حتى منتصف الثمانينات، كانت لؤلؤة البحر الأحمرالغردقة 370 كليومتراً جنوبالقاهرة لا تعدو كونها مجرد قرية صغيرة يعمل سكانها المتناثرون بصيد السمك، حتى ان كثيراً من المصريين لم يكن قد سمع بها بعد. لكن تلك المدينة الصغيرة نجحت في أعوام قليلة في أن تتحول الى المنتجع السياسي الأول على البحر الأحمر، بل انها تنافس وجهات سياحية عالمية مثل جزر الكناري، وتناريف، ومايوركا وغيرها. هذا النجاح السياحي والاقتصادي السريع جداً أنتج تركيبة اجتماعية مفرطة في الغرابة والطرافة في آن. فبعدما كان النشاط السياسي في المدينة يقوم على عدد من المنتجعات والفنادق لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، تضاعف الرقم بسرعة صاروخية، ويتوزع الآن على شريطها الساحلي 20 كيلومتراً مئات المنتجعات، والفنادق بمختلف تصنيفاتها من خمس نجوم الى نجمة واحدة. إضافة الى بيوت الشباب وقاعات الديسكو والمطاعم. وتطلبت النهضة السياحية هذه أعداداً هائلة من العمالة، حيث توافد على المدينة الآلاف من الشبان ليعملوا في البناء أولاً وثم للالتحاق للعمل في مؤسساتها كعمال استقبال، وضيافة، ونوادل، وخدمة غرف، وفي فرق الانقاذ حول حمامات السباحة، وبقدر ما نجحت الغردقة في توفير فرص عمل للشباب الذي كان يعاني البطالة، بقدر ما تحولت الى ما يشبه مجتمعات المهاجرين الجديدة، حتى ان احدهم شبهها بالولايات المتحدة الأميركية في بداياتها، حين وفدت اليها جحافل المهاجرين من مختلف بلدان أوروبا. وعلى رغم ان العمالة الوافدة مصرية، الا انها تنتمي الى مدن مختلفة بعاداتها وتقاليدها. ومعظم الوافدين من قنا وأسوان والأقصر، وهو ما يطلق عليه صعيد مصر أي صعايدة، وآخرين من المنصورة والبحيرة وطنطا أي "بحاروة". ولم يحل اندماج أعضاء الفريقين في نمط "ريتم" حياة واحد، الا ان دقائق قليلة تكفي للتعرف الى الخلافات بينهما. فالفريق الثاني دائم السخرية من "الصعايدة" ولهجتهم وأحياناً الطريقة التي يتصرفون بها، ويلجأون الى نكات الصعايدة التي لا أول لها ولا آخر. وينظر الفريق الأول الى الثاني ولسان حاله يقول: "أولئك البحاروة" لا يعون المعنى الحقيقي للرجولة. وكثيراً ما تنشب خلافات تتراوح في حجمها وحدتها بين الفريقين، لا سيما ان الجميع يعيش في أماكن اقامة واحدة. فمعظم قرى وفنادق الغردقة توفر سكن العمال والموظفين "المهاجرين" اليها في داخل المنشأة السياحية نفسها، أو في مبانٍ سكنية قريبة. وتزيد من حدة تلك الخلافات ضيق الغرف التي يتقاسمون العيش فيها، الى درجة لا تسمح لأحد بأدنى الخصوصية. ويتساوى الفريقان في الهم على رغم خلافاتهما إذ بين أصحاب القرى والفنادق السياحية "اتفاق جنتلمان" يقضي بتوحيد نظام العمل، فإذا كان قانون العمل المصري يلزم صاحب العمل بألا تزيد ساعات العمل يومياً على الثماني ساعات، فإن شروط العمل في فنادق الغردفة لا تعترف بالقانون، فالنادل مثلاً يعمل في المطعم في فترة وجبة الإفطار منذ الساعة الخامسة والنصف صباحاً الى نحو الحادية عشرة، ثم في فترة الغداء من الواحدة الى الثالثة والنصف، وخلال وجبة العشاء من الساعة السادسة الى الساعة العاشرة مساء، أي نحو 12 ساعة يومياً. والغالبية العظمى من العاملين من الشباب الحاصل على مؤهلات متوسطة وعليا، أي انهم خريجو جامعات ومعاهد متوسطة، وهم لا يعودون الى مسقط رؤوسهم لزيارة الأهل إلا مرتين أو ثلاث سنوياً، ولأسباب، منها ما هو مادي، كارتفاع كلفة المواصلات ومنها ما هو عملي، إذ لا يسمح صاحب العمل أو من ينوب عنه بتعدد الإجازات. ومنها ما هو اجتماعي، ولذلك السبب قصة طريفة، وشر البلية ما يضحك. الفقر والبطالة والضغوط الاجتماعية والنفسية التي تعرض لها أولئك الشبان قبل وأثناء عملهم في الغردقة كثيرة، ونتج عن ذلك ظاهرتان، كلتاهما أسوأ من الأخرى. الظاهرة الأولى هي محاولة التنصل من الجذور، والاحتماء بكل ما هو أجنبي. فها هو مصطفى 22 عاماً خريج المعهد العالي للسياحة والفندقة الذي التحق به بعد المجموع الضعيف الذي أحرزه في ماراثون الثانوية العامة، ما اضطر والده الى تضييق الحزام على نفسه وزوجته وبقية أبنائه لتوفير نفقات المعهد الباهظة. وبعد سنوات الدراسة العجاف، التحق مصطفى بالعمل في الغردقة، وبفضل شخصيته الاجتماعية والابتسامة التي لا تفارق وجهه، وعلى رغم انكليزيته الركيكة كوّن صداقات عدة مع السياح الايطاليين والألمان والروس، وهي أكثر الجنسيات تردداً على الغردقة. ويتعمد مصطفى أثناء حديثه مع المصريين أن يردد كلمة Sorry? عقب كل عبارة أو سؤال يوجهه العميل المصري، ويعلل ذلك بأنه بدأ ينسى اللغة العربية. أما محمد وهو مدير مطعم، فيؤكد ان الأجانب لا يأكلون سوى الأطعمة الخفيفة وبكميات قليلة، وطلباتهم كلها معقولة، في حين ان النزلاء المصريين يملأون أطباقهم بما لذ وطاب من أطعمة البوفيه المفتوح، وطلباتهم كلها سخيفة، وما لا يراه محمد، أو بمعنى أدق ما يرفض أن يراه محمد هو ان الكثر من النزلاء الأجانب يملأون حقائبهم بما لذ وطاب من محتويات البوفيه المفتوح، وذلك لتوفير ثمن وجبة الغداء. وأقنع عدد كبير من العمال والموظفين المصريين نفسه بأن الأجانب ينتمون الى مرتبة أرقى من البشر، بما في ذلك السياح الروس الذين يعانون ظروف معيشية أسوأ بكثير من تلك التي يعيشها المصريون. والظاهرة الثانية وثيقة الصلة بالأولى، وهي زواج الموظفين المصريين من السائحات الأجنبيات، ويتم الزواج غالباً بين شبان في منتصف العشرينات من العمر. أما العروس، فتكون في الغالب إما المانية أو هولندية، وتكون في العقد الخامس أو السادس من العمر. ومتوسط عمر الزيجة يتراوح بين ست وسبع سنوات، تأتي خلالها العروس مرة كل عام الى الغردقة محملة بالهدايا للعريس، من أجهزة كومبيوتر وكاميرات متطورة إضافة الى الماركات أو الدولارات. وفي المقابل، يقدم لها العريس جلباباً مصرياً، وجعارين، وأوراق بردى وغيرها. ويمضي معها فترة الإجازة يمطرها خلالها بكلمات الحب والهيام. وعلى رغم ان غاية الشاب تكون في معظم الأحوال ان يسافر مع زوجته الى بلدها والحصول على جنسيتها، الا ان ذلك لا يحدث في أكثر الأحوال. وعلى رغم انتشار تلك الظاهرة، الا ان البعض، لا سيما من شباب الصعيد، يرفض الفكرة تماماً، وإذا اضطر للجوء اليها فتكون سراً خوفاً من أهل قريته أو مدينته. ويقول عبيد 23 عاماً هو من سكان قنا، ويعمل في قرية سياحية في الغردقة: "تزوج زميل لي من سائحة المانية. فأهدرت أسرته في قنا دمه، وذلك لأن الزواج لدينا يتم عادة في اطار الأسرة الواحدة". وعلى رغم ذلك، فإن عبيد عقد العزم على الزواج من سائحة ويفضل ان تكون المانية أو هولندية، لأنهما من الجنسيات الأكثر ثراء، على ان تصحبه معها الى بلدها. فهو فشل عشرات المرات في الحصول على تأشيرة الى أي من دول أوروبا، كما انه لا يملك ثمن تذكرة الطائرة. ومجتمع العاملين في الغردقة ليس ذكورياً خالصاً، فهناك فئات أنثوية، وان كانت أقل عدداً. الفتيات المصريات العاملات نادرات، وينتمين في الغالب إما الى عائلات لا تمانع في سفر الابنة الى الخارج للعمل، أو عائلات فقيرة جداً لا سبيل أمامها سوى "هجرة" الفتاة من أجل لقمة العيش. لكن يستحيل وجود فتيات صعيديات يعملن في الغردفة، إذ ان الفكرة أساساً غير واردة، حتى لو كانت أسرتها لا تملك شيئاً. والفئات الأنثوية الأخرى العاملة في الغردقة إما ايطالية أو روسية أو المانية. والإيطاليات يعملن لفترات موقتة في الاستقبال أو ضمن فرق الترفيه والرقص، ويتكون الفريق عادة من مجموعة من الفتيان والفتيات الإيطاليين، ومهنتهم تنظيم مسابقات ومباريات وتمارين رياضية طوال اليوم في حمام السباحة، وعلى الشاطئ إضافة الى الألعاب التي تقدم ليلاً قبل العروض الراقصة اليومية. وهي التي تقدمها الفئة الثانية، إذ انتشرت ظاهرة الروسيات اللائي يعملن كراقصات شرقيات انتشار النار في الهشيم. والحق يقال إنهن أصبحن من عوامل الجذب السياحي هناك خصوصاً للسياحة الداخلية، فقد اتقن أصول الرقص الشرقي، وأضف الى ذلك ارتفاع نسبة الجمال وتناسق الأجسام الى درجة تزعج الزوجات المصريات. أولغا وكاتيا وإيلينا، ثلاث فتيات روسيات أكبرهن في العشرين من عمرها، تتقاضى كل منهن مئة جنيه مصري في نصف الساعة، ومرتبطات بعقود مع خمس قرى سياحية في الغردقة، وترتفع الى سبع قرى في مواسم الذروة، والثلاثة يرددن شكوى واحدة، تعسف أصحاب القرى والفنادق في شروط العمل، الذين يستخدمون ورقة التهديد بالترحيل، إذ انهن غير حاصلات على إذن بالعمل. وهن يعتبرن فترة عملهن في الغردقة بمثابة فرصة لتكوين مبلغ من المال، وتحلم كثيرات من الروسيات الراقصات بفرصة احتراف الرقص الشرقي في ملاهي القاهرة الليلية، والحصول على اقامة شرعية. ومسألة زواج الروسيات من الشباب المصري غير واردة، أو على الأقل نادرة، فكلاهما في حاجة الى دعم مادي، والشاب المصري لا يحلم بالسفر الى روسيا لأن ذلك سيكون بمثابة الهروب من النار الى المقلاة. كما ان الفتاة الروسية هدفها توفير مبالغ مالية تساعدها على الحياة في روسيا لو تعذرت لها الهجرة الى أميركا أو أوروبا الغربية. أما الألمانيات، فالغالبية العظمى من المقيمات منهن في الغردقة يملكن أو يدرن مراكز غطس. وتزوج بعضهن من مصريين لتسهيل الحصول على اقامة. مجتمع الغردقة حافل بالحالات والظواهر التي تثري مكتبة أي جهة تعنى بالنواحي الاجتماعية، فهذه المدينة التي يطلقون عليها في الخارج Party Town أو "مدينة الحفلات" التي تستمر من المساء الى صباح اليوم التالي، هذه الحفلات ينظمها ويخدم روادها القادمين من أرجاء المعمورة شباب مصري قدم معظمه من Problem Town أو "مدن المشكلات" حيث البطالة والزحام والتلوث، وكانت النتيجة تلاحم فئات وأنواع من البشر في بوتقة واحدة تنتظر من يحللها ويدرسها دراسة علمية متأنية.