مشغولاً بقراءات نقدية "فريدة"، وبمؤلفات قلما اكتفت دور النشر بطبعة "يتيمة" لها منذ "الخطيئة والتكفير" - جدة 1985، وحتى "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية" الصادر عن المركز الثقافي العربي للعام 2000، انه عبدالله محمد الغذامي الذي يتكئ مقاربات بلغت في مدى خمسة عشر عاماً، أربعة عشر مؤلفاً تطرح أسئلتها في "المسكوت عنه" و"المغيَّب" و"المسلَّم به"، بعيداً عن طمأنة القارئ والناقد والوصول بهما الى يقينات لا تُجادل. فعبدالله محمد الغذامي الناقد تميزه بصيرة "إشكالية"، "ديالكتيكية" تطمح الى أن يبقى الجدل مفتوح الأفق ولا ينغلق على بديهيات قدسية لا تمس، ولا تحاور، ولا تنقض. فالغذامي يفتح الثغرات في الثقافة العربية، ويعدد منافذ العبور الى القديم القديم لقراءته بأدوات حديثة حديثة تجمع بين التراث "الطوطم"، وهتك المستسلم منه ليقينه وعراقته. ومن الأسئلة التي يطرحها الغذامي وهي أسئلة الصدم والتضاد في كتابه "النقد الثقافي": "هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ وهل جنى الشعر العربي على الشخصية العربية؟ وهل هناك علاقة بين اختراع الفحل الشعري وصناعة الطاغية؟ وهل في ديوان العرب أشياء أخرى غير الجماليات التي وقفنا عندها لمدة قرون؟ وهل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر لتؤسس لسلوك غير انساني وغير ديموقراطي، وكانت فكرة الفحل وراء ترسيخها؟ وهل للنقد الثقافي كبديل عن النقد الأدبي أن يكشف لنا عمّا ظللنا في عمىً عنه؟". وإذ اختار الغذامي لوحة الغلاف من منحوتة لجياكوميتي هي "الأنف" فكأنه بذلك يحاول استنشاق العفن الذي يسدّ المنخرين، ويمنع الهواء عن رئتي القارىء، ويحرمه لذة النَفَس البكر وغير الملوث، وكأن النصوص الغابرة والمغبرة الى جانب قراءاتها "المتعفنة" هي التي تحول بيننا وبين ماضينا لنرى إما الى اشراقه وإما الى عتمته وظلماته. غير ان الهدف الذي يسعى الغذامي اليه لا يقوم إلاّ بإعلان موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، لأن خطابنا المنشغل بالحداثة وتعريفاتها لا يزال خطاباً لفظياً لا يؤدي إلا الى مزيد من النسقية والرجعية المتمثلة قديماً في خطابي أبي تمام والمتنبي، وحديثاً في خطابي نزار قباني وأدونيس. ومما يشير اليه الغذامي اسهام ميشال فوكو في تأسيس وعي نظري في نقد الخطابات الثقافية والأنساق الذهنية بدلاً من الوقوف على مجرد حجر جماليتها، أو شعريتها أو أدبيتها، لأن الالتزام "المفهومي" بسلطة النقد "وتسلطه" حَرَمَ هذا الأخير من القدرة على معرفة عيوب الخطاب، ومن فضح ألاعيب المؤسسة الثقافية وحيلها في خلق حال من التدجين، والترويض العقلي والذوقي لدى مستهلكي الثقافة وما يسمى بالفنون الراقية والأدب الرفيع. فالدراسات الثقافية تتساءل عن مدى هيمنة الأنماط علينا، وعمّا إذا كنا قادرين على تعديل وجهة هذا الفعل المهيمن ومساءلته ان لم يكن نقضه. فالأبحاث الثقافية بدأت تغطي مساحة عريضة من الاهتمام اليوم، وقد حظيت بشيوع واسع في التسعينات، مع انها ابتدأت منذ العام 1964 مع مجموعة بيرمنجهام متصاحبة مع النظريات النقدية النصوصية والألسنية وتحولات ما بعد البنيوية. وقد صارت هذه الدراسات تهتم بالمهمل، والمهمش، والنقد النسوي، والتعددية الثقافية أي صار همها الى جانب نقد "أنماط الثقافة" الانصراف الى نقد "ثقافة الوسائل"، وتصنيع التلقي، حيث تجري عمليات تسليع الثقافة لدمج الناس في مستوى واحد، وتعميم هذا النموذج مما يحقق تبريراً ايديولوجياً لمصلحة الهيمنة الرأسمالية، واقحام الجماهير في شبكة الثقافة العمومية المنمطة. فطالما كانت الهيمنة الرأسمالية تسعى لمزج عناصر الثقافة وعناصر السلطة صار هم النقد الثقافي التفريق بين ثلاثة أنواع لقراءة الرفض أو المقاومة، وقراءة التحاور، وقراءة "حضارة العين"، بوصف العين أداة الاستقبال التي يجري التركيز عليها تركيزاً يكاد يلغي الحواس الأخرى، ويحصر تلقي العالم عبر حس واحد دون سواه. وهكذا صار النقد الثقافي ينفتح على الجمالي وغير الجمالي من أنظمة الخطاب كما هي عند بارت ودريدا وفوكو، أي عند بارت الذي عمل على مفاتيح التشريح النصوصي، ودريدا الذي قرر ان لا شيء يقع خارج النص، وكانت مقولته بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي وميشال فوكو في حفرياته المعرفية وطبقات تشكلها. وإذ استند النقد الثقافي الى نظريات النقد النصوصي، فإنه راح يصب عنايته على التحول من نقد النصوص الى نقد المؤسسة، وهذا ما فعله ديللوز، وليوتار، وليتش وبودريار الذي سأل: هل التكنولوجيا ضد الإنسان؟ وكانت "النعم" جوابه، وكان وصفه لأميركا وهيمنة مؤسساتها الثقافية ومناهجها النمطية "بأنها صحراء من اللامعنى" حتى ولو كان خطابها هو خطاب التعدد الثقافي، فإنه يبقى خطاب "اللاهوية"، بل قل انه "موزاييك الهويات" اللقيطة، والملونة، الذي يعد بالمساواة والحرية، وكلاهما وعد لم يتحقق في "أمة الأمم". وبدأت أسئلة ما بعد الحداثة تنصب على مسلّمات الحداثة وثورتها الصناعية والتقنية التي حقّرت الريفي، والفطري، والقدسي، واللاعقلاني، والوجداني والميتافيزيقي. وكان من مساوىء الحداثة ترسيخها لمفهوم "المركزية الثقافية" حيث جعلت العالم يدور في قطب واحد، وكل ما عدا ذلك فهو بدائي ومتخلف. كما رسخت الحداثة قيمة مطلقة لمفهوم "الليبرالية" ومفهوم "العقلانية" حيث جعلت من ثقافتها "ثقافة ذكورية بيضاء وغربية" ذات نظرة أحادية استعلائية. غير ان السؤال الذي يثيره عبدالله الغذامي المعني بإحلال النقد الثقافي محل النقد الأدبي هو كيف يمكن احضار ثقافتنا العربية المهمشة الى المتن الثقافي العالمي؟ وكيف يمكن المقاربة بين جسدها "المريض" وجسد ادوارد سعيد الممدد على سرير العلاج الكيماوي من مرض اللوكيميا، حيث كان طبيبه هندياً في مستشفى يهودي في نيويورك، ومساعد الطبيب من الهنود الأميركيين الأصليين، وفريق ممرضات ايرلنديات، بينما المريض مهاجر فلسطيني!! وهكذا جرى التعامل مع "ألف ليلة وليلة" التي اعتبرت مما لا يليق إلاّ بالصبيان والنساء وضعاف النفوس. وهو كتاب على عكس "كليلة ودمنة" الذي ينتسب الى فحل من فحول الخطاب الثقافي، كما انه كتاب موجه للملوك والعقلاء لما ينطوي عليه من حكمة وتثقيف: "بعيداً عن متعة السفهاء والمحتقرين كما في ألف ليلة وليلة". ومن المستنتج ان المستوى الشعبي يصير السفيه والحقير والمهمل، في حين ان المستوى الرسمي يصير الفحل والعاقل والحكيم، وهذا ما جعل الفعل النقدي يدور حول دوائره الرسمية/ النسقية من دون كشف عيوب خطابها، لأن ما كان جميلاً في نظر النقد القديم ومؤسساته لا بدّ من أن يبقى جميلاً في النقد الحديث ومؤسساته. هذه المؤسسة الجمالية المتعالية هي التي جعلت من أبي تمام والمتنبي فحلين سامقين قديماً، ومن نزار قباني وأدونيس رائدين تقدميين حديثاً على رغم رجعيتهم جميعاً، كما يرى عبدالله الغذامي. وإذ يخرج عبدالله الغذامي من أُطر الجماليات القديمة فإنه يدعو الى قراءة القبحيات وتعليلها، ساعياً الى تحرير المصطلح من قيده المؤسساتي الذي هو الشرط الأول لتحرير الأداة النقدية، مذ كان الارتباط بين الاثنين أزلياً. ولما كان الغذامي يرى ان النص "حادثة ثقافية"، فإنه يدعو الى تحويل النقد من علم البلاغة الى قراءة الدلالات النسقية ذات الأبعاد الثقافية، بعيداً عن اعتبار الثقافة حزمة من أنماط السلوك والأعراف والعادات والتقاليد، لأن الثقافة ليست "الطبخة الجاهزة" التي تشبه ما يسمى بالبرامج في علم الحاسوب، ومهمتها التحكم بالسلوك، وكأن لثقافتنا جبروتاً كلّياً وجماعياً هو جبروت التاريخي والأزلي والراسخ. حداثة شعرية وإذ بقيت حداثتنا العربية حداثة شعرية، فإن الشعر بقي هو نفسه "العائق التحديثي" الذي لم يؤثر لا في الفكر ولا في السياسة ولا في الاقتصاد" وكأن العرب هم "كائنات شعرية" تنتج طاغيتها الذي هو فحل الفحول، كما كان المتنبي الذي قررت الثقافة انه مبدع عظيم من دون أن تسأل إذا كان "شحاذاً عظيماً"؟ فحيث يفرّق أبو حيان التوحيدي بين الشعر والنثر، فيشبه النثر بالسيدة الحرّة، بينما الشعر هو أمَة مملوكة، ويجعل مصدر النثر العقل، بينما الشعر مصدره الحس، ولذا دخلت الى الشعر آفة التكسب والكذب التي قال عنها التوحيدي في "الامتاع والمؤانسة": "لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفة أو وزير أو أمير باسط اليد، ممدو الكف، يستعطف طالباً، ويسترحم سائلاً، هذا مع الذلة والهوان، والخوف من الخيبة والحرمان". غير ان الغذامي الذي يستشهد بالتوحيدي يعود ليسأل: هل لنا أن نطمئن الى ان النثر يختلف عن الشعر وانه خطاب حر وعقلاني؟ ومما يجيب به الغذامي ان الكتابة التي ابتدأت بعبدالحميد وختمت بابن العميد هي كتابة قامت على الصناعة، والتصنع، والزخرفة، والمهارة اللفظية، ومن فحولها ابن المقفع الذي قال في "الأدب الكبير": "لسنا معشَر المتأخرين بحاجة الى الفطنة، وكل ما نحتاجه هو أن نحفظ عن الأوائل حكمتهم". وهذا هو العقل الصنيع الذي لن يجعلنا بحاجة الى عقل ذاتي، وان كل ما علينا انتاجه هو تذكر الكائنات البلاغية والاستشهاد بها. هذه الكائنات البلاغية وصلت الى قممها النَسَقية مع المقامة وهي أبرز وأخطر ما قدمته الثقافة العربية كعلامة صارخة على التنازل عن أية قيمة منطقية، غير معنية بسؤال العقل والفكر" مع حبكة الكذب المتعمد من أجل التسوّل الذي أصبح "مهنة أدبية" تتضافر فيها الحبكات الثلاث: الكذب/ والبلاغة/ والشحاذة، لتكوّن قيم الخطاب الثقافي، الذي يعتبر عبدالله الغذامي ان أدونيس هو امتداد لنسقه الفحولي، وتعزيز خطابه ونسخ عيوبه. وكان من أخطر أنساق الثقافة العربية اختراع الفحل وربطه بالتفرد والتعالي الشعراء أمراء الكلام، أو بتوظيف اللغة توظيفاً منافقاً، كما الحال مع المتنبي أو "الأب النَسَقي" القائل: "أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صمم" والى الفحولة الشعرية، كان تفضيل اللفظ على المعنى، لأن اللفظ يستلزم الإعلاء من البديهة، في حين ان المعنى يحتاج الى التفكر والتدبُّر. وصار التفسير حِكراً على السادة "الآباء" وهو ما كان يراه البحتري القائل: "ان الناس بقر وما عليه أن يُفهم البقر" إو كقول كعب بن زهير: "أنا أبصر بشعري منكم". والى شعر المديح والكذب كان الهجاء الذي حذر منه المتنبي قائلاً: "ان عداوة الشعراء هي بئس المقتنى". هذا المقتنى هو مقتنى فردي لا يُناقش فيه أصحابه الشعراء، كما فعل أبو تمام إذ سئل: لِمَ لا تقول ما يفهم؟ فأجاب: لِمَ لا تفهم ما يقال؟ وفي هذا تعالٍ للذات ونُكرانٍ للآخر، وهي علاقة سلبية تجعل الذات في موقع الأب الفحل المطلق. فبدل الأب التقليدي حلَّ أبٌ حداثي لا يختلف في استبداديته عن سلفه. ومن الأنساق الثقافية التي نخلص اليها مع الشعراء الفحول: التسلط على الناس، والاستخفاف بهم، والتأسيس لثقافة نخبوية ورأسمالية مصدرها الكذب/ والشحاذة/ والمديح/ والهجاء. هذا هو الرفث الثقافي الذي ورثناه عن الشعر بعد أن تزيّف على أيدي المداحين، وصار الأبلغ هو الأكذب، وهو الأظلم، وهو الأكثر ذاتية، وأنانية، وتعالياً على الآخر. ومن أبناء الفحول البررة في تاريخنا الحديث يأتي نزار قباني القائل في ديوانه "الرسم بالكلمات": "مارست ألف عبادة وعبادة/ فوجدتُ أفضلها عبادة ذاتي" أو في قوله في كتابه "ما هو الشعر؟": "أنا مؤسس أول جمهورية شعرية، أكثر مواطنيها من النساء"، فطالما ان الجمهورية هي جمهورية "الفحل"، فلا بدَّ أن تكون الرعايا من النساء" وهذا ما حاول نزار قباني فعله على مدى خمسين سنة من زخه المتواصل الذكوري والبطريركي. وإذا كانت هذه حال نزار قباني النسقي/ الرجعي في موقفه من اللغة المسخرة وفي موقفه من المرأة التي بدأ هو بتدوين تاريخها، فماذا عن فحولة أدونيس المضلِلَة؟ وماذا عن مشروعه الحداثي في ظاهره، والرجعي في حقيقته؟ وهو القائل في ديوانه "مفرد بصيغة الجمع": "أنا العالم مكتوباً، وأنا المعنى، وأنا النور، وأنا الأشكال، وأنا الداعية والحجة". أما رجعية الحداثة عند أدونيس فتتمثل في فكرتين مركزيتين بشكل متواتر يعاود ترديدهما: وهو ان الحداثة تغيير في الشكل، كما انه لا حداثة في الثقافة العربية إلا في الشعر. وهكذا أسس أدونيس "لهامشية" الحداثة، بعيداً عن العلوم الرياضية، والجينية، والتقنية، والاقتصادية والفلسفية" حيث بقيت الحداثة على هامش الوجود العربي، إذ بلغ ايمان أدونيس بالشعر - كقيمة مطلقة - حدّاً مخيفاً يصل بين الماضي والحاضر ليؤكد أننا أمة شاعرة، وهذا هو مجدنا الأعظم، الذي لا يُغلَب ولا يُرد. فالأمة - أمتنا - لا تعيش إلا "بالوهم الجميل" و"الموت العظيم" و"الذنوب الجميلة" المضادة للمنطق والعقل، والمنبتة عن الواقع والتاريخ. أخيراً إذا كانت قراءات عبدالله الغذامي قد تميزت بالفرادة، فإنها أيضاً قد اتسمت بالانحياز، لأنه اختزل ثقافتنا بردها الى عيوبها، فجاءت قراءته الثقافية - التي شاءها على حساب القراءة الجمالية - قراءة أخلاقية في الدرجة الأولى، وقراءة اتهامية لنسق الفحولة على حساب النرجسية الشعرية، والأنا الفردية التي أقرَّ بها المجتمع رمزاً للأنا الجماعية. فعوضاً عن اتهام النقد/ والثقافة/ والجمهور كان اتهام الغذامي للشعر. وللشعر مواقعه التي ينافس بها الكشف والرؤيا وهما من مكوّناته، وإلا سقط الشعر في الرتابة والتكرار، وبعُدَ من الاحتمال وغرق في التقرير. وإذ اعتبر الغذامي ان الشعر هو الذي أسس للأنساق الثقافية، فإننا نسأل: ماذا لو غاب الشعر؟ ومُنع الشعراء من قوله؟ فهل ستتحسن حال الأمة؟ وهل يمكن أن ننسى أن نموذجها الأعلى هو المتمثل في "ألوهية الكلام" لا في "ألوهية الكينونة"؟!! نحن نوافق الغذامي ان الشعر ليس بإمكانه أن يكون المرجع التحديثي ولن يكون، وهذا ليس بسبب سلطة المؤسسة، ولا بسبب رداءة النقد والنقاد، ولا بسبب فحولة الشعراء، ولكن مردّه الى طبيعة الشعر التي تقوم على الانفعال لا على العقل، الى جانب انعقاد الأمية، وغياب ثقافة الأسئلة، وطغيان "ثقافة الأذن" على "ثقافة العين والحس والعقل"، والإقرار بنماذج للكتابة "المتعالية"، ورضوخ جمهورها لمرجعياتها، وعدم رفضها!! ثم ان عبدالله الغذامي كثيراً ما أثقل نصه بالتكرار والإطالة، وكأن الكتاب موجّه "للعوام" أكثر منه "للنخبة"" كما فاته أيضاً التناقض الذي أوقع نفسه فيه، حيث أَخَذَ على المتنبي سخريته من افتتاح القصائد بالغزل، ثم عاد وأخذ على قباني تسخير شعره للغزل وللغزل وحده. ففي قراءته لنزار قباني مثلاً، أخذ الغذامي عليه مفهوم الفحولة وأغفل قراءة "المرأة النسق" أو "المرأة النمط" التي خاطبها نزار، واخترعها نزار لتلبي حاجاته وتعزز سلطته. فالنسق قائم هنا في "صورة المرأة" التي ما زالت تدغدغ رجال الأمة "الجاهلة" من أقصاها الى أقصاها" وفي هذا تكمن ذكورة نزار، ورجولة نزار، وبطريركية نزار التي هي وجه من وجوه المجتمع الذي ينكر على المرأة انسانيتها، لا وجهاً من وجوه الشعر وقد كان نزار سيده النرجسي بلا منازع. وإذا عدنا الى سؤال الكتاب الذي طرحه الغذامي: هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ وهل جنى الشعر على الشخصية العربية؟ قلنا ان الثقافة العربية هي ثقافة الرجعية، وان الإنسان العربي هو انسان الرجعية، فالإنسان هو الأول والشعر ثانٍ، ان لم يكن العاشر والألف، والإنسان العربي هو الإنسان المدجّن الذي حوَّل لغة "ضاده" التي كانت لغة العلوم والرياضيات والفلسفة الى فقاقيع صوتية عالية النبرات والمخارج!!!