ثمة حيرة دائمة في المهرجانات تتعلق باختيار الأفلام، حين يكون هناك أكثر من مئة وخمسين فيلماً... كيف نختار بينها والوقت لا يتسع؟ مسألة تبدو معقدة أحياناً لاسيما حين يأتي زميل ويقول رأيت فيلماً رائعاً، وتكون أنت قد تململت في مقعدك عشرات المرات أمام فيلم آخر لم يكن عند حسن الظن. في مهرجان كلكتا السينمائي الدولي الذي أقيم أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم لتوّه، نُظّمت عروض للسينما المغربية المعاصرة، وبرمج في الوقت ذاته فيلم نبيل عيوش الجديد «غزيّة» وفيلم نور الدين الخماري الأقل جدة «زيرو» (2012). بعد تردد، وقع الخيار على الفيلم الثاني، فلا بد أن الفرصة ستكون متاحة قريباً لرؤية الأول في الصالات الفرنسية. هكذا كان ولكن... حين خطونا عتبة القاعة، كان علينا شق الطريق بين عشرات «اختار» بعضهم الوقوف فيما افترش بعضهم الآخر الأرض بعد أن امتلأت المقاعد، لم يكن بد من افتراش الأرض أيضاً، لكن «زيرو» سرعان ما أنسانا تعب الجلسة بإيقاعه السريع وإخراجه المتمكن وبنائه المحكم وتشويقه لاسيما في نصفه الأول. كان نور الدين الخماري قدّم فيلمه لجمهور المهرجان وخليط من شعور بالسعادة والمفاجأة منعكس على ملامحه. التقيناه في كلكتا، وكان هذا الحوار الذي أخبرنا فيه عن فيلمه الجديد Burn Out الذي سيعرض في الدورة المقبلة لمهرجان دبي السينمائي. دخلتَ ووجدتَ جمهور كلكتا، وأنا معهم، جالسين على الأرض بعد أن امتلأت المقاعد، ما كان شعورك وما راودك من خواطر في تلك اللحظة؟ - فكرت فوراً: كم يحبون السينما! وكم أحب أن أرى هذا في بلدي! وقلت لنفسي إن حبّهم للسينما فيه شيء من الدين، وبعد أن تجولت في المدينة ورأيت الفقر والبؤس، شعرت بأنهم يعشقون الحلم والأسفار، وهم يعثرون على هذا في صالات السينما. ألا ترى جمهوراً كهذا في بلدك؟ - ليس لأن لا جمهور لدينا، إنما لافتقادنا لدور العرض، فلا صالات كافية لنشهد وضعاً كالذي رأيته حقاً في كلكتا، وكي نرى هذا الجمهور في كل مكان وكل صالة. مع أن كثيرين جاؤوا لمشاهدة فيلمي في الرباطوالدار البيضاء. وهل يهتم الجمهور المغربي في العادة بمشاهدة الأفلام المغربية؟ - نعم، الفيلم المغربي له جمهوره، حتى أن تدافعاً حصل لمشاهدة فيلمي الأخير Burn out في مهرجان الرباط. كيف تفسر هذا الإقبال على السينما المغربية؟ - ثمة رغبة لدى الناس في رؤية أنفسهم على الشاشة، لقد ضجروا من مشاهدة الأميركيين والفرنسيين والمصريين والهنود... يرغبون الآن في وجودهم هم في المرآة، فكل الأفلام التي صوّرت عن المغرب كانت بعيون أخرى، كنا كديكور، فولكلور للعرض. الآن بتنا نصنع صورتنا ووجوهنا كما أحببنا أن نراها... في السابق، كان هناك في السينما المغربية الحرام والعيب والحشمة، كنا معقّدين من نظرة الآخرين لنا في فرنسا ومصر مثلاً... فكانت تتكرر الصورة التقليدية للمغرب حتى في أفلامنا، إنما الآن فإن أفلام الجيل الجديد خالية من العقد ولا مشكلة مع صورتنا أو لغتنا، ويعمد كل مخرج ومخرجة إلى تصوير ما يرغب فيه. الذين يغضبون إنما ثمة من يغضب لهذه الصورة الجديدة للمغرب التي تبديها السينما المغربية! - حاول الإسلاميون إيقاف فيلم «كازانيغرا» (الدار السوداء بدلاً من الدار البيضاء الفيلم الثاني للمخرج 2008) ولم يتمكنوا، والآن أدركوا أن كل هجوم على أي فيلم يمنحه دعاية. هم يظنون أننا نعطي صورة قاتمة عن المغرب وينسون أنهم هم من يعطون هذه الصورة عن البلد. الإسلاميون فقط هم من يعترض؟ - المحافظون أيضاً، بالطبع هناك آخرون ولكن هؤلاء يمكن النقاش معهم على خلاف البقية. هذه الواقعية الجديدة التي تميز السينما المغربية مشابهة للإيطالية التي ظهرت بعد الحرب ونحن نتحمل مسؤولية هذه السينما، كما أننا ضد كل ما يعطي صورة فلكلورية وإكزوتيكية(غرائبية) عن بلدنا. ما مظاهر هذه الصورة عن المغرب التي تستنكرها؟ ما الذي يجسدها بالنسبة إليك؟ - كأن نرى المغاربة في الأفلام وهم يقدمون الشاي بالنعناع والحلوى، هم ليسوا سوى كومبارس. في آخر فيلم رأيته لتوم كروز وكان «مهمة مستحيلة»، كان يفترض لحدث أن يكون في الدار البيضاء، هنا يُقطع المشهد لتبدو صورة قرية صغيرة تعبر عن هذه المدينة. هذه هي صورة المغرب في اللاوعي، قرية صغيرة حيث الجِمال والجلاليب... كذلك، يوجد مخرجون مغاربة وعرب يدعمون هذه الصور ويؤكدون الأفكار المسبقة عنا ويبدون نفس ما يبديه مخرج أميركي. يقولون عنك مع أفلام مثل «زيرو» و «كازانيغرو» أنك مخرج مثير للجدل، هل ترى نفسك هكذا؟ - من أين يأتون بهذه التصنيفات؟! لا أعتبر أني مثير للجدل، يطلقون عليّ هذه الصفة لأني أطرح مشاكل العنف والجنس والمرأة المغربية! ما معنى هذا أصلاً؟ السياسيون الذين يستغلون مناصبهم هم المثيرون للجدل أكثر من الفنان الذي يريد الحديث عن بلده وإثارة مشاكلها وقضاياها. يدعونني هكذا لأن أفلامي تتجرأ على إبداء المسكوت عنه. والنقاد في المغرب، ماذا يقولون؟ - ثمة نوعان، حديث وهو من يشاهد أفلام الجيل الجديد ويؤيد لغتها السينمائية، ونوع آخر وهو من جيل السبعينات ويتكلم مثل «دفاتر السينما» (المجلة السينمائية الفرنسية)! بمعنى أن على سينما المؤلف اعتماد الصمت والابتعاد من الأكشن والموسيقى لأن تلك الأخيرة تستخدم لإخفاء عيوب الفيلم... هذه ثقافة سينمائية تجاوزها الزمن وهنا المشكلة! يضاف إلى كل ذلك قلة دور العرض واهتمام المنتجين المنصبّ على الإعلانات والتلفزة وعلى القليل من السينما... لكن، ألا تجلب شعبية أفلامك المنتجين إليها؟! - نرغب في توافر حركة سينمائية متواصلة وسوق محلية، أي صناعة سينمائية بحق وليس فقط وجود عدد محدد من المخرجين وفيلم واحد يخرج كل ثلاثة أشهر ويثير نقاشاً في المجتمع. نحن ننتظر سنتين أحياناً كي يخرج فيلم مثير النقاش. يوجد بضعة مخرجين نتحدث عنهم أو بسببهم عن السينما المغربية. هذا ليس بالأمر الجيد؛ يجب أن يكون الإنتاج منتظماً وأن يلقى أي فيلم مغربي استقبالاً مهماً وأن يكون حدثاً، فثمة طلب على سينمانا وحين يحصل فراغ تحتل بقية أفلام العالم صندوق الإيرادات، إنما حين يوجد الفيلم المغربي ويكون جيداً ستتغير الصورة. ما نوعية هذا الطلب؟ ما نوع الجمهور الذي يطلب الأفلام المغربية؟ - في أفلامي الثلاثة، «كازانيغرا» و «زيرو» وBurn Out الذي سيعرض في مهرجان دبي القادم، كان الجمهور من كل الأنواع والطبقات ومنهم فتيات محجبات... في 2009 مع فيلمي الأول من هذه الثلاثية عن الدار البيضاء «كازانيغرا»، بدا الجمهور مصدوماً وكان بعضهم يغادر قبل انتهاء العرض، الآن مع معرفتهم بنوعية أفلامي يأتون لمشاهدتها. الفيلم الأخير منها الذي يسرد علاقة غانية مع برلماني إسلامي يغتصبها فتقوم بعمل إجهاض سري، استقطب جمهوراً متنوعاً وكبيراً و... (مقاطعة) لماذا اخترت برلمانياً «إسلامياً»؟ - حسناً، سؤال جيد (مبتسماً)! ببساطة لأنهم(الإسلاميون) في حياتنا كل يوم. هم يؤثرون في السياسة والحياة الاجتماعية والحديث قائم عن التناقض بين أفكارهم وسلوكهم. أتابع حول مضمون أفلامي، أؤمن بأنه يمكن لنا أن نجعل الجمهور يعتاد وأن علينا التثقيف وفتح العيون وBurn Out الذي يتحدث عن الإجهاض السري هو مهم جداً لأن هذا يُجرى تحت الطاولة وعلينا طرحه. دعوة إلى التفكير هل تؤمن بالتغيير عبر السينما؟ وبالسينما الملتزمة؟ - أؤمن بالنقاش وبأنه إذا استطعتُ التأثير ولو في عشرين شخصاً وغيري فعل ذلك فسنكون من الرابحين. علينا عبر السينما دعوة الناس الى التفكير، من دون أن نغفل أنها وسيلة تسلية ودعوة للحلم كذلك. يمكن اعتبارها رسالة، لم لا؟! يأتي هذا في الأول ثم يتبعه كون السينما فرجة وحلماً وحين تجتمع تلك العناصر في فيلم واحد فهذا يعني أنه جيد. ما لا أوافق عليه وأعتبره خطيراً هو سينما إعطاء الدروس للمجتمع. بفيلمك الأخير Burn Out تنتهي ثلاثية «الدار البيضاء». هل بدأت التفكير في أفلامك القادمة؟ - ستكون أفلاماً مختلفة لا تنتمي الى الواقعية الاجتماعية. إنها شيء آخر، أودّ الحديث عن المرأة المغربية وعلاقتها مع نفسها وجسدها لأني أعتبر أن القضية الكبرى هي المرأة والحبس المطبق عليها، لأن المجتمع الحرّ هو حيث تكون المرأة حرة وهذه هي مشكلة العالم العربي! موضوع صادم هو الآخر! - لا أدري! أنا الآن في مرحلة الكتابة وفي محاولة مني للتغيير وبحث عن علاقة أخرى مع الكتابة أعمل مع كاتب نرويجي. ولكنه موضوع مستهلك ومطلوب في الوقت ذاته في الغرب، ألا تخشى من القول إنك تمالئ الغرب بمثل هذه الأفلام؟ - لن يكون لفيلمي علاقة بالدين ولا بالنظرة للحرية التي تمرّ عبره وعبر الحجاب كما في هذه الأفلام. وكيف ترى حرية المرأة؟ - عبر جسدها والموسيقى، إلى ماذا تستمع وماذا تبدع وما هو عملها، كيف هي علاقتها مع جسدها والروحانيات، وكيف يتحكم بها المجتمع الأبوي؟... كلها أمور تؤثر فيها وتجعلها تتصرف بطريقة ما تتحكم برؤيتها للعالم. أنا مقتنع بالقول: قل لي كيف تُعامل المرأة في المجتمع أقل لك كيف هو هذا المجتمع. لن يتطور المجتمع إلا بحريتها. ما هي مراحل الكتابة التي تعتمدها وهل تتقيد بالسيناريو أثناء التصوير؟ - حين تأتيني الفكرة أفكر فوراً في العنوان، وطالما لم أضعه أو أتوصل إليه فإنني لا أستطيع الكتابة! أما بعد الانتهاء فأنا أرتجل ولا أتقيد تماماً بالسيناريو. فمثلاً حين أكتب عن الدار البيضاء ثم أذهب إلى مواقع التصوير هناك يصادفني غير ما تخيلته كالتصوير في البولفار الكبير مثلاً الذي يبدو غير ممكن فأضطر الى التلائم مع الوضع. كما أفضّل دوماً اختيار ممثلين جدد ففيهم طاقة وجدة وأنا أعشق هذه الحيوية التي يتمتعون بها. حدثنا سريعاً عن وصولك للسينما. - ذهبت للنرويج لدراسة الصيدلة وبعد أن عدت لفرنسا فيما بعد، التقيت بنرويجية دعتني للنرويج وكانت هي المرة الأولى التي يقول لي فيها أحدهم: قم بهذا حقق حلمك واعمل بالسينما. لقد حلمت بالسينما من عمر العاشرة! تريد إضافة شيء ما على ما أرى! - أظن أن الفن والثقافة هما سلاح التقدم في العالم العربي، لكن دورهما يحجّم بسبب تدخل السياسيين، هؤلاء يخشونهما لأنهم غير مؤهلين ويريدون السلطة. الفن والثقافة يبرزان عدم أهليتهم. لكني متفائل وما يُجرى الآن في العالم العربي أمر طبيعي بعد مرحلة الاستعمار الذي لم يشجع الفلسفة والثقافة ووضع في الحكم من يناسبه ووصل بفضله. لكن التاريخ سينساهم.