يصل آرييل شارون الى رئاسة الوزراء في دولة امضت خمس عمرها، حتى الآن، في اطار عملية التسوية التي افتتحت بمؤتمر مدريد، وتوّجت باتفاق اوسلو، ويأتي الفوز الكاسح الذي حققه زعيم "ليكود" ليكرس الشكل العام الذي باتت تتخذه عملية تسارع تداول السلطة في اسرائيل ما بعد اوسلو، بين اليسار الذي تولى الحكم بغرض احراز تقدم في العملية السلمية، والذي يعتقد بامكان التخلص من الديموغرافيا الفلسطينية من خلال عزلها في حيّز جغرافي محدود، كما يعتقد بامكان تبديل البيئة المحيطة باسرائيل على اساس ربط عمق الانسحاب بعمق السلام، وبين اليمين الذي ينهض في وجه تجريبية حكومات العمل، مستفيداً من جنوحها الى العنف في شهورها الاخيرة، فيتولى الحكم بغرض كبح "التنازلات" وتأديب الفلسطينيين، وردع العرب، وتؤدي به قاعدة التداول الى الجمع بين الاطار العام الذي حدده اوسلو واليسار، وبين الحل اليميني الاصيل للمعضلة الديموغرافية، وهو الحل الذي يقوم على استيطان مناطق الفلسطينيين، و"العيش معهم". كي تتأمن عملية انتقال السلطة في اسرائيل من اليمين الى اليسار، يجب ان يدخل اليمين ازمته، وكي تعود السلطة الى اليمين، يجب ان يدخل اليسار ازمته، ومن طريق هذا التداول تتمازج الطروحات، والرؤى حول القضايا الداخلية والخارجية. وفي النهاية، قد يكون اليسار في ازمة، وقد يكون اليمين في ازمة، لكن اسرائيل بحد ذاتها، اسرائىل المشروع، والكيان، والدور، ليست في ازمة من النوع الذي يهواه خطابنا العربي. ان الديموقراطية الصهيونية تمتلك قدرة فائقة النظير على التعامل مع تناقضاتها الداخلية، في ظل عملية التسوية، وذلك من خلال اعتمادها عملية تسارع تداول السلطة. الا ان ذلك لا يلغي نوعية الخيار الذي خلصت اليه صناديق الاقتراع، فبمقدار ما يمتثل فوز شارون للقاعدة التي تحكم التداول في ظل التسوية، بمقدار ما يمثله وصوله من مسعى لتجاوز هذه القاعدة، والقفز من فوقها، بالانتقال من منطق القمع الى منطق التصفية، وبالانتقال من الرياء الصهيوني حول حجم "التنازل" للفلسطينيين، الى البحث في مقدار ما يمكن "استرجاعه" منهم. ان انتخاب شارون رئىساً للوزراء هو اختيار مزدوج، فهو من جهة "اعادة اختيار" للحظة الجمود في عملية التسوية، اي انه من هذه الناحية "اعادة اختيار" لنتانياهو آخر، وهو من جهة اخرى اختيار نوعي للحظة "ساخنة" تسعى للتفلت من التسوية، بغية فرض منطق آخر، يبدأ من خلال العدوان الموسع ضد الانتفاضة، وضد السلطة الفلسطينية، ولا يمكن من هذه الناحية مقارنة شارون بالنموذج الذي قدّمه نتانياهو. قد لا يكون لدى الفلسطينيين ما يمكن التنازل عنه، لكن لديهم بالتأكيد ما يمكن خسارته او فقدانه، وبالتالي فإن المصلحة الفلسطينية والعربية مناقضة في الجوهر لما هو سائد في الخطاب العربي الراهن من نزعات مكابرة تقابلها نزعات انهزامية. نعم لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، لديهم مكاسب التفاوض، ومكاسب الانتفاضة. انتفاضة الأقصى والاستقلال حولت المكاسب الشكلية المحققة من طريق التفاوض الى مكاسب عملية، وحقيقية. لا يمكن اخفاء التناقض بين روحية اوسلو، وروحية الانتفاضة، بيد انه في نهاية المطاف تولدت مكاسب من جدلية اوسلو والانتفاضة، فقد تم حرر معظم البلدات وتجمعات السكان في الضفة والقطاع، وتحققت الوحدة الوطنية على اساس الفاعلية النضالية فازدادت واقعية الأكثر راديكالية، وراديكالية الأكثر واقعية، كما فتح الباب على مصراعيه لقضايا الحل النهائي، وهي قضايا كان يعتقد اكثرنا ان اوسلو يمهد لعدم طرحها، او لارجائها الى ما لا نهاية. اما اهم المكاسب على الاطلاق، فهي برأينا، اتخاذ الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي في فلسطين التاريخية بعضاً من سمات او اشكال "الحرب الاهلية"، لا سيما في ما يتعلق بالمعركة غير المتكافئة التي تدور رحاها في الضفة الغربية بين المواطنين والمستوطنين. لم تخرج، ولا يجب ان تخرج، الانتفاضة الحالية عن منطق التسوية مع الدولة الصهيونية، ولو كانت هذه الانتفاضة تعبّر بالضرورة عن تناقض عميق مع اساسات المشروع الصهيوني. ان المكاسب التي حققتها جدلية التفاوض والانتفاضة باتت مهددة بلا شك مع مجيء شارون، والخطر المحدّق بها سيزداد في ما لو نجح الاخير في تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل، او في ما لو استمر تقاسم الساحة العربية بين المكابرين، والانهزاميين. يجد المكابرون في صعود شارون فرصة مناسبة للانقضاض على التزام الانتفاضة بمنطق التسوية، ولا يرى الانهزاميون من سبيل للرد على وصول شارون سوى التداعي الى وقف او عزل الانتفاضة، ويتفق كل من المكابرين والانهزاميين بأنه ليس ثمة ما يمكن للجانب الفلسطيني ان يخسره، او يكسبه، طالما ان دولة اسرائىل موجودة. ان الركون لواحدة من النزعتين، المكابرة او الانهزامية، يفقدنا القدرة على التعامل مع المسألة الرئىسية التي يطرحها وصول شارون على جدول اعمال عملية التسوية: اذا كانت الانتفاضة لا تبتعد كثيراً عن منطق التسوية السائد حتى الآن، فهل يمكن لعملية قمع او وأد الانتفاضة ان تخرج عن هذا المنطق؟ لم تنتخب اسرائىل شارون آخر غير الذي عرفناه، ولكي لا نذهب بعيداً نقول، غير الذي اشعل الانتفاضة باستفزازه مشاعرنا الوطنية والقومية والدينية يوم دنّس الحرم القدسي الشريف. جرى اختيار شارون، وهو في قمة تطرفه، وجرى اختيار تطرفه لتوحيد السياسة الاسرائيلية، بيد ان ذلك لا يحجب دلالات المفارقة، فشارون الرافض في الاساس لأوسلو، وصاحب الباع الطويل في مسيرة الاستيطان في "يهودا والسامرة"، يصل الى رئاسة الوزراء في مرحلة يفترض ان تدور المفاوضات خلالها حول قضايا الوضع النهائي. ان الخيار النوعي الذي اسمه شارون يأتي كحلقة في سلسلة، ومثلما لا يمكن توقع شارون آخر او جديد، لا يمكن توقع صنف آخر او جديد من رئاسة الوزراء في اسرائىل، وبمعنى آخر اختارت اسرائيل شارون لفترة من الوقت قد تقصر او تطول بحسب الضرورة، اي بحسب المهمة التي اوكلها الناخبون الاسرائيليون الى شارون باخماد الانتفاضة، وليس بحسب ما نتمناه نحن من ازمة دستورية تطيح بشارون وتجعلنا نبدأ العد لسقوطه منذ اليوم. لا يمكن التأسيس على حادثة تفكيك مستوطنة ياميت في سيناء يوم كان شارون وزيراً للدفاع. سيناء ليست الضفة، وسيناء هي بالنسبة لليكود الثمن الذي دفعته اسرائىل لاطلاق حرية النشاط الاستيطاني المقطّع لأوصال الضفة، هذا النشاط الذي كان آرييل شارون رائده، ومهندسه. لا يمكن سوى ان نتوقع جولات نوعية من العدوان، والاستيطان، وكل ما اعتقدنا ان عملية التسوية قد تجاوزته يمكنه ان يعود ويطرح نفسه كامكان يمكن ان تلجأ اليها اسرائيل، فإن كان هناك مسافة معينة بين التهديد والتنفيذ بالنسبة لباراك، فإنه من المرجح ان هذه المسافة ستضمحل في عهد شارون. لا يملك الشعب الفلسطيني في مواجهة الاسلوب الشاروني سوى خيار الانتفاضة، ولا تملك هذه الانتفاضة من خيار خارج اطار منطق التسوية وتحسين شروط الهزيمة، وبناء الكيان المستقل فوق معظم مناطق غزة والضفة، مع اتخاذ جزء من القدسالشرقية عاصمة للدولة، وجعل حق انتماء كل فلسطيني في الشتات الى هذه الدولة، وحق كل لاجئ في الهجرة او العودة اليها، على رأس معايير السيادة الوطنية. ينبغي للانتفاضة ان تستمر، وان تتطور كعملية دفاعية تناضل من اجل تسوية مشرفة ومجحفة في آن. لم تأت الانتفاضة بشارون، ولا يصح القول في اي وقت من الاوقات إنه ما كان ينبغي ان تُرجم الدبابة الاسرائىلية بحجر. المهم هو الحرص على الترابط العضوي بين منطق الانتفاضة ومنطق التسوية، والا وقع منطق الانتفاضة في اسر منطق العدوان، لذا فإن التكتيك الانتفاضي ينبغي ان يتراوح بين استنزاف الخيار الشاروني وبين الضغط باتجاه تغليب عناصر الجمود ضمن هذا الخيار، على عناصر تعديل الخارطة السياسية والتفاوضية. ان المطلوب فلسطينياً، وفي المنحى الأكثر تفاؤلية، هو تحويل مرحلة شارون الى مرحلة استعادة اسرائىلية للنموذج الذي مثلته حكومة نتانياهو، وصولاً الى اللحظة التي يمكن ان تفرز فيها اسرائيل معسكر سلام جديد يفضي الى حكم جديداً قادر على متابعة المفاوضات من حيث توقفت في طابا. والمطلوب عربياً عدم تبادل الكأس الشارونية، وعدم توهم امكان تقدم اي مسار تفاوضي في ظل شارون، واعطاء الاولوية للتقارب العربي - العربي، وبالذات الفلسطيني - السوري والفلسطيني - اللبناني، مع الحرص على عدم ابقاء الجنوب اللبناني في موقع الحلقة الاصعب من الصراع، فهكذا حلقة لا تليق لا بالانتصار الذي حققته المقاومة الاسلامية، ولا بأثر هذا الانتصار في افئدة وعقول الجماهير العربية. ينبغي للجنوب ان يتابع تحرره الوطني بأن يتحول الى حلقة قوية لا تترك اي مبرر لشارون للقيام بأي قصف جوي او توغل بري حائز سلفاً على التغطية الدولية. * كاتب لبناني.