لا ينتهي الجدل حول أدونيس حتى يبدأ، في منعطف الانتقال من قرن الى آخر، لمراجعة الموقع الصحيح الذي يحتله هذا الشاعر وخطابه الذي جرى اعتباره في العرف العام الرائد والزعيم للحداثة الشعرية العربية. في العام 2000 صدر كتابان عن المركز الثقافي العربي، هما: "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية" لعبدالله الغذامي، و"مشكاة المفاهيم: النقد المعرفي والمثاقفة" لمحمد مفتاح. يتقاطع هذان الكتابان في نقاط، ويتفارقان في نقاط أخرى. فكلاهما يدعو الى نقد جديد يسميه الغذامي "النقد الثقافي"، ويسميه محمد مفتاح "النقد المعرفي". الأول يأتي في أعقاب اعلان الغذامي "موت النقد الأدبي" الذي عمق فينا، بحسب قول الغذامي، حالة "العمى الثقافي" عن العيوب الثقافية النسقية المتسربة من تحت عباءة الشعريات والجماليات. أما "النقد المعرفي" فإنه يأتي في سياق البحث عن مفاهيم جديدة لمقاربة موضوع "المثاقفة" والتفاعل الثقافي بين الحضارات. ومن الواضح ان كلا النقدين، الثقافي والمعرفي، يهتم أساساً بما هو ثقافي في النصوص، الأدبية لدى مفتاح، والثقافية لدى الغذامي. كما ان كلا النقدين يبتكر له مفاهيم جديدة تعبر عند الاثنين عن ضرورة احداث نقلة "اصطلاحية" للأداة النقدية عند الغذامي، ونحت مفاهيم معرفية على شاكلة "التناص" الثقافي، والمضاهاة بين التفاعل الثقافي والتفاعل النصوصي لدى مفتاح. في ما سبق يتمثل ما هو قاسم مشترك بين الكتابين وبين النقدين، غير ان السبل ما تلبث أن تفترق بين الكتابين والنقدين. ويمثل الموقف من أدونيس وشعره المفصل الأهم في لحظة الافتراق هذه. لقد كان أدونيس حاضراً في كلا النقدين، الثقافي والمعرفي، ليعطي لكلا النقدين صدقيتهما وجدارتهما. فالغذامي كان قد أعلن منذ البدء أن في الشعر العربي عيوباً نسقية ظلت تتنامى متقنعة بالجمالي والبلاغي، حتى صارت نموذجاً سلوكياً يتحكم فينا ذهنياً وعملياً. ويذهب الغذامي الى القول إن الشعر، ديوان العرب ومنتهى علومهم، هو مصدر الخلل النسقي في الثقافة العربية، "وما يتراءى جمالياً وحداثياً في مقياس الدرس الأدبي هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي ... وكل دعاوى أدونيس في الحداثة سيتضح لنا انها خطاب لفظي لا يؤدي إلا الى مزيد من النسقية والرجعية". وتتمثل حداثة أدونيس الرجعية، من منظور النقد الثقافي، في نخبويته وفحوليته وما تتضمنه من تعالي الذات ومطلقيتها، وإلغاء الآخر والمختلف، وفي لا عقلانيتها، أو ما يسميه الغذامي ب"الخطاب السحراني"، وفي شكلانيتها التي تمس اللفظ والتركيب اللغوي، في حين يبقى النسق الفحولي/ التفحيلي هو الجوهر الكامن تحت غرض الحداثة الشكلانية الخلابة. في مقابل ما توصل اليه النقد الثقافي لدى الغذامي، كان النقد المعرفي لدى مفتاح يقدم قراءة مغايرة عن أدونيس وحداثته التي أعاد مفتاح تصنيفها لتندرج في "ما بعد الحداثة" هذه المرة. ان حضور أدونيس في نقد مفتاح المعرفي حضور عرضي، في حين ان هذا الحضور موضوع جوهري في نقد الغذامي الثقافي، بدليل ان الغذامي نشر، بعد النقد الثقافي، سلسلة مقالات في "الحياة" ملحق "آفاق" وصل بها ما انتهى في النقد الثقافي، وتنصبّ على الاجابة عن سؤال "هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟". أما حضور أدونيس في محمد مفتاح فقد كان بهدف البرهنة على الأطروحات التي قدمها في مدخل كتابه عن تحول الخيال وتبدله في حقب ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة. وبما ان أدونيس، بحسب قول مفتاح، ينتمي الى ما بعد الحداثة بمفارقاتها وأطروحاتها، فقد كان شعره هو النموذج الأبرز على خيال ما بعد الحداثة العربية. ومن المؤكد أن تصنيف حداثة أدونيس في خيال ما بعد الحداثة لدى مفتاح انما يتأتى من فهم هذا الأخير لخيال ما بعد الحداثة الذي يقوم، من منظوره، على اللاانسجام واللاتناغم واللاتناسب، فكل ما هنالك "تشظيات وفوضى ومتاهات وغيرها مما هو متداول في أدبيات ما بعد الحداثة الغربية"، وهو ما يظهر في شعر أدونيس بامتياز لا يضاهيه فيه أحد. فشعر أدونيس يتأسس على التشظي الحاد، والمفارقات المتكاثرة على مستوى "اللغة والحقيقة والخيال والتاريخ والنص والشكل". لا يختلف كل من الغذامي ومفتاح في توصيف شعر أدونيس، بل انهما يتفقان في كثير من هذا التوصيف. فحداثة أدونيس، من منظور الغذامي، حداثة شكلانية تعنى باللفظ وتشظي التركيب والصورة، وسحرانية تحول النص الى نص سديمي وعبثي ومناف للمنطقي والعقلاني ومشحون بالغرائبي والخوارقي. وهو التوصيف ذاته الذي قدمه مفتاح بألفاظ متقاربة. فنصوص أدونيس، من منظور مفتاح، مرايا متكسرة ومشوهة ومتشظية لعالم هو بذاته سديم وهباء وفوضى، وان التعبير عن هذا العالم "يكون بما يشبه السديم والهباء والفوضى، انه التعبير بالمناقب والكرامات والخوارق والغرائب والعجائب من جهة المضمون، والتعبير بالكتابة والإخراج من حيث الشكل: تشتتات وتداخلات وتراكمات واختلاف في أحجام الحروف". لماذا تختلف نتائج قراءة النقد الثقافي عن قراءة النقد المعرفي لحداثة أدونيس؟ لماذا انتهت القراءتان الى نتائج متعارضة في الوقت الذي تشترك فيه هاتان القراءتان في التوصيف؟ ان الغذامي يقرأ الشعر ذاته الذي يقرأه مفتاح، ومع ذلك ينتهي الأول الى القول إن حداثة أدونيس "حداثة رجعية"، في حين يذهب الثاني الى القول إن خيال أدونيس خيال "ما بعد حداثي". يصعب علينا ان نحدد أين يقع أدونيس على وجه الدقة، ففي نصوصه كثير من الحداثة بمعناها الريادي المناهض للأشكال التقليدية، وكثير مما قبل الحداثة وما بعدها، لكن الذي يعنينا هنا هو الإجابة عن تلك الأسئلة السابقة: كيف اعتبر الغذامي أدونيس "حداثياً رجعياً"، في حين اعتبره مفتاح "ما بعد حداثي"؟ أتصور ان السبب يكمن في المنطلقات النظرية والإجرائية لكل من "النقد الثقافي" و"النقد المعرفي". ففي الوقت الذي ينتسب نقد مفتاح المعرفي الى شجرة المنطق والرياضيات واللسانيات والسيمائىات والعلوم المعرفية وفلسفة الذهن، فإن نقد الغذامي المعرفي يضرب في ذاكرة منهجية ونظرياتية تتضمن الدراسات الثقافية والنقد الثقافي والمؤسساتي والمدني والتاريخانية الجديدة والتعددية الثقافية وما بعد الحداثة. هذا التفارق التأسيسي والمبدئي بين ذاكرة النقد الثقافي وأصول النقد المعرفي هو السبب الجوهري وراء اختلاف الرؤية والموقف من "حداثة أدونيس". فذاكرة "النقد الثقافي" تهجس كثيراً بما يتجاوز النص أو يتلبسه من عيوب نسقية، أو تنكرات ايديولوجية، أو قوة متقنعة. في حين ان ذاكرة "النقد المعرفي" شديدة الصرامة في تقسيماتها وتفريعاتها وتجريديتها. وسنتتبع افتراق السبل بين النقدين لننظر في تصور كل من الغذامي ومفتاح لقاسم مشترك في كل من ذاكرة النقدين، وهو "ما بعد الحداثة". تختلف مرجعية ما بعد الحداثة التي تشكل تصور محمد مفتاح عن الخيال ما بعد الحداثي عن مرجعية الغذامي ما بعد الحداثية. فمرجعية مفتاح تدين بالكثير الى تنظيرات الناقد الأميركي المصري الأصل ايهاب حسن. ففي سلسلة مقالات ودراسات كتبها ايهاب حسن، استطاع ان يبلو، في السبعينات والثمانينات، تصوراً متميزاً لما بعد الحداثة في الفن والأدب والنقد والثقافة. وفي كثير من المناسبات كان ايهاب حسن يقدم جردته المعروفة للتناقضات المتقابلة بين الحداثة وما بعد الحداثة. فإذا كانت الحداثة تتميز ب"الشكل المتماسك والمغلق، والنظام والاتقان، والعقلانية، والحضور، والتجميع، والحسم والسمو..."، فإن ما بعد الحداثة تتميز بما هو نقيض لما سبق، حيث تجد "الشكل المضاد المفكك والمفتوح، والفوضى والتشظي، والإرهاق والصمت والسحرانية، والغياب، والتفريق، والسخرية واللاحسم...". يتعارض هذا التصور لما بعد الحداثة مع تصور الغذامي الذي يتبنى مرجعية مختلفة ينقلها من خلال كلنر في كتابه "ثقافة الميديا" وبولين ماري روزينو في كتابها "ما بعد الحداثة والعلوم الاجتماعية". وينطلق هذا التصور من اعتبار ما بعد الحداثة رد فعل على اخفاقات المشروع الحداثي المفرط في تفاؤله بالعلم الحديث وفي نفيه لكل ما هو عرفي وشعبي وقدسي. وعلى هذا، فإن ما بعد الحداثة، بحسب هذا التصور، تعيد الاعتبار لكل ما هو عرفي وشعبي وقدسي وروحي وخصوصي ولا عقلاني... وهذا تصور يقع على الضد من تصور مفتاح في النقد المعرفي. فهذا الأخير يأخذ بالتصور الايهابي الحدي والريادي والقطعي في فهم ما بعد الحداثة، في حين يأخذ الغذامي بفهم أرحب وأكثر حرية وديموقراطية وانسانية، اذ يقوم هذا الفهم على "نظريات المزاوجة" في ما بعد الحداثة، والتي يعد شارلز جنكس أبرز منظريها. من هنا، فإن ما بعد الحداثة، من منظور مفتاح، تمثل حالة أو وضعية مستقلة وفريدة ومتمايزة عن كل الأشكال والحالات السابقة في الحداثة وما قبلها، في حين أن ما بعد الحداثة، في تصور الغذامي، حالة أو وضعية تجتمع فيها الطرز والأنماط والنظريات والأعراق والأجناس والطبقات، انها حالة من الجمع بين ما هو حداثي وما هو تقليدي، وبين ما هو نخبوي وما هو شعبي، وبين ما هو تقني وما هو قدسي روحي. وهذه المزاوجة والجمع هو ما يقرب هذا التصور الذي يتبناه الغذامي من مفهوم الهجنة والتهجين Hybridity الذي تشكل في نظرة ما بعد الكولونيالية لدى ادوارد سعيد وهومي بابا. فمفهوم الهجنة بمثابة سرد مضاد لسرد الامبريالية المغلق والمكتمل والمهيمن على جملة السرود المحلية. انه قوة تخريب لسرد الاستعمار المهم لسرود الثقافات المحلية، وهو هدم لأوهام النقاء والصفاء العرقي والديني واللغوي، حيث الثقافة كائن هجين، وبمقدار هجنتها يكون ثراؤها. قاد هذا التفارق بين مرجعية/ ذاكرة كل من النقد الثقافي والنقد المعرفي، الى اختلاف كبير في الموقف من أدونيس، وفي تصنيفه كرجعي ما قبل حداثي أو ما بعد حداثي. فالأخذ بمرجعية ما بعد الحداثة الريادية الطليعية لدى ايهاب حسن يقود حتماً الى الحكم على شعر أدونيس بأنه شعر ما بعد حداثي. ولا داعي لأن ندلل على ذلك باعادة ما سبق، فالتشابه بين سمات ما بعد الحداثة وسمات شعر أدونيس بحسب توصيف محمد مفتاح يكاد يكون تشابهاً تاماً. غير ان الأخذ بالفهم الأرحب والأكثر تعددية وانفتاحاً لما بعد الحداثة، سيتوقف كثيراً في وصف شعر أدونيس بما بعد الحداثي. لقد استخلص الغذامي السمات التالية لنموذج أدونيس الشعري: مضاد للمنطقي والعقلاني، مضاد للمعنى ويعتمد على اللفظ، نخبوي غير شعبي، منفصل عن الواقع ومتعال عليه، لا تاريخي، فردي ومناوئ للآخر، هو خلاصة كونية متعالية وذاتية، يعتمد احلال فحل محل آخر، سحري. تكاد هذه السمات أيضاً ان تكون من مستخلصات جردة ايهاب حسن. فما بعد الحداثة، من منظور هذا الأخير، تتميز بالعبث والفوضى واللاعقلانية واللامنطقية والذاتية وتُعنى بالدال اللفظ على حساب المدلول المعنى. غير ان هذه السمات سمات النموذج الحداثي/ ما قبل الحداثي بحسب تصور الغذامي في النقد الثقافي. واللافت في مستخلص الغذامي وجردة ايهاب حسن انهما يختلفان في سمة مهمة وخطيرة في نقد الغذامي الثقافي، وهي سمة الذكورة والتخنث. فايهاب حسن يرى ان الفن ما بعد الحداثي فن متعدد الاشكال/ مخنث/ هجين، في حين ان الحداثة فن تناسلي/ ذكوري أو فحولي بتعبيرات الغذامي. وهكذا، ففي الوقت الذي يعد ايهاب حسن سمة الذكورة من سمات الحداثة، يعدها الغذامي من سمات الرجعية وما قبل الحداثة، وهذه السمة هي أهم روافد قول الغذامي برجعية حداثة أدونيس. فخطاب هذا الأخير يمثل، من منظور النقد الثقافي، حالة اجهاض آثمة لما "بدأته حركة الشعر الحر، وما بشرت به من تحرير للخطاب النسقي، وتأس لعقلية مختلفة في الفهم والتصور والتعبير، يأخذ بالبعد الانساني والتعدد والمختلف والمهمش والتأنيثي"، وهذا على خلاف ما أنجزته "حداثة" أدونيس من امعان في الفحولة والشكلانية والسحرانية والنخبوية. بعد كل هذا، هل يمكننا القول ان الجدل حول أدونيس في طور احتضاره أم انه سوف ينتهي في المستقبل القريب؟ هل الجدل حول تصنيف أدونيس رجعياً أو حداثياً أو ما بعد حداثي يمثل نهاية الجدل حوله ام انه بداية الاختلاف فيه؟ يصعب الإدلاء بإجابة في هذا الشأن، لكن ما يعتمل في النقد العربي من انقطاعات، تذهب صوب النقد الثقافي بقوة، سيغير مسار الجدل حول ادونيس بصورة جذرية. وأتصور ان خطاب أدونيس، الشعري والنقدي، سيمر بمرحلة حرجة جداً، خصوصاً اذا ما تعمقت الممارسة النقد - ثقافية في النقد العربي الحديث. فهذه الممارسات انما تعنى بما وراء وتحت أدبية النص وجمالياته وعيوبه الثقافية النسقية التي تتقنع بقشور البلاغة والمجازر. وما نقد الغذامي الثقافي الا بداية السيل الذي سيحفر المجرى في المستقبل القريب لهذا النوع من الممارسات. وعلى خلاف من توهم ان في اتخاذ الغذامي للنقد الثقافي عودة الى الأصول أو رجعة الى "أصولية اسلامية" أو غير ذلك، فإنني أرى ان نقد الغذامي الثقافي مشروع جديد سيعيد مرة أخرى طرح سؤال العلاقة بين النقد والإبداع في الثقافة العربية الحديثة. ففي الوقت الذي أيقن فيه الجميع أن النقد انعزل وانسحب من الحياة الاجتماعية والابداعية، وانزوى في تخصص أكاديمي وبارد ومتعال على الابداع الراهن وعن ما يعتمل في الحياة الاجتماعية والثقافية، في هذا الوقت يأتي النقد الثقافي ليخترق هذا الاجماع والصمت والانزواء والانكفاء. وهو ما يعني اننا على مشارف طرح جديد سيعيد للنقد حيويته ومسؤوليته وتورطه بالعالم والواقع، وسيمثل، اذا استخدمنا تعبيرات ادوارد سعيد، حركة تدخلية جسورة ستقطع، بحسم واصرار، مع انكفاء النقد الأكاديمي وعزوفه عن الدنيا والعالم، وضياعه في تيه "النصية" والجمالية. وسيفتح هذا النقد ملفات التورط الآثم والخفي بين النقد الثمانيني وبين الابداع، وسيسأل أسئلة من نوع: لماذا ازدهر الأدب الحداثي الطليعي الذي يمثله أدونيس في مرحلة المد النصوصي البنيوي وما بعده؟ لماذا انحسر الابداع بتنويعاته الايديولوجية الملتزمة، والتقليدية المحافظة، والشعر الحر المفتوح، في ظل هيمنة امبريالية النصوصية؟ وسيعيد هذا النقد للوعي النقدي أهميته من حيث هو، كما يكتب ادوارد سعيد، "جزء من عالمه الاجتماعي والفعلي، وجزء من تلك الكتلة الواقعية التي يستوطنها الوعي، وليس له بحال من الأحوال أي مهرب لا من هذا ولا من ذلك". والمستقبل القريب كفيل بأن يثبت استشرافاتنا هذه أو ينفيها، فلننتظر إذاً! * كاتب بحريني.