الأخضر يواصل تدريباته استعدادا لمواجهة العراق في خليجي 26    نوتينغهام يواصل تألقه بفوز رابع على التوالي في الدوري الإنجليزي    في أدبي جازان.. الدوسري واليامي تختتمان الجولة الأولى من فعاليات الشتاء بذكرى وتحت جنح الظلام    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    وطن الأفراح    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    المملكة ترحب بالعالم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلات الحج للأستاذ أحمد محمود: توثيق بارع ووصف سردي شامل لرحلات الحج قديمًا
نشر في البلاد يوم 04 - 03 - 2010


عرض: منير عبدالقادر
كسب جديد تستقبله الساحة الثقافية السعودية وخاصة فيما يتعلق برحلات الحج قديما حيث قدم الاستاذ احمد محمد محمود مؤلفه الجديد (رحلات الحج) في ثلاثة اجزاء جمعت معظم رحلات الحج التي دونها اصحاب الرحلات من علماء ومفكرين حيث عمد الاستاذ محمود الى جمعها وتلخيصها وتثبيتها من مصادرها لتخرج في شكل الموسوعة التي تهتم بأعظم الشؤون الاسلامية الا وهو الحج.
والمؤلفات الثلاثة تتميز بنقل القارئ الى اجواء رحلات الحج قديما لكل كاتب رحلة حسب زمانه وحسب ما حدده من غرض لرحلته وحسب تمكنه من الثقافة وحسب براعته في الكتابة وحسب مقدرته الوصفية وحسب ما جذب اهتمامه طوال القراءة لتنصب هذه العوامل جميعها في العمل على نقل القارئ الى تلك الازمان ومنحه القدرة على ان يصبح فردا منها، حيث تحتوي المؤلفات الثلاث على معظم الرحلات العالمية الى الحج.
تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار
ضم المؤلف الاول من موسوعة الاستاذ احمد محمود رحلة محمد بن جبير الاندلسي للحج وهو من مواليد مدينة بلنسية ليلة 17 ربيع اول من عام 540 هجرية - 1145م لأسرة عربية مصرية نزلت عام 123 هجرية مع - بلج القشيري - منطقة - شذونة - في الاندلس، واصبح والده كاتبا لدى دولة الموحدين في - شاطبة - وعلمه والده الكتابة وحسن الخط، حتى اصبح مرشحا لكتابة الدواوين في الدولة الاندلسية.
وقد عزم بالحج الى بيت الله الحرام وكان يتحين الفرص حتى تحقق له ذلك عام 578 هجرية - 1082م وهو في ال 28 من عمره، وقد استشرقت رحلته للحج ثلاث سنوات وثلاثة اشهر ونصف، ثام قام برحلته الثانية عام 585 هجرية - 1191م، لما سمع بتحرير صلاح الدين الايوبي لبيت المقدس من الصليبيين ثم قام برحلته الثالثة بعد وفاة زوجته عام 601 هجرية - والتي استغرقت 10 سنوات، ولم يعد من هذه الرحلة الى وطنه، متنقلا بين مكة وبيت المقدس والقاهرة، ومشتغلا بالتدريس حتى وافاه الأجل بالاسكندرية، في 29 شعبان عام 614 هجرية - 1217م، وبها دفن.
ولما عزم على الحج في رحلته الاولى، باع ملكا له تزويد به للحجن حيث مال الى الزهد وترك المنصب، واتجه الى التصوف ولعل اهم سمة من التصوف علقت به هي - حسب السماع - مستشهدا بحب اهل الحجاز له منذ القرن الاول الهجري، وفي هذا قال:
ومن لم يحركه السماع بطيبة
فذلك اعمى القلب اعمى التصور
وقد وصفه كتاب التراجم من الاندلسيين بانه "اديب بارع، وشاعر مجيد، وسني فاضل، نزيه الهمة سري النفس، كريم الاخلاق، انيق الطريقة في الخط".
واعتبر الاديب عبدالقدوس الانصاري كتاب رحلته واحدا من خمس رحلات اعجبته من بين كل ما قرأ من كتب الرحالة، كما ان المستشرق الروسي كراتشكوفسكي وصف رحلته بانها "الاكثر قيمة من ناحية الصياغة بين كتب الرحلات بلا منازع".
وصف الأندلسي لدخوله مكة
غادرنا جدة في 11 ربيع الثاني من عام 579 الى مكة المكرمة وتوقف عند "القرين، وبه بئر عذبة وهو منزل الحجاج، ومنه يحرمون فأحرمنا بعمرة، فكان وصولنا مع الفجر قريب الحرم، فنزلنا مرتقبين انتشار الضوء.
دخلنا الى مكة يوم 13 من ربيع الثاني عام 571 فألفينا الكعبة الحرام، عروسا مجلوة، مزفوفة الى جنة الرضوان، محفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلينا بالمقام الكريم، وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم، ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائه، ثم سمينا بين الصفا والمروة، ثم حلقنا واحللنا، فالحمدلله الذي كرمنا بالوفادة عليه، وجعلنا ممن انتهت الدعوة الابراهمية اليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل".
ومن المسجد الحرام والكعبة المشرفة، نقلا عن سادن البيت الحرام: محمد بن إسماعيل الشيبي وارتفاع البيت في الهواء من جهة باب الصفا 29 ذراعا، وسائر الجوانب 28 ذراعا، بسبب انصباب السطح الى الميزاب، وداخل البيت مفروش بالرخام المجزع، وكذلك حيطانه، وسقفه قائم على ثلاثة اعمدة من خشب الساج، ودائرة من نصفه الاعلى مطلي بالضفة المذهبة، وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون، وظاهر الكعبة كلها مكسو بستور من الحرير الاخضر، مبطن بالقطن، وفي اعلاها مكتوب "ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين" واسم الامام العباسي الناصر لدين الله، والدعاء له، واول ما يلقي الداخل على الباب صندوقان فيهما مصاحف".
ثم توسع في وصف ما شاهد او نقل اليه من داخل الكعبة وخارجها، وبابها، ومقام ابراهيم، وموضع الطواف وطواف النساء في اخر الحجارة المفروشة وذرع المسجد 400 ذراع طولا و300 عرضا، بينما طول المسجد النبوي 300 ذراع طولا وعرضه 200 ذراع، وطول مسجد بيت المقدس - اعاده الله للسلام 780 ذراعان وعرضه 450 ذراعان ووصف حجر اسماعيل، والميزاب والحجر الاسود وابواب الحرام ال 19 ذراعا وعن عجيب ما عرض علينا بباب بني شيبة، عتب من الحجارة العظام. "ذكر انها الاصنام التي كانت قريش تعبدها في الجاهلية وكبيرها - هبل - بينها، وهذا غير صحيح، وسواري المسجد 400 سارية ولم احسب تلك التي خارج الصفا، ومناراته ثلاثة وتلى قبة زمزم من ورائها قبة الشراب - العباسية وداخلها مصحف احد الخلفاء الراشدين الاربعة بخط زيد بن ثابت رضي الله عنهما، نسخ عام 18 من وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثم وصف مكة المكرمة شرفها الله، واثارها، وابوابها الثلاثة: باب المعلا، باب المسفل، باب الزاهر، وحصر من اثارها: قبة الوحي وهي في دار خديجة ام المؤمنين، رضي الله عنها، وفيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم بني عليه مسجد، ودار الخيزران التي كان صلى الله عليه وسلم يتعبد فيها سرّاً، ودار ابي بكر الصديق رضي الله عنه، وقبة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والصحيح انها قبة حفيده عمر بن عبدالعزيز، ودار جعفر بن ابي طالب ذي الجناحين، وبجهة المسفل مسجد منسوب لابي بكر الصديق رضي الله عنه، يحف به بستان حسن فيه نخل ورمان وشجر العناب والحناء، وعلى مقربة من دار أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مصطبة كان صلى الله عليه وسلم يجلس عليها.
ثم استعرض جبال مكة، وشهرتها المرتبطة بنزول الوحي، وخاصة جبل ثور، وبه غار حراء وعوام الناس يزعمون أن الذي لا يتمكن من دخوله، متهم في عرضه، وجرى ذلك على ألسنتهم حتى أصبح عندهم حقيقة راسخة "ولاحظ الرحالة الرخاء بمكة، ووفرة الحاجيات بها زمن الحج" وكنا نظن أن الأندلس اختصت بذلك، حتى حللنا بهذه الأرض المباركة، فألفيناها تغص بالنعم والفواكه والخضر، لا تكاد تنقطع طوال العام، ومن أعجب ما اختبرناه من فضيلة فواكهها البطيخ والسفرجل، ذلك أن رائحة بطيخها من أعجب الروائح وأطيبها، ويبسط من الحلويات في رجب وشعبان ورمضان بين الصفا والمروة ما لم أشاهد مثله منظرا لا في مصر ولا سواها، ولحوم ضأنها العجب العجيب، فهي أطيب لحم يؤكل في الدنيا، ومن أغرب ما استمتعنا به الرطب، وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر عندنا، وهو في نهاية من الطيب واللذاذة، لا يسأم التفكه به".
"ومن أعجب ما وجدناه أمنها من الحرابة والمتلصصين فيها على الحجاج، المختلسين ما بأيديهم، والذين كانوا آفة الحرم الشريف، بعد أن أظهر أميرها التشدد عليهم فتوقف شرهم، وما زال الناس يسلسلون أوصاف أحوالها هذه السنة، وتميزها عن سابقها من السنين، حتى لقد زعموا أن - زمزم- زاد عذوبة، ومن أمور شرب زمزم المجربة أنه يجدد نشاط البدن بعد فتور لمن شربه أو اغتسل".
ولما وافى مطلع جمادى الآخرة "وافى أمير مكة الحرم على عادته مطلع كل شهر، ولأهل هذه الجهات الشرقية سيرة حسنة عند مستهل كل شهر، يتصافحون، ويهنئ بعضهم بعضا، ويتغافرون، ويدعو بعضهم لبعض، كفعلهم في الأعياد".
ثم استهل شهر رجب "وله عند أهل مكة موسم من المواسم المعظمة، وهو أكبر أعيادهم، والعمرة الرجبية عندهم هي أخت وقفة عرفات، لأنهم يحتفلون لها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله، ويجتمع له من خارجها خلق لا يحصيه إلا الله، ويقع الاستعداد لها قبل حلوله بأيام، ولم يبق ليلة الأول من رجب من أهل مكة إلا من خرج للعمرة، وخرجنا معهم".
وسجل مجيء رجال جبال السراة - من قبائل اليمن - في رجب بما لديهم من الحنطة والحبوب واللوبيا والسمن والعسل والزبيب واللوز، يقايضونه مع أهل مكة بالأقنعة والملاحف المتان وما أشبه، مما يلبسه الأعراب.
ثم وصف تنافس الأئمة الأربعة في احياء ليالي رمضان بالقيام للتراويح، والعناية بإنارة المسجد الحرام بالشموع "والشافعي في التراويح أكثرهم اجتهاداً، فهو يكمل التراويح المعتادة بعشر تسليمات، ثم يدخل الطواف فإذا فرغ منه، عاد لإقامة تراويح آخر، فإذا فرغ من تسليمتين عاد للطواف، وهكذا حتى يفرغ من عشر تسليمات فيكمل له 20 ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر، وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً "وصف الاحتفال بختم القرآن في المسجد الحرام" وكل وتر من الليالي العشر الأواخر من رمضان، يختم فيه القرآن ختمة في التراويح، فأولها ليلة 21 ختمة أحد أبناء مكة، وكذلك ليلة 23 ختمها مكي آخر، وليلة 25 ختم فيها الإمام الحنفي، وليلة 27 ختم فيها الإمام الشافعي" وأي حالة توازي شهود ختم القرآن هذه الليلة، خلف المقام الكريم، وتجاه البيت العظيم، إنها لنعمة تتضاءل لها النعم، تضاؤل سائر البقاع للحرم، وليلة 29 ختم كل أئمة المذاهب القرآن تلك الليلة وفي كل هذه الختمات يتلوها احتفال في بيت إمام التراويح ليلة الختم، تتميز بأطايب الطعام والشراب لجميع الحضور.
ثم استهل شهر شوال، فكان الاحتفال بالعيد عظيما ويوم 19 من الشهر صعد - ابن جبير - إلى منى لتفقد المشاعر بها، ورؤية المكان الذي سينزل فيه خلال أيام الحج، ثم بدأ في زيارة المآثر، ومنها جبل حراء، ومن بعده زار جبل ثور، ثم في ذي القعدة زار مكان مولده صلى الله عليه وسلم، ودار أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. ويوم 27 " أحرمت الكعبة المشرفة، فرفعت أستارها نحو قامة ونصف"
جاءت الشهادات تؤكد ثبوت الهلال ليلة الخميس، فتكون وقفة عرفات: الجمعة، فأخذ بها القاضي " وتوجه الحجاج يوم الخميس إلى عرفة، تاركين سنة المبيت ليلتها بمنى، اضطراراً بسبب الخوف من مغيرين عليهم من طريقهم إلى عرفات، لكن الأمير سيّرقوة تحمى الحجاج من هجمات القطاع، وتواصل الصعود يومي الخميس والجمعة، واجتمعت حشود لا تحصى عددا "شبيهة بيوم الحشر، فلما جمع الناس بين الظهر والعصر، وقفوا خاشعين، باكين، وإلى ربهم متضرعين، فما رؤى يوم أكثر مدامع، ولا قلوبا خواشع، ولا أعناقا لهيبة الله خواشع خواضع من هذا اليوم، حتى غربتت الشمس، فجعلوا قدوتهم في النفرة الإمام المالكي، ولما حان وقتالنفرة اشار الإمام المالكي بيده ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفرة دفعا، ارتجت له الأرض وودفت الجبال".
وفي مزدلفة تكامل الحجاج" واتقد المشعر الحرام تلك الليلة بمشاعل الشمع المسرج، وعاد المسجد نورا، فخيل للناظر أن كواكب السماء كلها نزلت به، لما صلى الحجاج الصبح نفروا إلى منى، فرموا العقبة ونحروا وتحللوا، ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة، ثم أكملوا مناسكهم أيام التشريق، ويوم التعجل من منى كان بين سودان أهل مكة والأتراك العراقيين جولة وهوشة، وقعت فيها جراحات، وسلت سيوف، ورميت سهام، وانتهبت بعض أمتعة التجار، فوقى الله شر تلك الفتنة بتسكينها سريعاً، وكمل للناس حجهم، والحمد لله"
ويوم 13 من ذي الحجة كُسيت الكعبة بلباسها الجديد الذي حملته من محلة أمير الحج العراقي أربع جمال، فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة، ثم اشتغل الشيبيون في إسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسنا، فكملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صونا من أيد الأعاجم، وشدة اجتذابهم لها، وتهافتهم وانكبابهم عليها".
ثم بدأ - الرحالة - استعداده لمغادرة مكة، فاكترى جمالاً توصله مع ركب الحج العراقي إلى الموصل، وغادرها في 22 من ذي الحجة، بعد مقام بمكة المكرمة دام ثمانية أشهر وثلث الشهر، وكان مروره على بطن وادي -مر - وبعد يومين نزل الركب " الذي لا يحصى عدداً، حتى أن أحداً لو ضل مكانه في النزول لا حتاج إلى من يرشده من رجال أكير الركب، فيطاف به وينادي عليه للتعريف به بين الجموع، وسيُر هذه الجموع ليلا بمشاعل موقدة، يسير الناس منها بين كواكب سيارة"
نزل قرب وادي عسفان، ومنها وصل إلى - خليص - وبها عين فوارة، أحدثت لها أخاديد في الأرض مسربة، يستقي منها على أفواه كالآبار، وواصل إلى وادي يسمى - وادي السمك" وهو اسم على غير مسمى " ثم واصل الركب إلى -بدر- ثم غادروا - بدر- أول المحرم عام 580هجرية، مارين على الصفراء، ثم ببئر - ذات العلم - وترعف بالروحاء نومنها الى شعب على رضى الله عنه، ومنها إلى تربان، فالبيداء " ومنها تبصر المدينة، فنزلنا وادي العقيق، ثم نزلنا بظاهر المدينة الزهراء، والتربة البيضاء، والبقعة المشرفة بمحمد سيد الأبنياء، صلى الله عليه وسلم، صلاة تتصل مع الأحيان والآناء".
ثم توجه إلى المسجد النبوي " وصلينا بالروضة التي بين القبر المقدس والمنبر" وسعتها من جميع جهاتها : 272 شبراً " واستلمنا أعواد المنبر القديمة التي كانت موطيء الرسول صلى الله عليه وسلم، والقطعة الباقية من الجزع الذي حن إليه صلى الله عليه وسلم، وهي ملصقة في عمود قائم أمام الروضة الصغيرة بين القبر والمنبر، عن يمينك إذا استقبلت القبلة فيها، ثم سلّم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه: صديق الإسلام وفاروقه عليهما رضوان الله، وانصرفنا إلى رحالنا مسرورين، ولنعم الله علينا شاكرين، ولم يبق لنا أمل من آمال وجهتها المباركة، ولا وطر إلى وقد قضيناه، ولا غرض من أغراضنا المأمولة إلى وبلغناه، وتفرغت الخواطر للإياب إلى الوطن"
وصف الرحالة المسجد النبوي " فهو مستطيل، وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة، ووسطه كل صحن مفروش بالرمال والحصى، والقبر الشريف مع آخر الجهة القبلية - الجنوبية - ومن بعض صحنه بلاطات منتظمة شكلها شكل عجيب، لا يكاد يتاتي تصويره ولا تمثيله، محرفة عن القبلة تحريفا بديعاً، لا يتأتي لأحد استقبالها في صلاته، وأبلغنا العالم الورع أبو غبراهيم اسحاق بن إبراهيم التونسي: أن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه اخترع ذلك في تدبير بنائه، مخافة أن يتخذها الناس مصلى".
ثم قاس طول المسجد 196خطوة، وسعته 126 خطوة، عدد سواريه 290 سارية، وهي " من حجر منحوت، مثقوب، يوضع بعضها فوق بعض، ثم يصب في ثقيها الرصاص المذاب، إلى أن تتصل عمودا قائماً " وشاهد الرحالة أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها الخليفةة عثمان بن عفان رضي الله عنه الى الامصار، وخزانة بها مصاحف وكتب موقوفة على المسجد، وعد أبواب المسجد النبوي : 19 بابا، مثل عدد أبواب المسجد الحرام، لكن المفتوح منها اربعة فقط، إثنان في الشرق "باب جبريل وباب الرجاء" واثنان في الغرب: باب الرحمة وباب الخشية" ووصف المنبر " وهو مُغشّى بعود الأبنوس، ومقعد الرسول صلى الله عليه وسلم من أعلاه ظاهر، قد طبق عليه بلوح من الأبنوس غير متصل به، يصونه من القعود عليه، فيدخل الناس أيديهم إليه تبركا، وعلى رأس محرابه صلى الله عليه وسلم حجر مربع أصفر ظاهر البريق، يقال أنه كان مرآة كسرى، والله أعلم بذلك " وللمسجد ثلاث مآذن، المؤذن الراتب فيها أحد أولاد بلال رضى الله عنه " ووصف المدينة، وأبوابها الأربعة: باب الحديد، ويليه باب الشريعة، ثم باب القبلة، ثم باب البقيع، وقبل السور من جهة الغرب - الخندق - وعلى شفيره حصن العُزاب وهو خرب، وعن يمينه العين المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبقرب المدينة بئر بضاعة، وبإزائها لجهة اليسار: جبل الشيطان، حيث صرخ لعنه الله يوم أحد: كاذباً قائلاً: قتل نبيكم.
وذكر ما رآه من المشاهد والآثار بالمدينة، وأولها" مسجد حمزة رضي الله عنه قبلى جبل أحد، وبقيع الغرقد ومادفن به من آل البيت والصحابة رضوان الله عليهم، وقباء" وفي وسط مسجدها : مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومما يلي القبلة البقعة التي سجد عليها صلى الله عليه وسلم، وله مئذنة واحدة، وفي آخر القرية تل يعرف - بتل عرفات - ومنه أبصر صلى الله عليه وسلم الناس يوم عرفات، وبه سميّ التل.
غادر الرحالة المدينة يوم 8 من محرم من العام 580 هجرية متوجهاً إلى بلاده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.