كان افتتاح مهرجان السينما المغربية صاخباً وحاراً، حتى اللحظة التي رحب فيها مديره المهدي قطبي بوزير الثقافة والاتصال محمد الاشعري وبالممثلين والضيوف والجمهور، بفرنسية لا غبار عليها، وقبله رحبت، باللغة نفسها، مجموعة من الممثلين في الشريط القصير جداً الذي ظهر فجأة على شاشة سينما "كوليزي" قبل أن يصعد مقدما الأمسية إلى المنصة. كان الممثلون يركبون واحدة من تلك العربات التي تجرها الخيول ويتجولون بين شوارع مراكش متمنين للجميع مهرجاناً ناجحاً. لا أحد يعرف لماذا يرحبون ويتحدثون مع جمهور مغربي بالفرنسية عوض العربية، مع أن الأمر لا يتعلق بمهرجان "كان" أو "سان سباستيان" بل فقط بالدورة السادسة من المهرجان "الوطني" السينمائي... أحد المخرجين علق: إنهم في المركز السينمائي المغربي لا يقبلون السيناريوهات ما دامت غير مكتوبة بالفرنسية. وأضاف أن اللجنة المكلفة قراءة هذه السيناريوات لديها مشكلات مع اللغة العربية لأن أعضاءها عاشوا في الخارج طويلاً! كل المقاعد في سينما "كوليزي" كانت محتلة. وأمام بابها احتشد جمهور غفير من المارة والمحتمين والفضوليين. لم نشاهد فلاشات العدسات التي تلتقط النجوم السينمائيين، وهم يبتسمون عند نزولهم من الحافلة المخصصة لهم. أحدهم علل الأمر بأن نجومنا السينمائيين ليس لهم بريق يغري بالالتقاط. بعد كلمة مدير المهرجان وكلمة الوزير، كان الجمهور على موعد مع شريطين قصيرين يسجلان الحياة اليومية داخل فلسطينالمحتلة. الأول بعنوان "غباش" والثاني بعنوان "خلف الأسوار" لمخرجهما رشيد مشهراوي. كانت الدقائق العشر التي استغرقها عرض "غباش" كافية لإحلال الصمت في القاعة، حتى لم يعد يسمع شيء سوى رنين الهواتف المحمولة! الشريط يعرض، بحاسة سينمائية عالية، تيار الحياة اليومي الذي يعبره الفلسطينيون بلا خوف. يمكن اعتبار هذه الدقائق القليلة تلخيصاً فنيا لألم كبير سيظل خارج أي مقاربة سينمائية، لأن ما يحدث للفلسطينيين، في نهاية الأمر، ليس سوى شريط سينمائي واقعي وطويل، من دون ممثل بديل أو مؤثرات خاصة، وبخدع سينمائية كثيرة. هذا ما أراد "غباش" أن يقربه من الجمهور. يبدأ الشريط بمشهد امرأة مسنة تدير رحى وتطحن القمح. مشهد الدوران سيتكرر كثيراً. إنه البحث عن المخرج من الدائرة المغلقة. لكن اللقطة التي ستجعل أعين الجمهور تلتصق أكثر بالشاشة، هي تلك التي بدا فيها أحد الفلسطينيين وهو يسقط بلا حراك، بعدما تلقى رصاصة غير طائشة في رأسه. كان هناك صديق له ركض نحوه لإسعافه، لكن بركة من الدم تشكلت تحت رأسه جعلت هذا الأخير يتوقف مسدلاً يديه في يأس. الكاميرا لم ترد التقاط اليأس بالتحديد بل الإصرار. وهذا ما عبرت عنه فلسطينية عجوز تدخن في شريط "خلف الأسوار" الذي عرض مباشرة بعد "غباش". كانت تسأل عن العرب بإلحاح، وتقول إن اليهود يريدون طردها من بيتها الذي أمضت فيه سبعين سنة من دون أن تستطيع الآن الصعود إلى السطح. صفق الجمهور للشريطين تعبيراً عن الإعجاب، وربما أيضاً تعبيراً عن الأسف، لكون مخرجينا يتذرعون بقلة الامكانات للخروج بأشرطة مماثلة، في وقت تثبت مثل هذه الأشرطة القصيرة زيف هذا الادعاء. غادر الجمهور القاعة نحو البهو لالتقاط الصور التذكارية بعضه مع بعض، فيما اتجه الضيوف نحو حافلاتهم للذهاب إلى "فندق السعدي" لتناول العشاء، بدعوة من وزير الثقافة والاتصال. من أول نظرة يبدو مدخل الفندق شبه مظلم. وحدها شموع الفوانيس التي وضعت فوق المدرج المؤدي إلى الباب تجاهد لتوفير القليل من الضوء للوافدين إلى العشاء. المكان في الأصل عبارة عن "كازينو". وكتب هذا الاسم بضوء النيون الأزرق ليعطي للمكان وزواره ميزتهم. ذكرني المكان بفيلم "مفتوح حتى الفجر" ذلك الكازينو الليلي الذي يظهر بعد منتصف الليل ويختفي قبل الفجر، وداخله يرقص ويغني رجال ونساء تتغير ملامحهم فجأة وتصبح لديهم أنياب! لكن قاعة "فندق السعدي" لم تكن مخيفة إلى هذا الحد... العشاء كان على طريقة "اخدم نفسك" وهي الطريقة الأكثر نجاعة لاكتشاف النوازع الافتراسية لدى بعضهم. الممثلون والمخرجون وأهل السينما ليسوا مصابين بالشره... لحسن الحظ! الأفلام المغربية بسبب كثرة دروس الوعظ والارشاد التي تطفح بها حوارات الأفلام المغربية المشاركة في المهرجان، اقترح البعض الحاق المركز السينمائي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية... وبسبب كثرة ورود الأدعية في حوارات الممثلين، أصبح من الصعب التمييز بينها وبين حوارات العجزة في الحدائق العمومية! إذاً، أسدل الستار على الدورة السادسة من هذا المهرجان، وكاد المتتبعون يجمعون على شيء واحد، هو أن النصائح لو كانت تعطى في المقابل، لأصبح المخرجون المغاربة من أغنى رجال العالم... وأكثر من ذلك، لو أنهم قرروا المشاركة بأفلامهم في المهرجان الدولي للأفلام الرديئة لحصلوا على جوائز تقديرية كثيرة اعترافاً لهم بقدرتهم الخارقة على إتلاف أعصاب المشاهد بأقل الكلمات الممكنة... الجميل في هذه الدورة أنها نجحت في شيء واحد، هو أنها أسقطت ورقة التوت عن عورة السينما المغربية. وكشفت في شكل واضح أن الفقر الحقيقي الذي يعانيه مخرجونا ليس فقراً في الامكانات كما ظلوا يرددون قبل أن يتحول صندوق الدعم بقرة مجنونة، بمقدار ما هو فقر مدقع في الأفكار. كل هذه الرداءة المصورة التي عرضت خلال المهرجان، مع استثناء أشرطة تكفي أصبع أو اثنتان لعدها، أفلحت في شيء واحد فقط، هو إثارة استياء الجمهور والمدعوين الذين ظلوا مواظبين على الحضور طمعاً في مشاهدة شريط ينقذ ماء وجه السينما المغربية التي تحتاج إلى تعلم الكثير من العربية لتصبح وطنية، كما تدعي. بعض المدعوين طالب صراحة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق من أجل فتح تحقيق عن دعم تلقاه مخرجون بددوا المال العام بإنتاجهم أشرطة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ضحك على الذقون. ومن يدري، ربما أصبحت لدينا قضية أخرى إلى جانب القرض العقاري؟ أحد المشاركين اقترح الامتناع عن دعم الافلام المغربية، لمدة عام، وفضل في المقابل تخصيص الملايين الثلاثة التي تمنح سنوياً لمخرجينا، لبناء مركز سينمائي للدراسات والتكوين مجهز بأحدث الامكانات... وبالطبع يجب أن يلتحق المخرجون المغاربة به لتعلم السينما وأبجدياتها! ولأن أغلب الأفلام التي عرضت هي على درجة كبيرة من الرداءة، اصبحت بعض الأفلام العادية جداً تبدو كما لو أنها أفلام تستحق الأوسكار. لذا فالجائزة الكبرى للمهرجان لن تذهب إلى فيلم آخر غير "علي زاوا" الذي لم يشاهد مخرجه نبيل عيوش في مراكش طوال أيام المهرجان، والذي ربما فضل البقاء في الدار البيضاء، لأن لديه أشياء أخرى أكثر أهمية يصنعها، من حضور أشرطة مملة وأمسيات يشرب فيها المدعوون حتى ساعات الصباح الأولى... وبكلمة واحدة، كان هذا المهرجان ناجحاً لأنه كشف فشل المشروع السينمائي المغربي، وعرى مواطن الزيف والادعاء فيه. وأظهر في شكل صارخ كيف تهدر ملايين الدراهم في إنتاج أفلام يظهر فيها ممثلون من دون موهبة، يستظهرون أدوارهم بالدور، مثل تلاميذ كسالى في قسم. الجمهور الذي تابع جل الأفلام لم يكن يطالب المخرجين بحوارات ذكية، ولكن فقط بحوارات أقل غباء. وكان هذا الأمر يظهر جلياً من خلال اعتراض الجمهور إما بالتصفيق وإما بالانسحاب في هدوء من عروض بعض الأفلام التي لا أحد يعرف أي سحر ألقى أصحابها على أعضاء لجنة الدعم حتى أدرجوها في لائحة المنعم عليهم! ويبدو الآن أن مهمة لجنة التحكيم لن تكون سهلة إطلاقاً، إذ يجب أن تبحث بالملقط عن أسماء تمنحها الجوائز التي في حوزتها. ولو أنها فكرت في حجب بعض الجوائز حتى يظهر أصحابها في المستقبل لكان أحسن... ويبقى الغائب الكبير عن السينما المغربية المواطن المغربي نفسه، لأنه لم يظهر له أثر خلال هذا المهرجان، مع أن مخرجينا يقولون إنهم يصنعون سينما واقعية، إلا أن أفلامهم لا علاقة لها بالواقع المغربي. فموضوعات مثل الاغتصاب والشرف والمرأة، أصبحت كليشيهات متجاوزة، بل غير مثيرة سينمائياً. ومن النادر أن تعثر على لقطة في فيلم مغربي تصور شابين يشربان قهوة على رصيف أحد المقاهي ويتحدثان عن تفاصيل الحياة اليومية. بل يمكن أن تشاهد محاضرات ثقيلة عن حقوق المرأة ومحو الأمية واحترام قوانين المرور، يتلوها ببرود كبير ممثلون في خريف العمر... ما حول هذه الدورة من مهرجان السينما الوطنية مهرجاناً للخطابة والنصائح والأدعية! يبقى ضرورياً التأكيد أن من الضروري جداً مراجعة سياسة الدعم التي بموجبها يمنح المال العمومي لبعض المخرجين الذين ثبت فشلهم سينمائياً. ويبدو ملحاً فتح تحقيق نزيه في الظروف الغامضة التي اكتنفت قبول مشاركة أفلام يعد عرضها في مهرجان للسينما الوطنية، شتيمة لا تغتفر في حق الجمهور المغربي. سنوات الاستعمار الشريط القصير "لحظة حلم" الذي عرض في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان، يمكن أن يلخص حال السينما المغربية في 27 دقيقة. إنها حكاية ممثل أمضى 40 سنة، هي ربما عمر السينما المغربية، ممتهناً حرفة التمثيل. ذات يوم عرض عليه أداء أحد الأدوار، مع تكليفه البحث عن ممثلة. أداء أحمد الجعيدي لم يكن موفقاً في الشريط، لكن الفكرة كانت مدهشة. بعد 27 دقيقة من البحث عن الممثلة المناسبة للفيلم، والتي ينوي الجعيدي اتخاذها امرأة تشاركه حياته، انتهى أخيراً إلى تخليه عن حلمه. ببساطة لأن السينما التي ترمز إليها الممثلة غير متوافرة... ويبدو أنها لن تتوافر في المستقبل القريب! "لحظة حلم" يمكن أن تكون لحظة بحث حقيقي عن سينما مغربية. وليس تلك السينما التي يتم البحث عن بطلاتها داخل الكباريهات. لهذا السبب، فشل أحمد الجعيدي في الوصول إلى مبتغاه ولم يعثر على الممثلة والزوجة في آن. أي لم يصنع الفيلم في نهاية المطاف. وجدت أن فكرة الشريط تلخص وضعية السينما المغربية. المخرجون المغاربة يبحثون عن بطلات لأفلامهم، وفي الوقت نفسه يريدون من هؤلاء البطلات أن يجسدن إلى جانب أدوارهن البطولية في الأفلام أدواراً أخرى أقل بطولية في أماكن أخرى. هنا تنتهي السينما لتبدأ الملهاة التي لا تصفق لها سوى أبواب القاعات السينمائية الفارغة. من خلال قراءة أولية في الأشرطة التي عرضت في اليوم الأول من المهرجان، وهي: "خير وسلام" و"ياقوت" و"لحظة حلم" و"علي زاوا" و"همسات" و"محاكمة امرأة"... تبدو المواضيع متباينة، لكن الممثلين أنفسهم يكادون يظهرون في معظم الأشرطة، فقط بثياب مختلفة... صلاح الدين بنموسى سيخرج من جلد اسحق اليهودي في فيلم "ياقوت"، ليؤدي دور المتشرد في الشريط القصير "خير وسلام" الذي تصبح ترجمته إلى الفرنسية بقدرة قادر "أنا أحلم إذاً أنا موجود". وما ان تنتهي من مشاهدة محمد الكغاط، وهو يلقي درساً ثقيلاً عن علم الفلك ورباعيات الخيام في فيلم "ياقوت"، حتى تشاهده مرة أخرى وهو يشرب الويسكي ممزوجاً بالماء هامساً في أذن الممثلة هدى ريحاني كلاماً لا أحد يسمعه سواهما. ويبدو أن ظاهرة خروج الممثلين من فيلم ليدخلوا في آخر ستكون واردة في شدة داخل هذا المهرجان، ما يجعل مهمة لجنة التحكيم لا تخلو من طرائف. مثلاً رشيد الوالي ومحمد مفتاح سيؤديان بطولة معظم الأفلام المطروحة في المسابقة الرسمية، ما سيعرض كلاً منهما للتنافس مع نفسه للفوز بالجائزة! كاتبة أغلب حوارات الأفلام المتبارية، وهي على سبيل الذكر لا الحصر:"عطش" و"ضفائر" و"فيها الملح والسكر..." و"كيد النساء"، الصحافية فاطمة الوكيلي ستدخل في منافسة شرسة مع نفسها، وربما حافظت على لقبها السابق الذي حصلت عليه، السنة الماضية، كأحسن كاتبة حوار. خلال الليلة الأولى من المهرجان شوهد العرض الأول لفيلم يحمل اسم "محاكمة امرأة"، لمخرجه حسن بنجلون، ومن بطولة رشيد الوالي وسناء الزعيم وأسماء الخمليشي. ولكن يبدو أن اطوار المحاكمة تمت كلها خارج قاعة المحكمة، واستدعى المخرج اليها محامية فرنسية من أصل مغربي نسيت دور المحاماة وأدت دور القاضي أيضاً... الفيلم يكاد يكون شريطاً تلفزيونياً متواضعاً. ولا يبتعد عن دائرة الأفلام المغربية التي اقتربت من موضوع المرأة في المدة الأخيرة، مروجة لخطاب كارتبوستالي شديد السطحية للمرأة المغربية. يحكي الفيلم قصة راقصة، هي نفسها التي اكتشفها عبدالمجيد رشيش في "قصة وردة"، تتعرض لمعاملة قاسية من زوجها الخياط. وبحكم عملها غير الشريف تحرم ابنتها. وتدخل الراقصة أسماء الخمليشي في علاقة مع فرنسي لديه حاسة إنسانية لم تتوافر لأي من الممثلين المغاربة الذين يظهرون في الفيلم، وسينقذها في الأخير من السجن... من دون أن ننسى طبعاً مساعدة قدمتها محامية منظمة العفو الدولية التي لم تغادر المغرب، إلا بعدما حلت مشكلة العنف ضد المرأة المغربية، وقد نعتت رشيد الوالي الذي ما زال ينتظر تعويضه عن دوره في الفيلم بالمتخلف ورجل القرون الوسطى، عندما سمح لنفسه بصفع خد الممثلة الوديعة سناء الزعيم التي تجرب حظها مع السينما للمرة الأولى بابتسامات كثيرة ورزانة مفرطة! الفيلم لا يضيف جديداً الى موضوع المرأة المغربية عدا إشكالية الزواج والطلاق وغشاء البكارة. أما الفيلم الذي عرض قبله، وهو "ياقوت"، فيمكن كل من اطلع على "كازيمودو" أو رواية "سيرانو دو بيرجراك" أو فيلم "الجميلة والوحش" أن يلاحظ قدرة المخرجين المغاربة على "مغربة" القصص والروايات من دون الإشارة إلى المصادر. ولعل الدور الذي أداه صلاح الدين بنموسى، كصانع حلفاء وساحر يهودي، ودور الشاذ الذي جسده ممثل آخر، كانا الدورين اللذين جعلا قليلاً من خفة الدم تسود الفيلم، الذي يقول ملصقه أنه يدور إبان سنوات الاستعمار... تلك السنوات التي اختصرها المخرج في جرة من الخليع صالحة لإخفاء سلاح المقاومة... مقاومة الجوع ربما!