ما يزيد على الستين في المئة من اصوات الناخبين الاسرائيليين لصالح أرييل شارون!... ماذا، اذن، لو كان المرشح بنيامين نتانياهو؟ اذ ليس عديم الدلالة ان يتمكن اليمين الاسرائيلي من انتصار عُدّ تاريخيا لم يسبق لأي انتخابات سابقة ان شهدت ما يماثله تفاوتا بين المتنافسين، وبمرشح مثل شارون يُفترض أن قطاعاً واسعاً من مواطنيه ينظر اليه نظرة ارتياب او نفور: تاريخه مليء بالإجرام وبالعنف وبالتطرف وبالفظاظة، ناهيك عن سمعة الرجل لدى الرأي العام العالمي، ما كان منه رسمياً وما كان منه شعبيا، حيث يلوح للعديدين جلفا من طينة سلوبودان ميلوشيفيتش ومن لفّ لفه، لا يمثل غير وعد، بل وعيد، بالحرب وبالدمار. هو اذن فوز تاريخي ظفر به اليمين الاسرائيلي من خلال اسوأ مرشح يمكنه ان يرفع رايته من بين كل الشخصيات السياسية في صفوفه. وفي ذلك ما قد يقول الكثير بشأن انحراف المجتمع الاسرائيلي، او غالبية من اوساطه واسعة وفاعلة، نحو اكثر المواقع تطرفا، او ان في ذلك ما هو قمين بأن يدفع الى الشك في ما يقال ويُردد من ان فوز شارون كان "سلبيا"، إن صح مثل هذا التوصيف، ومن أن الناخبين صوّتوا ضد ايهود باراك بأكثر مما محضوا سفاح صبرا وشاتيلا ثقتهم اختياراً واقتناعا. يكون مثل ذلك التفسير صحيحاً او مقنعا، لو لم يبلغ التفاوت في الاصوات التي احرزها كل من المنتافسين ذلك المبلغ الذي نعلم، الا اذا ما سلمنا بأن الاعتبارات العقلانية اضمحلت تماما لدى الناخب الاسرائيلي، وأن هذا الاخير تحول محض كتلة من ردود فعل غريزية. بل انه لا يوجد، والحالة تلك، ما من شأنه ان يحول دون التساؤل حول ما اذا كان تقدم شارون مرشحاً عن ليكود، بدلا من نتانياهو او سواه، قد حد من مدى انتصار اليمين الاسرائيلي؟ اي ان ذلك الانتصار ربما أمكنه ان يكون اكبر، او افدح، على يدي مرشح سواه يكون الحرج في التصويت له اقل وطأة او يستثير ميلا اضعف الى الاحجام عن التصويت. بعبارة اخرى، هل كان من حظ اليسار الاسرائيل ان المنافس تمثل في شخص له ملامح شارون، وإلا كان مُني بانهيار أنكى من ذلك الذي كان من نصيبه في الاقتراع الاخير؟ ذلك ما قد تعسر الإجابة عنه، ما لم يُقدم اليسار الاسرائيلي على تحليل مدقق لهزيمته الاخيرة، ينفذ الى الاعماق ولا يكتفي تفسيراً وحيداً بما اصاب صورة باراك وسياسته حيال التسوية ومجابهة انتفاضة الاقصى، من سلبية لدى الرأي العام، على اهمية ذلك العامل. والامر هذا بالغ الاهمية، اذ يتوقف على سبره تبيّن احد احتمالين قد يمكن القول إنهما ربما باتا واردين بالتساوي، او لا يمكن استبعاد اي منهما: فإما ان يكون ذلك الجموح نحو المواقع اليمينية، بما فيها اكثرها تطرفا، سورة مؤقتة، ناتجة عن ظرف خاص هو: ذلك المتمثل في الهواجس الامنية المرتبطة بانتفاضة الاقصى، وفي القلق حيال "التنازلات" التي اقدم عليها رئيس الحكومة السابق في انتظار هضمها من قبل الغالبية، او في ضرب من الاقتصاص من الفلسطينيين ومن سلطتهم الوطنية لتخلفها، او لترددها، في الاستجابة لتلك "التنازلات" بالرغم مما اتسمت به، في نظر الاسرائيليين، من "سخاء" غير مسبوق. وإما ان تكون نتائج الاقتراع الاخير علامة على تحول "استراتيجي"، بعيد الغور والابعاد، قوامه تخلي المجتمع الاسرائيلي، او غالبية داخله كبيرة ومؤثرة، عن فكرة التسوية والسلام، اقله وفق الصيغة التي عهدناها حتى الآن، اي منذ اتفاقات اوسلو حتى محادثات طابا قبيل انتخابات الثلثاء الماضي. يميل المراقبون، غالبا، الى ترجيح الاحتمال الاول، مستندين في ذلك الى عدد من المقدمات يرونها بمثابة المسلمات، منها ان التوجه الى التسوية هو المنحى الكاسح، برغم ما قد يواجهه من عقبات او ما قد يعتريه من نكسات، على صعيد المنطقة ككل. وان شرط بلوغها انما هو التوصل الى حل للمعضلة الفلسطينية، ومنها ان الرأي العام الاسرائيلي، بما في ذلك يمينه، قد دفن فكرة اسرائيل الكبرى، واقر بمبدأ الدولة الفلسطينية، وما عاد يستبعد قيام تلك الدولة كأساس لاحلال السلام وما عاد منشغلا الا بشروط انشائها وما يترتب عن ذلك من تبعات امنية، الى غير ذلك من الحيثيات المعلومة التي تجعل الرأي الشائع يميل الى الاعتقاد بأن وصول شارون الى السلطة قد لا يكون، في اسوأ الحالات، سوى بعض مضيعة للوقت، وان الرجل سيركن بدوره، آجلا او عاجلا، الى العودة الى طاولة المفاوضات، وفق ما حُدد وتم التوصل الى اقراره خلال السنوات الماضية. او انه قد يسقط وشيكا، ما قد يفسح في المجال امام انتخابات جديدة تصحّح ذلك الشواذ، خصوصاً ان رئيس الحكومة الاسرائيلية المنتخب لا يستند الى قاعدة برلمانية صلبة تخوله استقرارا وتطلق يده في ما يريد النهوض به. قد يكون كل ذلك صحيحاً وإن كان لا يوجد ما يضمن الاّ تكون مثل تلك القراءة ناتجة ايضاً عن عادات في التفكير تشكلت خلال العقد الماضي، وهي بصفتها تلك قد تكون خادعة الى هذه الدرجة او تلك. مهما يكن من امر، فإن الحكمة او الحيطة ربما املتا إيلاء قدر من الاهتمام الى الاحتمال الثاني: ذلك القائل إن نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة ربما كانت ايذانا بطلاق اسرائيلي مع فكرة التسوية التفاوضية كما اقرتها اتفاقات اوسلو. اذ ربما استنتج الاسرائيليون، من الانتفاضة الاخيرة ومما حظيت به من صدى في العالمين العربي والاسلامي، أن التوصل الى السلام مستحيل او هو متعذر الآن خصوصاً انهم، بمن فيهم دعاة السلام، على اقتناع راسخ بأن باراك قدّم كل، او ابعد، ما يمكن لرئيس وزراء اسرائيلي، ان يقدمه من "تنازلات" ومن حسن نيّة، وان عرفات هو الذي رفض اليد الممدودة. وهو الى ذلك من ساعد على اسقاط باراك وحكومته. ان يكون ذلك الكلام صحيحاً ام كاذبا، فذلك ما يبقى نسبي الاهمية، اما المشكلة فهي في ان يكون ذلك هو رأي الغالبية الاسرائيلية، او يقينها، وان تبني عليه موقفها من التسوية على نحو يؤدي الى تعليق هذه الاخيرة او الى تأجيلها الى اجل غير مسمى، وذلك حتى دون الحاجة، ضرورة ولزاما، الى خوض غمار حروب جديدة، اي مع الاكتفاء بتعذر "خيار" الحرب من جانب الاطراف العربية. وما قد يشجع على سلوك مثل هذا المنحى أن المناخ العام قد تغير، وان حل النزاعات العالقة لم يعد بالهاجس الضاغط والملح، لأسباب نفسية او استراتيجية، على ما كانت الحال خلال السنوات الأولى التي اعقبت نهاية الحرب الباردة. اما الادارة الاميركية الجمهورية الجديدة فربما كانت، بالنظر الى توجهها الخليجي التقليدي، اكثر ميلا الى ايلاء الاولوية للملف العراقي، على خلاف سابقتها الديموقراطية التي كانت، بالرغم من كل المآخذ عليها لما اتسمت به من اسراف في الانحياز ومن تغليب لمصالح الدولة العبرية، تضع النزاع الاسرائيلي الفلسطيني في المقام الاول من مشاغلها. لكل ذلك، فإن احتمال ان تكون "عملية السلام"، كما عهدناها حتى الآن، قد انتهت او جمدت الى امد، امر لا يتعين استبعاده او الاستهانة به، بل الاستعداد الى امكانية حدوثه وربما الى ترجيحه.