ليس عسيراً على المرء وهو يشاهد لوحات الرسام البحريني عبدالرحيم شريف الجديدة في معرضه في البحرين وعنوانه "كينونة" ان يذهب عميقاً في مقاربات معرفية، تجعله قريباً من فهم المرجعية الأسلوبية لهذا الفنان. هذه المرجعية التي تستند في الجزء الأعظم منها على تجارب فناني مدرسة نيويورك وخصوصاً الرسام وليام دي كوننغ. وليس في هذه المقاربة العفوية والحتمية أي انتقاص من قدر هذا الفنان المتمكن بين أقرانه من صناعة لوحة حديثة بكفاءة استثنائية، بل هي محاولة لاستيعاب المنهج التحليلي الذي تطور وفقه أسلوبه. ولا يتعلق هذا الحكم بالبنية الشكلية للوحاته، فحسب، بل وبسلوك الرسام اثناء الرسم، أيضاً. وهو ما ينظر اليه الرسام بقدر من الراحة والاستغراق. كونه يمثل صفة تضعه في مكان منفرد في المشهد التشكيلي البحريني، ومن ثم العربي. وما يؤكد انه تعلم الدرس جيداً، كون رسومه في مختلف مراحله الأسلوبية تقدم مبدأ الحرية على أي مبدأ آخر التمكن والاتقان على سبيل المثال. حتى يخال من يشاهد هذه الرسوم انها لم تنشأ إلا من أجل ان تكون مدائح لحرية مستعادة، على الأقل على سطح قماشة اللوحة. وإذا كان هذا الرسام استعار هذا المبدأ انسجاماً مع التيار الفني الذي تأثر به فإنه تماهى معه حتى غدا جزءاً من سلوكه الفني المعلن، ليصبح صفته التي يليق به ان يتباهى بها. وهو سلوك لم يفقده تمكنه التقني طابعه الإنساني. وسواء توجه الرسام الى التجريد ام الى التشخيص فإنه في الحالين لا يراهن على المسافة التي تفصله عن المرآة، ضاقت أم اتسعت. فهو يرى الأشياء وهي تتشكل، قبل وبعد شكلها الراهن. أي انه يرسمها وهي تعيش حال التشكل هذه. فهو يستحضر ابعادها أو يخترع لها أبعاداً جديدة. وهذا ما بدا جلياً في معرضه الحالي الذي لا يضمّ عبر شكلانيته غير المبيتة المظهر إلا صوراً شخصية مرسومة بانفعال حر. وهي صور تعني كل شيء الا ان تحاكي المظهر الخارجي للشكل الانساني وخصوصاً الوجه. ولا أخفي انني شعرت بالدهشة حين رأيت صور الرسوم المنشورة في دليل المعرض فهي توحي بنكوص ما في مسيرة هذا الرسام الذي مضى بالتجريد الغنائي الى اقصاه. غير ان رؤية اللوحات في شكل مباشر جعلتني أعدل عن هذا الشعور، مع انني لم اتراجع عن الاستفهام الذي ظل يطاردني في صدد المشكلة النفسية التي حدت بالفنان الى ان يخوض غمار تجربة من هذا النوع، وقد يبدو الاعتراض على رسم الوجوه لذاته ساذجاً، فهو يذكر بمحاولة تغليب موضوع الرسم على محاولة الرسم ذاتها. وهي فكرة ما فتئت تجد لها مشجعين بين دعاة المفهوم الشعبي، التداولي للفن. فالموضوع بالنسبة لهذا الرسام هو جزء من مادة الرسم. مثله مثل الاصباغ بتقنياتها والخطوط والمساحات بما تخلفه من علاقات شكلية. ولذلك فإن وجوهه تفارق صفتها الأولية موضوعاً، لتكون حافزاً على الرسم ليس الا. ومضى الرسام عبدالرحيم شريف في لعبته هذه الى الحد الذي جعله لا يخفي ميله الى النظر الى هذه الوجوه من كونها اقنعة مستعارة تكمن قوتها التأثيرية في قدرتها على استعراضها الرمزي. انها مسرح لوقائع تنكرية غير محكومة بشروطها الخارجية. واذا كان الرسام لجأ في غير لوحة الى وضع القبعة على رأس الشخصية المرسومة، التي هي شخصية متخيلة، والى تعليق الأوسمة والنياشين على صدرها، فإن هذه المفاتيح لم تؤد الا الى مزيد من الغموض الذي يكتنف تلك الوقائع. اختبر هذا الرسام التجربة بفضاءاته المفتوحة، التي توحي بقدر دائم من الاتساع غير المتوقع. وهو انما يرجو من خلال مسعاه الأخير الى تبرئة الموضوع، أي موضع، من تهمة المحدودية والانغلاق والقاء تبعة التقصير كلها على الرسام، وخصوصاً على افقه التخيلي. وهو إذ يتخذ من الوجه موضوعاً لتشريح نظريته هذه فإنه يستعيد تجربة كبار رسامي الحداثة أمثال بيكاسو ومودلياني وبيكون وسواهم من الرسامين الذين عثروا في الوجه الإنساني على متاهة أحلامهم. كان الوجه بالنسبة لهم وهو كذلك بالنسبة للرسام البحريني، فرصة للولوج الى مغامرة جديدة، من شأنها ان تؤدي الى نتائج مختبرية جديدة، على مستوى فعل الرسام وعلى مستوى الأبعاد التخيلية للرسم، فهو يمثل حلاً من حلول الخلاص. وفي الحالين فإن ما يجلبه الرسم هو شأن جمالي يتعلق بمسؤولية الرسام ازاء ما يظنه واجبه في الإيضاح. وهو كمن يقدم براءة ذمة مما يمكن ان يقود اليه الرسم من عزلات. وهي عزلات لا يمكن النظر اليها الا من جهة تترك من مسافة تفصل بين الرسم وفعل التلقي الجمالي. إذاً، يمكننا ان نقول ان عبدالرحيم شريف عثر في الوجه الإنساني على العلامة التي في امكانها ان تحتوي رغبته في الفرار وتشير اليها في الوقت نفسه. انها دالته ودلالته. عصفه وعصيانه. امتداده وعكوفه. انتشاره وعزلته. فالوجه لدى هذا الرسام يشبه الى حدٍ كبير الزهور والآنية والقواقع التي لجأ اليها الرسام السوري يوسف عبدلكي بعد سنوات من العصف الحكائي الملوث بالفكر السياسي. ففي الحالين يحضر الموضوع بصفة مزدوجة: مقصوداً لذاته ووسيلة للفرار بالرسم من ضيقه التصويري. او على الأقل هو مادة يجازف الرسام من خلالها في الخروج من محنته الأسلوبية. وفي هذه المغامرة لا يقوى الرسام الا على استعراض قلقه الأسلوبي الخلاق. وهو قلق لا يؤتي ثماره من النظرة الأولى. فهو يشرخ بعنفه كل تصورات التلقي المتوقعة. فالرسام يحضر مع هذا القلق كما لو انه خُلق رساماً من جديد. أو انه اهتدى الى مكان خفي من ذاكرته التي يختلط فيها الواقعي بالمتخيل والتجريدي بالمشخص. وفي هذه الحال يكون الرسام جريئاً في اعلان موقفه من تجربته الفنية خارج سياقها التاريخي. انه يتجرأ على الانعطاف بهذه التجربة الى ثغرة لم تكن بالحسبان. وهو موقف نقدي لا تاريخي يصنع الرسام من خلاله أسطورة انبعاثه من رماده. عبدالرحيم شريف في "كينونة" حضر جديداً، رساماً يثري تجربته الجمالية بما يشكل عنصر تهديد دائم لسكونها. وهو إذ يمتد بالمناطق الخيالية التي يستولي عليها فإنه ليعين الرسم على اكتشاف المجهول من لذائذه العامرة بالجمال.