يشكل انتخاب ارييل شارون رئيساً لوزراء إسرائيل حدثاً ينطوي على دلالات سياسية بالغة الأهمية ويثير احتمالات بالغة الخطورة. ولذلك يتعين التعامل مع هذا الحدث بكل جدية وعدم التهوين من شأنه بأي حال من الأحوال. غير أنه من الضروري في الوقت نفسه عدم التهويل من هذا الخطر حتى لا يصيبنا الرعب وتتحكم فينا مشاعر الخوف والرهبة فنعجز عن مواجهته. إن أي عمل استفزازي في مواجهة ثور هائج من نوع شارون قد يمنح هذا السفاح مبرراً لشن حرب يبدو أنه يسعى إليها فعلاً وسيلة لخلاص إسرائيل من مأزقها الراهن. فهو يتصور أن حرباً خاطفة جديدة، خصوصاً وأنه يعتقد جازماً أن نتائجها ستكون حاسمة في مصلحته، ستمنحه فرصة مثالية لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، وفقاً لأولويات اليمين الإسرائيلي، وربما تضع المجتمع الإسرائيلي كله في موقف يمكنه من التعامل بشكل أفضل مع استحقاقات مرحلة ما بعد التسوية. والتراجع أمام شارون من شأنه أن يغري هذا الجنرال المتطرف والمغرور بالتمادي في غيِّه ويرسخ لديه الاعتقاد بأن العرب ليسوا سوى حشرات ضارة صغيرة لا يجدي معها سوى السحق، ومن ثم فسيدفعه هذا التراجع إلى المزيد من التشدد في مواقفه ومطالبه ويمنحه مزيداً من الأمل في فرض شروطه النهائية على الجميع بقوة السلاح. إن فوز شارون بنسبة تصل إلى حوالى 60 في المئة من اجمالي الاصوات التي توجهت إلى صناديق الاقتراع، وهي نسبة هائلة لم يحصل عليها أي ممن سبقوه منذ بدء تطبيق نظام الاقتراع المباشر في انتخابات رئيس الوزراء، ليس وليد المصادفة أو نتيجة لتطورات ظرفية قابلة للتغير في المستقبل القريب. فهذا الفوز الكبير يشكل، في تقديرنا، امتداداً طبيعياً ومنطقياً لتحول المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، ومن ثم نحو المزيد من العنصرية والتطرف والهوس العقائدي. كان هذا التحول بدأ يظهر على استحياء عقب حرب 1973 مباشرة ثم ما لبث أن أصبح مثل كرة الثلج المتدحرجة من قمة جبل الجليد تكبر وتتضخم باستمرار. وفي سياق تحليل ما أسفرت عنه هذه الحرب من نتائج، من منظور المجتمع الإسرائيلي، بدا التيار العمالي، وهو التيار الذي لعب الدور الأكبر في إنشاء وتثبيت دعائم الدولة الإسرائيلية، وكأنه قد هرم وترهل واستنفد دوره ومبررات وجوده التاريخي. ومن هنا بدأ التيار اليميني في إسرائيل بقيادة تجمع الليكود يجهز نفسه بديلاً أكثر قدرة على التعامل مع مرحلة تاريخية مختلفة. وعندما قرر الرئيس أنور السادات تغيير النهج التقليدي في إدارة الصراع واتخذ مبادرته المذهلة بالذهاب إلى القدس، في أعقاب وصول الليكود الى السلطة في إسرائيل العام 1977، لم يكن المجتمع الإسرائيلي يتمتع وقتها بمزاج جماعي يسمح له بتقبل منطق خطاب سلمي يطالب بالتسوية على أساس حل وسط تاريخي، أو يحظى بقيادة سياسية راغبة في مثل هذه التسوية أو قادرة على تهيئة المجتمع الإسرائيلي لقبولها. ولذلك تعامل رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن مع مبادرة السادات باعتبارها تعبيراً عن يأس مصري من جدوى الانخراط في صراع باهظ الكلفة، بدلاً من كونها تعبيراً عن رغبة مخلصة في التوصل إلى تسوية متوازنة أو عن قناعة بتوفير ظروف مواتية للتوصل إلى مثل هذه التسوية. وتسبب الصلف الإسرائيلي في إطلاق سلسلة من التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية انتهت باغتيال الرئيس السادات. وعندها تصورت إسرائيل أن الفرصة باتت مواتية لفرض حل نهائي بشروطها، فلم تتردد في غزو لبنان بعد هذا الحادث بشهور، وبالتحديد في حزيران يونيو 1982. ومن المفارقات ان يكون ارييل شارون، بطل هذا الغزو الفاشل والذي كان يشغل وقتها منصب وزير الدفاع في حكومة إسرائيل، هو نفسه الرجل الذي وقع عليه اختيار الشعب الإسرائيلي ليصبح رئيساً لحكومته في العام 2001 على رغم خروج الجيش الإسرائيلي مهزوماً من لبنان. وبين هذين التاريخين العلامتين، تاريخ غزو شارون للبنان في 5 حزيران من العام 1982 وفوز شارون بمقعد رئيس الوزراء الإسرائيلي في 6 شباط فبراير من العام 2001، مرت مرحلة طويلة بدا الشعب الإسرائيلي فيها متخبطاً وعاجزاً عن إفراز قيادة تأخذ بمصيره بأمان إلى بر تسوية سياسية قابلة للدوام. وحانت خلال هذه المرحلة الطويلة لحظة بدا فيها الشعب الإسرائيلي وكأنه عثر على ضالته المنشودة حين اختار اسحق رابين رئيساً لحكومته، على رغم أن قوى اليمين، وبخاصة اليمين الديني، كانت تزحف وتكتسب أرضية جديدة باستمرار. غير أن عمر هذه اللحظة كان قصيراً، فسرعان ما امتدت يد الارهاب والتطرف الإسرائيلي لتدق عنق رابين بمجرد أن أبرم اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، على رغم أن هذا الاتفاق كان أقل بكثير مما يطمح اليه الشعب الفلسطيني. وبدلاً من أن يتحول هذا الاغتيال إلى جرس إنذار يحض قوى اليسار على محاصرة اليمين الصاعد واحتواء خطره، راحت رموز النخبة اليسارية التي تصدرت قائمة المنافسة على موقع القيادة في إسرائيل تتسابق لخطب ود اليمين ودغدغة مشاعره. هذا التسابق هو الذي دفع شمعون بيريز، على سبيل المثال، لاستعراض عضلاته العسكرية في لبنان والرد على عمليات "حماس" و"الجهاد" الاستشهادية بعملية "عناقيد الغضب" وبمذبحة قانا في لبنان. وهو نفسه الذي دفع بباراك للرد على الانتفاضة وعلى حجارة الاطفال بقذائف الدبابات وطائرات الهليكوبتر ومدفعية الميدان في فلسطين. غير أن هذا "الاستئساد" اليساري الإسرائيلي في مواجهة العرب لم يغير من واقع الداخل الإسرائيلي شيئاً، وظل المجتمع الإسرائيلي المتخبط، والمندفع يميناً في الوقت نفسه، يبحث عن قيادة حازمة. فقد فضّل الشعب الاسرائيلي بنيامين نتانياهو على بيريز، ثم عاد وفضل شارون على باراك بعدما منح هذا الاخير، وهو الحاصل على أعلى الأوسمة والنياشين العسكرية، الفرصة ليحقق له الأمن والتسوية معاً. لكن باراك فشل في نهاية المطاف في تحقيق أي منهما لسبب بسيط وهو أنه لا هو ولا التحالف الذي يقوده ولا الغالبية العريضة داخل الكنيست أو حتى داخل الشعب الإسرائيلي نفسه كانوا راغبين أو جاهزين ومستعدين لتسوية تحقق الحد الادنى من المطالب الفلسطينية. وفي كلتا الحالتين بدت قوة الدفع التي يحظى بها اليمين الإسرائيلي كبيرة، واستمر زحفه نحو الكنيست. في هذا السياق يبدو انتخاب شارون وكأنه يعكس تحولاً نوعياً أصاب مزاج الشعب الإسرائيلي ونتج عن تراكم تدريجي لتغييرات كمية في موازين القوى لمصلحة اليمين الإسرائيلي. وهنا يثور سؤال مهم وشرعي في الوقت نفسه: هل معنى ذلك أن الشعب الإسرائيلي قرر أن يلقي بورقته الأخيرة ويضع على رأس حكومته جزاراً ومجرم حرب على أمل أن ينجح في ما فشل فيه باراك من قبل ويتمكن من فرض تسوية إسرائيلية، ولو بالقوة، على الفلسطينيين ثم إجبار الدول العربية الأخرى على قبولها والتعايش معها؟ تجدر الاشارة إلى أنه لم يكن بوسع العرب أن يساهموا هذه المرة، حتى لو أرادوا، في انقاذ باراك على أي نحو. فالهوة بينه وبين شارون كانت من الاتساع بحيث لم تكن كل أصوات عرب ما قبل 1948 ممن لهم حق الانتخاب في إسرائيل، تكفي لردمها. كما تجدر الاشارة إلى أن السلطة الفلسطينية بذلت، ولكن من دون جدوى، قصارى جهدها لمساعدة باراك في مواجهة شارون، وبخاصة في مفاوضات طابا الاخيرة، عن طريق الايحاء بأن التسوية النهائية أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ولهذه النتيجة دلالات لا يجوز أن نتعامى عن رؤيتها. فالغالبية في إسرائيل تصر على رفض أي "تنازلات" تتعلق بالسيادة الفلسطينية المنفردة على المسجد الأقصى أو بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. بل إن موقف باراك نفسه من هاتين القضيتين بدا، على رغم تشدده وبعده عن الحد الادنى للمطالب الفلسطينية، مرفوضاً من غالبية الناخبين الإسرائيليين. وكان فريق من المحللين العرب دأب على اتهام العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وفي إصرار عنيد على استمرار عملية جلد الذات المستمر منذ هزيمة 67، بأنهم يتحملون قسطاً من المسؤولية عن تعثر العملية السياسية بسبب امتناعهم عن تقديم ما يكفي من الدعم لمساعدة معسكر السلام في إسرائيل. وكانت هذه الاتهامات وصلت ذروتها في أعقاب انتخابات 9619، ثم حانت الفرصة لعرب الداخل الإسرائيلي كي يساهموا مساهمة فاعلة في وصول باراك إلى مقعد رئاسة الوزراء في انتخابات 9919. غير أن هذا الدعم العربي لم يكن له أي تأثير حقيقي على موقف اليسار الإسرائيلي من عملية السلام أو حتى من حقوق العرب الإسرائيليين، الذي تعامل، كعادته، مع هؤلاء باعتبار أن تصويتهم له أمر مفروغ منه، بل إن هذا اليسار ارتكب في حق الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر وخارجه، ما لم يجرؤ عليه أحد من قبل. إن أي دارس محايد لطبيعة المشروع الصهيوني لا بد وأن يخلص، وفي ضوء تطور الموقف الإسرائيلي من عملية السلام، إلى أن اليمين الإسرائيلي يبدو هو الأصدق تعبيراً عن جوهر هذا المشروع في مرحلة تطوره الراهنة. فعلى رغم الانجازات الهائلة التي حققها هذا المشروع حتى الآن إلا أنه لم يتمكن من تحقيق كل أهدافه وإعلان انتصاره النهائي. وتصورت النخب الإسرائيلية التي تعاقبت على الحكم في إسرائيل منذ بدء عملية السلام انها تستطيع أن تحقق بالوسائل السياسية ما عجزت عن تحقيقه بالوسائل العسكرية. لكن اهدافها وغايتها النهائية، والتي لا يوجد حولها اختلاف حقيقي، ظلت كما هي لم تتغير. ولأن ما قدمه ايهود باراك في كامب ديفيد الثانية ثم في طابا لم يكن كافياً من وجهة النظر الفلسطينية، وكان أكثر مما ينبغي من وجهة نظر قطاع عريض من النخبة الإسرائيلية، فقد كان من الطبيعي ان يبحث الناخب الإسرائيلي عن شخصية أكثر تشدداً من باراك، فلم يجد بين من أفرزته المؤسسة العسكرية من شخصيات تاريخية سوى هذا الجزار للتعامل مع العرب في المرحلة المقبلة. وربما تكون هناك قراءتان لنتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة: القراءة الأولى تقول إن المجتمع الإسرائيلي وصل، بسبب جرعات الدواء المرّ التي يتعين عليه أن يتعاطاها تدريجياً من أجل تهيئته لتقبل استحقاقات عملية السلام، إلى مرحلة الحمى وما يصاحبها من هذيان قد يسبق، وربما يكون مؤشراً على، دخول المريض مرحلة تبشر باستجابته للعلاج. أما القراءة الثانية فتقول إن حال الحمى والهذيان التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي حالياً ما هي الا دليل قاطع على رفض المريض كلية الاستجابة للعلاج. فالمجتمع الإسرائيلي، باعتباره تعبيراً عن المشروع الصهيوني، ليس مهيأ بطبيعته، وفقاً لهذه القراءة، لمصالحة تاريخية مع الفلسطينيين وبالتالي مع العرب. غير أن هاتين القراءتين تصبان في نهاية المطاف في مجرى واحد، وهو ليس أمام العرب من خيار سوى هزيمة شارون بكل ما يمثله. فهذه الهزيمة هي التي ستظهر ما إذا كان المريض بدأ فعلاً يستجيب للعلاج أم أن الأمر بات يستلزم علاجاً من نوع آخر. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.