما يفيد في هذا الصدد. الولادة الثانية اذا صح القول ان قصة السينما في ايران عكست تقلبات السياسية وذبذبات السلطة في التعاطي معها، فانها أيضاً أرادت لنفسها منذ البداية التشبه بالسينما الهندية ومحاكاة منجزها. وبالفعل بعد محاولات متعثرة وركيكة، تمكن المخرج عبدالحسين سبانتا، المقيم في الهند آنذاك، من انتاج اول شريط سينمائي ناطق في عنوان "بنت اللور" 1933. وكان هذا الشريط واحداً من سلسلة أفلام مخصصة أساساً للسوق المحلية، وبه سجلت البداية الرسمية لولادة السينما في شكلها الحديث. وما يستحق الذكر ان عدد الاشرطة المنتجة بين 1930 و1936 كان تسعة أفلام خمسة، منها أنتجت في الهند. لكن هذه البداية سرعان ما تعثرت بفعل الأوضاع السياسية الداخلية ونظرة الريبة التي بادلها بها المجتمع، مروراً بمرحلة الركود التي سبقت ورافقت الحرب العالمية الثانية. نتاجات المرحلة التالية، الميلودرامية والكوميدية، كانت في معظمها سطحية وساذجة، وظلت على هذه الشاكلة على مدى العقود الثلاثة اللاحقة عدا بعض الاستثناءات القليلة. وعلى رغم ضعف هذه النتاجات الا انها أسست البنى التحتية للانتاج السينمائي التجاري، بما أطلقته من أسماء وصيغ سينمائية جاهزة. على رغم هذا كان ينبغي الانتظار حتى 1969 للخروج من ربقة تلك التقاليد، عندما أنجز داريوش مهرجوي شريط "البقرة"، والمقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لغلام حسين سعدي. وكان هذا الشريط الحجر الذي حرك الركود، اذ بشر بذائقة جديدة وواعدة، مما شكل علامة فارقة في تاريخ السينما الايرانية. واعتبره النقاد بمثابة الولادة الواعية الثانية، كونه تجرأ للمرة الاولى على وضع اصبعه على حالة اجتماعية تقبل التأويلات السياسية، من خلال متابعة يوميات قرية تبتلى بموت بقرتها الوحيدة وتدفع بصاحبها الى الجنون. ولعل حساسية الموضوع وواقعية طرح المخرج له، هي التي حدت بالشاه الى اصدار فرمان بمنعه من العرض، ومن ثم تراجع عن قراره بعد عام. النجاح النقدي لشريط مهرجوي، وحصوله على احدى جوائز مهرجان فينسيا، مهد لاحقاً الطريق لنتاجات أكثر جدية وأرقى نوعية. وكان من ثماره، أيضا، تحريض مجموعة من الشباب على مخالفة العرف السينمائي المؤسساتي لتلتف حول "جماعة السينمائيين التقدميين"، التي أرست رؤيتها الفنية وهاجسها الجمالي على قيم الخطاب السينمائي الفني المتمرد على صيغ الانتاج التجارية السائدة. ولهؤلاء اليوم موقعهم المهم في المشهد السينمائي الايراني، فبالاضافة الى مهرجوي نجد عباس كيارستمي صاحب الثلاثية الشهيرة "اين منزل صديقي" و"تستمر الحياة" و "خلال أشجار الزيتون" و"كلوز أب" و"طعم الكرز" الفائز بسعفة كان للعام 1997، وبهرام بيزائي باشو..... الغريب الصغير وباريز سعيد نهاية مميتة وأمير نادري الراكض وغبار... ريح... ماء. الرقابة السينمائية اشتغالات وهموم هذا الجيل ظلت ارهاصاتها حبيسة عوامل وظروف قاهرة وخارجة عن ارادته. فنظام الرقابة الصارم في زمن الشاه استبدلته الثورة الاسلامية بآخر أكثر تشدداً وحزماً، اذ اعتبرت السينما من الوسائل المروجة للفساد. وليس أدل على ذلك من هجوم المتعصبين على صناعة السينما، عبر اغلاق 180 دار عرض سينمائية وسحب 2200 شريط من السوق لاعادة فحصها وفق مواصفات رقابية لا ترحم، ولم يحصل الا 200 شريط على رخصة العرض بعد ان أزال منها مقص الرقيب ما لا يتماشى مع القوانين. فرض التوجه الرقابي الجديد على الشريط السينمائي ان يجتاز أربعة مراحل قبل وصوله الى المشاهد. تبدأ الأولى بفحص السيناريو، وتقوم الثانية على الموافقة على أسماء جميع المشتغلين في انتاج الفيلم. فاذا اجتاز النص هاتين المرحلتين يعرض الفيلم على جهاز الرقابة وفي حال الموافقة عليه، يصبح بالامكان طلب رخصة العرض. في حين تصنف هذه الرخصة على أساس ثلاث علامات، تسمح الأولى بان يحظى الشريط بجميع أمتيازات الدعاية في قنوات الاعلام الرسمية ويعرض في أرقى دور العرض. فبينما لا تمنحه الرخصة من النوع الثالث سوى اعتراف أقرب الى التجاهل، اذ لا تسبقه دعاية كافية، ولا يكون عرضه الا من نصيب دور السينما الثانوية. في غمرة هذا الخضم وبعد أقل من عام ونصف على نجاح الثورة الأسلامية، وجد المثقفون الايرانيون ومن بينهم المخرجون انفسهم محشورين في حدث قلب سلم أولياتهم. فقد شهد عقد الثمانينات تصاعد وطأة الحرب العراقية الايرانية، فسخرت السينما لمهمة واحدة دون سواها، تعبئة المجتمع والرأي العام ضد العدو وراء الحدود. وتكرست خلال هذه الفترة ثلاثة تيارات سينمائية يمكن تصنيف وإقتفاء منجزها الفني، وتوزعت بين ما هو ديني، وما هو دعائي حربي يرصد يوميات المقاتلين وينسج على قصص بطولاتهم خلف خطوط النار لالهاب الحماس الجماهيري من جهة، ولفضح العدوان الذي تتعرض له الجمهورية الأسلامية من جهة ثانية. ويذكر ان القيادة العراقية، بالمقابل، لم تتوان عن ارسال الكتاب والفنانين الى جبهات القتال من أجل استلهام بطولات الجنود وعكسها في روايات وقصص وقصائد، عرفت في ما بعد بأدب الحرب. أما التيار الثالث فقد أكتفى بالهامش المتاح، حيث كان شاغله الأبداعي يستمد مصادره من تقاليد التجريب الفني. المرأة في السينما الايرانية بقدر ما كرست السينما الايرانية صورة الطفولة، اذ أصبحت علامة مميزة لمعظم نتاجاتها، فأنها كما يبدو أرادت من هذا التوظيف انقاذ نفسها من مقص الرقيب الجاهز والعمل ضمن حيز المأمون من دون ان تجازف في تناول قضايا المرأة والعلاقات العاطفية. إذ ان الرقيب كان واضحاً في التعامل مع الصورة التي لا تستوفي الشروط والمواصفات الرقابية، فلا يجوز اظهار الممثلات من دون حجاب، ولا يسمح للبطل بملامسة الممثلة او الاقتراب منها، خصوصاً اذا كانت غير زوجته، بما يثير حفيظة التأويلات الأخلاقية ويمس المحرمات الدينية. وعلى رغم هذا لم تعدم السينما الايرانية في هذه الفترة من تجارب جريئة، خصوصاً تلك التي خاضتها مخرجات من أمثال رخشان بني اعتماد: "خارج الحدود" 1988 "عملة صعبة" 1990 و"نرجس" 1992 و"الحجاب الأزرق" 1995 و"سيدة شهر مايو" 1998 ومرضية بورماند وبوران دراخشانده: "طير السعادة الصغير" 1988 و"الوقت الضائع" 1990 و"المرور عبر الضباب" 1990 وتهمينة ميلاني"أطفال الطلاق" 1990 و"أسطورة الأه" 1991 و"ماهو الجديد؟" 1992 و"كاكادو" 1995، وياسمين مالك ناصر: "مصير عام" 1995. عالجت هذه التجارب قضايا المرأة من زوايا ووجهات نظر نسوية خالفت، من جهة، النظرة السائدة الى المرأة كطرف سلبي تابع لقدرية التقاليد وسطوة الرجل. وأندرجت من جهة ثانية، ضمن سياق التفهم الواعي لأصول لعبة التحدي، ولو بشكل غير معلن، لقواعد الرقابة الصارمة. فاذا كان العمل الأخراجي الأول لشهلا ريحاني وهي القادمة من عالم التمثيل عبر شريطها "مرجان" 1956، فتح الباب لمحاولات أكثر نضجاً. فان التجربة اليتيمة والرائدة لفوروح فاروخزاد عبر شريطها الوثائقي "بيت أسود" 1962، تناولت موضوعاً عاماً يدور حول مستعمرات الجذام وباسلوب شاعري، جاء ليعمق هذا الاتجاه. وليصبح على يد سيدة السينما الايرانية المخرجة رخشان بني اعتماد أكثر اكتمالاً وحضوراً، خصوصاً في شريطها "سيدة شهر مايو"، اذ قاربت قضية المرأة في مدينة كبيرة مثل طهران. من خلال قصة مخرجة في منتصف العمر، تتنكب لعمل شريط سينمائي شخصي حول فكرة الرجل المثالي، فتطرح السؤال على مجموعة من النساء، من خلفيات ومواقع اجتماعية متباينة، لكنها تتوقف عن بحثها بعدما دخل في حياتها رجل لا نراه في الصورة، الا اننا نستدل على وجوده من ردود الفعل العنيفة لأبنها الوحيد تجاه من صار ينازعه الاستحواذ على حب الأم. عدا هذا لا يمكن للمتتبع ان يتجاهل أشتغالات المخرجين الذين أنصفوا المرأة في أعمالهم السينمائية من أمثال، مهرجوي في "سارة" ومخملباف في "كبة" و"الممثل" وكياروستمي في "خلال أشجار الزيتون". النجومية من المعروف ان النجومية في السينما هي للممثل وليست للمخرج، وفي سياق حديثنا هذا، فان هناك الكثير مما يقال عن خصوصية النجم او النجمة في السينما الايرانية. فبينما تصبح الحياة الخاصة والعامة للنجمة في السينما العالمية، خصوصاً السينما الاميركية، موضوعاً شاغلاً لوسائل الأعلام للمعجبين والمقلدين من الجمهور، فان الممثلة في ايران قلبت هذا العرف الاستهلاكي والفضائحي أحياناً، وخلعت عن نفسها هالة النجومية لتكتفي بكونها فرداً عادياً في مجتمع لا يعترف بالنخبوية ولا يُقدس النجوم. فالنجمة السينمائية في ايران هي واحدة من سواد عام، إذ نجدها متظاهرة في الشوارع لاستقبال فريق كرة القدم الوطني عند تأهله لكأس العالم، مثل الممثلة الشابة نيكي كريمي. او نراها، كما في حالة الممثلة فاطمة معتمد- آريا، حريصة على الحضور بين الجمهور لمشاهدة فيلم سينمائي جديد. وأبدت الممثلة نفسها، في حديث مع كاتب هذه السطور عن حال السينما العربية، اندهاشها من ظاهرة الحجاب في السينما المصرية التي أدت الى اعتكاف الكثير من الممثلات في بيوتهن وترك هذه المهنة. مؤسسة الفارابي منذ بدايتها تضافرت للسينما الايرانية ثلاثة عوامل أخرجتها من سباتها: الأول هو منع استراد الأفلام الأجنبية، وكان لذلك نتائج أيجابية على الصناعة السينمائية نلمسها اليوم. مقابل هذا كان على القائمين على الشأن السينمائي التفكير بسد حاجات السوق المحلية، خصوصاً اذا عرفنا ان الشعب الايراني من الشعوب المحبة لهذا الفن، وان هناك أكثر من 280 دار عرض سينمائية موزعة على عموم ايران، من بينها 76 دار عرض في العاصمة. ولتلبية حاجات هذه السوق ضد السوق السينمائي الرائج، صارت ايران تنتج سنوياً بين 60 الى 70 شريطاً سينمائياً. ولا شك ان الغزارة النسبية للأشرطة المنتجة محلياً أفرزت بدورها عينات نوعية هي التي شغلت المشهد السينمائي المحلي والعالمي في السنوات القليلة الماضية. ثانياً: الدور المهم الذي لعبته مؤسسة "الفارابي" في دعم الانتاج السينمائي وفسح المجال أمام أسماء جديدة تدخل الى عالم السينما للمرة الاولى، فمنذ تأسيسها في العام 1983، عملت هذه المؤسسة جاهدة لدفع عجلة العمل السينمائي خطوات متقدمة، وكان من ثمارها تنظيم مهرجان "فجر" السينمائي سنوياً، يترافق مع الذكرى السنوية للثورة الايرانية. وتنظيم مهرجان آخر لا يقل عنه أهمية في مدينة أصفهان، وموضوعه مخصص لأفلام الأطفال. أما العامل الثالث، فهو شخصيات متفتحة من أمثال السيد محمد بهشتي ومن بعده السيد محمد خاتمي، رئيس الجمهورية الحالي، من خلال وزراة الثقافة والأرشاد الأسلامي. وتعزز هذا المنحى عندما تولى المخرج سيف الله داد رئاسة مهرجان طهران السينمائي الدولي.