لك ان تتخيل متاهة ثقافية اسمها البحرين. تذهب اليها من أجل هدف تعتقد انه واضح الملامح لتجد نفسك ضائعاً بين مسالك عدة تنبئ أحجارها بالغموض. صغير هذا البلد، غير ان سعته المتخيلة تجعل من العسير على المرء ان يمر به عابراً. فأما أن يزوره بكل حواسه مضافاً اليه حدسه، وأما أن يتوقف مضطراً خارج حدود أناقته الجغرافية. فالبحرين فضاء أكثر مما هو بلد مقيد بتضاريسه. أليست حدوده البحر وهو المتصل بهواء الثقافات المحيطة؟ هواء ثقافات هي المزيج الذي تشكلت منه فرادة هي صفة لافتة لا يمكن ان تخطئ في الشخصية البحيرينة. شخصية هي مصدر ثقافة ترتجل حرية وشيكة أشبه بالشعر فلا ينكر الشاعر البحريني قاسم حداد، كفاءته النثرية. وقد يكون هذا النوع من الحرية وراء امتناع المؤسسة الرسمية عن التكريس اعلامياً من باب التعفف. أقول لعبدالله عبدالرحمن يتيم، المفكر الانثروبولوجي، لكن بصفته الرسمية، هذه المرة: نشاطكم الثقافي في الداخل يشهد على كفاءة في أداء وادارة العمل الثقافي وخدمته، لكن الثقافة البحرينية في الخارج غير معروفة الا من خلال مشاركة أفراد بعينهم، أسماء هي ذاتها ومنذ زمن طويل، في اللقاءات الفنية والأدبية العربية. يبتسم يتيم برضا استفهامي يقدم لي نسخة من كتاب يشي بأناقته من بعيد لأكتشف انه دليل معرض حضارة البحرين ديلمون الذين أقيم في غير مدينة أوروبية ولا يزال يدور هناك. حركة ايحائية تبوح بالمنهج المتبع ثقافياً والذي تعبر عنه المشاريع الثقافية الراسخة. ومنها المعرض التشكيلي السنوي الذي دعيت لحضوره. الثقافة من وجهة نظر رعاتها في البحرين مشروع خاضع لمبدأ التراكم وهو أكبر من أن يكون مادة للاستهلاك الدعائي، وان كان بريئاً. والبحرين التي تستند الى تاريخ من الخبرة الحضارية الملتبسة هي لذاتها مشروع ثقافي كبير، غني بتفاصيله المتشعبة التي تصدر عن روح خلاقة وهادرة. وهو ما يفسر خلو الثقافة في البحرين من الصدمات. ثقافة تؤسس ذاتها على مبدأ التراكم القائم على خبرة الصراع الخفي كونه مرجلاً لكل التحولات. بإمكانك ان تكتشف الفاصلة الحضارية التي تميز هذا البلد عن البلدان المحيطة به: ليست هذه الفاصلة سوى المرأة. حضورها الطاغي في الثقافة البحرينية صفة تهب هذه الثقافة مزيداً من الدعة والامتداد والسعة. نساء البحرين موجودات في كل منعطف ثقافي. لا على مستوى الإبداع شاعرات ورسامات وروائيات وحسب، بل وعلى مستوى المساهمة في الصناعة الثقافية وتأثيث المجتمع ثقافياً أيضاً. تقوم المرأة بإدارة النشاط التشكيلي من خلال القاعات الخاصة. هناك في العاصمة البحرينية غير قاعة للعروض الفنية تقوم برعاية العديد من النشاطات الأدبية كان آخرها أمسية للشاعر والناقد كمال أبو ديب أقامتها قاعة الرواق، التي تديرها السيدة بيان كانو، وهي أقدم القاعات الفنية وأكثرها نشاطاً. ولكن المعرض التشكيلي السنوي كان الأكثر جذباً لي، لا لأنني أتوهم ان بإمكان الاطلاع عليه ان يعفيني من عناء ومتعة زيارة محترفات الرسامين والتنقل بينها، كونه يمثل آخر خلاصات المشهد التشكيلي في البحرين، ولكنه كما أرى يمثل صورة من صور احتفاء المؤسسة بالفنون ورعاية الفنانين وإذكاء نار التنافس في ما بينهم. وهو أمر يدخل في خصوصية وتكوين المؤسسة الثقافية من الداخل. خصوصاً ان جوائز هذا المعرض تعني تكريس الفنان الحائز عليها لأمد طويل. ولدورة هذا المعرض التاسعة والعشرين اختيرت لجنة تحكيم تكونت من: الشيخ راشد آل خليف، رئيساً. وعضوية كل من الفنانين: أسعد عرابي ونذير نبعة وعادل السيوي. وانتهت هذه اللجنة الى الاتفاق على ان الفنان الرائد ناصر اليوسف هو الأكثر استحقاقاً لنيل جائزة المعرض الكبرى "الدانة الذهبية" وهو اختيار موفق قابله الجميع بالرضا التام حتى ان كل من سمع بالخبر كان يبتسم باطمئنان قائلاً: يستحقها وان جاءته متأخرة. ولا يكمن سر هذا الاتفاق في ان الفنان اليوسف الذي فقد حاسة البصر منذ سنوات يمكن وصفه بكلود مونيه البحرين من جهة اصراره على تحدي العتمة بالرسم، وحسب، بل لأنه لا يزال يقدم اقتراحات جمالية محلية هي غاية في الأصالة، أيضاً. ان يده التي تشبعت خيالاً طوال سنوات مديدة من الرسم هي التي ترسم ذاهبة وراء خيالها. وهي التي لا تزال قادرة على صنع أسطورة رسام يجد في الرسم خلاصه الذي لا يغادره طوال النهار الا من أجل أداء الصلاة. ولو عدنا الى المعرض، فإنه كأي معرض جماعي لا يمكن سوى أن يسلم فعل المشاهدة الى الفوضى التي تتحقق بفعل اختلاط التجارب الفنية ببعضها. وهو من جهة أخرى قد لا يقدم الصورة المثالية لحال الفن في بلد ما أو يكون وثيق الصلة بحقيقة التجربة الفنية لفنان ما، فعلى سبيل المثال فإن لوحات رواد الرسم في البحرين من أمثال راشد العريفي وعبدالله المحرقي وعبدالكريم البوسطة كانت دون المستوى الذي يليق بهم تاريخياً. وفي المقابل فإن لوحات الشيخ راشد آل خليفة وعبدالرحيم شريف عبرت عن سعي في اتجاه توسيع المناطق الخيالية التي يشتغل فيها الفنان البحريني. في حين كانت هناك أسماء لفنانات أطللن بحياء على العرض الجماعي وكان لأعمالهن وقع مفاجئ ومحير مثلما هو الحال مع شفيقة الهرمي. هذه الفنانة التي تمثل نموذجاً لنوع العصف الذي ينتظر الفن التشكيلي في البحرين. وهو عصف نسوي إذا أردنا اللجوء الى تصنيف الفن على أساس جنس مبدعه. شهد المعرض الحالي هجمة نسوية لم تشهدها المعارض السابقة. هذه الهجمة بعلو أمواجها فنياً وفكرياً انما تشير الى شيء من عافية الثقافة والمجتمع في البحرين. وتفوق النساء في مجتمع صغير كالمجتمع البحريني لا بد ان يشكل مؤشراً لنمط متقدم من الحساسية الثقافية. وإذا ما كانت بلقيس فخرو مستمرة في تعميق اتجاهها التجريدي التي تتزاوج فيه الصرامة التكوينية بنوع من الانسياب الغنائي فإن هلا الخليفة التي كرستها الدورة السابقة للمعرض فنانة صاعدة استطاعت بعملها المستلهم من البنية العضوية الداخلية للإنسان ان تقدم لوحة هي نسيج ذاتها، حيث تختلط جرأة الطرح الشكلي بالعلاقات اللونية التي تقبل بصلابة من جهات متضادة. شفيقة الهرمي عرضت عملين تجريديين هما جزء من تجربة شكلية واحدة، حيث لا يعني الاختلاف اللوني بينهما سوى محاولة التنويع الايقاعي على الأشكال. أما لبنى الأمين فإنها تحقق بعملها المكون من خمس لوحات صغيرة انتقالة مهمة على مستوى البحث التجريبي الشخصي. عرفت هذه الرسامة باهتمامها باستلهام حساسية السطح الخشبي الجاهز. وكانت الأبواب القديمة، مادة ومفهوماً، ذريعة لها لاقتحام عالم المواد المختلفة. هذه المرة تبدو كما لو انها تسعى الى استدراج الخلاصات التي انتهى اليها بحثها واستئناف الرسم من لحظة خلوه من الأشكال. ولا تزال تولي السطح بكل تحولاته جل اهتمامها. وهي اهتمامات تنقل السطح من حيزه المكاني الى مفهومه التصويري العميق فتتلاشى الأشكال في حمى التدفق اللوني. وهي حضرت الى الرسم من خارجه وتمثل هبة استثنائية لقدرتها على الاستجابة لنوع مختلف من الحرية الأسلوبية. أما فاطمة الجامع فتلجأ الى الحلول التي صارت متاحة في الرسم الحديث في البحرين خلال السنوات القليلة الأخيرة. وخصوصا على مستوى السلوك الأنثوي للأشكال. هذا السلوك الذي شاع في لوحات الكثير من الرسامين البحرينيين واللجوء الى الزخرفة من أجل احتواء الأشكال بإيقاعها. منيرة سلمان الجلاهمة التي حازت على رضا لجنة التحكيم فنالت احدى جوائزها التقديرية، يعتمد عملها النحتي على تنظيم علاقات جمالية بين مواد محلية جاهزة لتنتقل بهذه المواد من مستواها الإشاري المكرس الى مستوى كلي التأثير من جهة حساسيته البصرية والعاطفية على حد سواء. خيال هذه النحاتة يستند الى تمكن حرفي واضح. وهو أمر لا تخطئه لوحات الرسامة نبيلة الخير أيضاً التي سبق لها ان فاجأت الوسط التشكيلي البحريني قبل أشهر بتطورها اللافت من خلال ما قدمته في معرض الرسامات الذي أقيم في قاعة دار البارح. ونبيلة الخير تتخذ من الجسد الأنثوي دليلاً لاختراق عالم اللامرئيات الملغز بكل قوى سحره المجردة. انها تذهب الى اللاشكل بقوة الشكل الانثوي وقدرته غير المكبلة على التماهي مع الفضاء. وفي رسوم مي سلمان محمد العتيبي محاولة لاستعراض الفكرة من خلال السلوك التقني المميز. فالمواد وهي تسيل على السطح لا تخفي الوقائع التي تجري تحتها بقدر ما تسعى الى التعبير عن هذه الوقائع الوجودية المضطربة. وأخيراً فإن مريم علي بن يوسف فخرو تبني عالمها على أساس الجدل القائم بين الكتلة والفراغ وهي تستلهم صلابة الأشكال البيئية من أجل التأكيد على مرونة الفضاء المحيط. أما على مستوى تجارب الحفر الطباعي فإن ما قدمه عبدالجبار الغضبان وعباس يوسف وجمال عبدالرحيم يعبر عن استمرارهما في تعميق الخط الأسلوبي لكل منهما. والكلام نفسه يصح على تجارب ابراهيم بوسعد واحمد الباقر وعباس الموسوي واسحاق الكوهجي وعمر الراشد وأحمد جاسم عنان وجعر العريبي. وكما يبدو لي فإن هذا الأخير انما يسعى من خلال لوحته التي شارك بها في المعرض الى التوصل الى عالمه الشكلي الخاص. وعلى صعيد آخر يمكنني القول انه لا يمكن المرور بهذا المعرض الذي يمثل الحالة الراهنة للفن التشكيلي في البحرين من غير الاشارة الى التداخل الأسلوبي بين تجارب عدد كبير من الفنانين المشاركين. وهي ظاهرة تقلق بسبب ما تشير اليه من ضيق في الاحتمالات الأسلوبية والفكرية والرؤيوية التي تنتظر الفن التشكيلي والرسم بالأخص في البحرين. ومن خلال اطلاعي على تجارب الكثير من رسامي البحرين فإن الأسلوب لدى بعضهم صار يشبه العدوى الاستهلاكية الى حد كبير. لذلك فإن هذا البعض صار يتنقل بين الأساليب كما لو انه يتنقل بين بضائع جاهزة ينتقي منها ما يراه مناسباً له. وهو سلوك نفعي يهدد ان استمر مستفحلاً، جوهر الظاهرة الإبداعية الخلاقة الذي تستند اليها التجربة الفنية في البحرين.