} نشرنا في الحلقات السابقة مقاطع من مخطوطة الدمشقي - الأفغاني أديب خان فتال "في الشغاف الآسيوية" تناولت مصاعب الاستقلال في أفغانستان وتفاصيل احوال الولايات والخيرات على الموائد. وهنا الحلقة الأخيرة: عقيدتي ان الحرب العامة كانت حسنة على الافغان اذ شغلت روسية عن هذه الحمى المنهارة على نفسها حتى قيض لها حكم جديد ترك مجالاً للأمل باصلاح الحال. وليس كما يقوله البعض ان عدم تجانس الشعبين الأفغاني والتركستاني بالعرق والدم كان سبباً لقساوة الحكم في هذه الأرجاء. لأن قحّ البلاد الأفغانية لم تكن أصلح حالاً منها هنا، وجميعها تطولها عصي العسف والارهاق على حد سواء. وتسوقها الى مهاو لا منجاة لها منها إلا اذا تغلب الشمم الافغاني على ما تأصل في البلاد من نفاق وشقاق وانحطاط مريع في الأخلاق. وترك حداً قوياً دون اطماع الطماعين من حثالة المأمورين والموظفين الذين لم تبلغ شياطين الأرض ما بلغوه من العنت والتمرد. فوجئت فوق ألمي على حالة البلاد بخبر راعني وخفض من شعاع أملي. كان أمير بخارى بعد ثورته على الروس ونواله استقلال بلاده ضمن حدود مدنه جنّد بعض فرق افغانية من الملتجئين لبلاده ودمجهم بجيشه الذي لا يحسن الرماية مثلهم وارتضى لهم زعماء منهم سرعان ما انقلبوا عليهم وكل يدّعي الزعامة لنفسه. وانقسموا شيعاً مسلحة تناوئ بعضها بعضاً حتى ضج الأمير فقطع عنهم الجراية فامتدت ايديهم الى الرعية مما اضطر الأمير لمناوأتهم بالطرق الفعالة. فلجأوا الى المعسكر الروسي قرب بخارى يعرضون عليه خدمتهم، فخدعهم القائد وجردهم من اسلحتهم وأرسلوهم اشتاتاً الى الحدود ومنعوا عودتهم. كان يروي لي الحادث واحد من رؤساء تلك الفلول العائدة حديثاً وأنا أشعر بأسف مرير لهذه النتيجة التي تركت اثرين سيئين مختلفين في ما وراء النهر، أثر في نفوس البخاريين وأثر في نفوس الروس. وتمنيت لو تأخر هذا الحادث الى بعد وصولي. كان مع تلك الفلول سمرقندي هاجر فاراً من دياره بسبب الروس فقص وروى عن البلشفة كثيراً فقلت له وخلاصة الأمر: ما هي البلشفة بمعناها الصحيح؟ قال: تقسيم المال. قلت: هذا من الاسلام. قال: ونكفر بالدين. قلت له: بدينها أم بدينك؟ قال: بدينها. قلت: وما بالك انت تظهر أحرص منهم على ما لا يريدون ان يعتقدوا صحته؟ يوم الأحد 12 رجب خلفنا تاش قرغان نقصد منزل نايب آباد وأنا أتغنى بمديحها فقال لي الوالي لكنها يشتد يا صديقي حرّها صيفاً لأنها لا تعلو عن سطح البحر إلا خمسمئة متر 1490 قدماً فقلت له: لو اعتنيت بتشجير هذه الروابي عن يمينها وشمالها لاعتل هواؤها وجمل منظرها ولكانت مصيفاً لمزار شريف ممتازاً. قال: سأفكر بها لأنها استهوتني أيضاً. هناك في منبسطات هذه السهول وعلى قرب من منزل نايب آباد لاحت لنا عن بعد بلدة مزار شريف ومرقد علي تتسامى قببه الشامخة الخضراء ومناراته البيضاء على ما دونها وهي رابضة على صدر الصحراء. تسفيها الشمس بضيائها الذي يتكسر على جدرانها الناصعة فيشع اشعاعاً متواصلاً. ونحن وان كشفناها من عل ولكن تفصلنا عنها مسافة لا تقل عن اربعين ميلاً فأكثر. استرحنا في أفياء نايب اباد قليلاً وأكلنا ما هيئ لنا، وسرنا الى منزل كومار فبلغناه عند المغرب. وهو آخر منازل السفر. وداعاً يا أيتها النزل التي ضممتنا اليك رغم قذارتك وسواد جدرانك وروائح أباعرك. هازئة بنفوسنا المتقززة من نتنك وحاضنة لأجسادنا الظامئة لدفئك. انت ايتها النُزل التي تشابهت في البناء حتى صارت خيولنا تدرج اليك بفراستها فلا تتبين ابراجك عن بعد حتى تستعيد نشاطها وتتزايد سرعتها. انقلي سلامنا الى غابر الأجيال التي انت منها علامات باقية حية، تصفعين وجه المدنية وتتحدينها .... لبس الوالي بزته الرسمية تزينها الهالات والشارات القصبية والأوسمة وتقبّع ببرنيطة بيضاء بريطانية انتشرت في عهد شير علي خان قبل اربعين سنة من هذا التاريخ في افغانستان يعلوها الريش الأبيض والأحمر وقد تناثر من فوقها طائراً مع الهواء كأنه لب صاحبها يزهو تيهاً وخيلاء. وقبيل الظهر اشرفنا على مزار شريف تدل علينا هالة من الغبار تمتط محلقة الى مدى بعيد في الصحراء وكان الهواء جافاً يميل الى الحرارة. في باحة فسيحة في ظاهر المدينة كان الرعايا والجند من خيالة ورجال ومدفعية وقوفاً صفوفاً متراصة مرتبة في استقبال الوالي يتقدمها قائدها الجنرال محمد عمر خان قائد القوى التركستانية وقد طارد بحصانه الى استقبال الركب. وحيّا الوالي فتباوسا فتضامّا ثلاث مرات ثم ذهبا الى الجند الرافعين بنادقهم بالسلام وقد أبيا إلا أخذي معهما رغم اعتذاري. وكان الجند التركستاني فخوراً جداً بموقفه الحكيم يوم البيعة لأمان الله خان وقضائه على الفتن التي كاد يثيرها الوالي السابق، مما صان كثيراً من الدماء أن تُهرق. مررنا على الفرق العسكرية كلها نسلم عليها كل لوحدها ويبلغها الوالي سلام مليكها لها وامتنانه منها، ثم انتصفنا المعسكر فتقدم الجند منا صفوفاً لسماع الفرمان الملوكي بتعيين الوالي وفرمان آخر بترفيع الجنرال الى رتبة قائد عام. فقوبل من الجميع بتصفيق الفرح لأنه كان محبوباً من جنده كثير الدربة بشؤونهم ولعلعت مدافع الاستقبال تشق صدر الهواء. ثم بدأ الاستعراض وكان جميلاً يبعث بنا الزهو والخيلاء القومية، وكان الضباط والجنود مدربين أحسن تدريب، حتى لظننت اننا بقوانا هذه يمكن أن نهدد البلاد كافة. ارتد الوالي بعد انهاء الرسميات الى الرعايا فحياهم واستعطفهم وبشّرهم وأنذرهم. وسرنا بين صفين من الجند الى باب البلدة الكبير فولجناها من جادة رحبة الى أسواق ضيقة الى شارع عريض مسقوف بالخشب على شاكلة الأسواق في حلب الى المسجد العظيم. فاستقبلنا في بابه جيوش من المتسولة باطمارهم وعاهاتهم وأقذارهم يبدون ما خفي منها استدراراً للعطف. وكان الأكثر من القوة بحيث تغلبوا على الحرس المسلح واشتقوا الصفوف الينا رغماً، يلمسونا ويدعوا لنا باسم علي. روعة وفن صرفا بسخاء في عمار هذا المسجد الذي قل نظيره وخصوصاً قبابه الثلاث التي رصف سطوحها بالقيشاني الفيروزي اللامع الذي لم أر له مثيلاً ومنائره البيض .... بلغنا بهو العرش القائم في منتصف بستانه العظيم على اعمدة بيضاء. وكان في صدره العرش الملكي بمخمله الأحمر القاني يعلو عن الأرض بفسطاط أو ثلاث درجات تحوطه القطائف الحمراء الغالية الموشاة بخطوط الذهب ويتصدره تحت الآيات المطرزة عليه تصوير زيتي كبير للملك حبيب الله خان القتيل. وكان البهو غاصاً بجميع أركان الحكومة العسكريين وهم على جانب العرش الأيمن والباقون على الجانب الأيسر. وفي أسفل العرش كرسيان نصبا للوالي وللقائد الأعلى. دخل الوالي وسار تواً الى العرش فحياه ثلاثاً ثم حيا الحاضرين ثم أذن بالجلوس وطلب لي كرسياً عن يمينه. ووقف ليلقي خطبته فاستهلها على لسان مليكه ببشرى اعلان الاستقلال الخارجي وحقوق الشورى الداخلية بالانتخاب الصحيح حسب التعاليم الدينية ومنع السخرة وعتق الارقاء، وتشكيل وزارة مسؤولة ونيات الملك الطيبة وختمها بأن قال: لا يسعني الا أن أسر اليكم أمراً لا بل أجهر به لتكونوا على بينة بأني لست مثل من سبقني من الحكام وليت منصبي هذا بمقدار ما بذلت من دراهم وأنا لست من تاجر بهذا المنصب لأجني منه ربحاً مضاعفاً بل عيّنت رأساً ومن لدن جلالة الملك للاصلاح لا للافساد، وللاعمار لا للهدم. فلا وربّي لا أعف عن ظالم مهما سمت مراتبه ولا أتعفف عن سماع المظلوم مهما حقر مقامه. وأنا سأكلأكم جميعاً بعين الساهر، فكونوا للخير يكن الله معكم". تلك كانت مقدمة خطبة الوالي اثبتها على سبيل التعرف بعاطفته التي كانت بنت ساعة ثم سرعان ما ذوت ... لتوقظ حاسة اطماعه البشرية يغالبها فتغلبه فتكبله رهينة اجتذاب الخير الخاص من الشر العام. هذا ما قيل عنه من بعد. وقد سمتعه من زمرة من عشرائه طوال أيام وظائفه. وما كنت لأصدق الروايات تلك لولا اني شهدت مقدمتها بأم عيني. وما المقدمة الا محمد قاسم خان الذي خرج من السجن ليركب جواداً مطهماً جنباً لجنب الحكام هازئاً بالشامتين. ولما سألت الوالي تفسير ذلك قال: ان سجنه يعود على الخزانة بخسائر باهظة لا تقل عن ثلاثمئة ألف جنيه لأنه ضامن لأعشار كثيرة وتطلبه الخزانة بباقيات عن السنين الماضية. فإذا قضينا عليه بالسجن تقف حركة الجباية وتضيع حقوق الدولة ولذلك أخذته بالحلم والتؤدة لأرى النتيجة. انتهت حفلة الاستقبال بعد تناول الطعام وتفريق السكر في مناديل حريرية حسب العادة المتبعة في الأفغان، فقمنا الى دار الحكومة التي كان بناها عبدالرحمن خان في حديقة غناء. أيام كان يشرف على أعمال الولاية بنفسه. وهي دار رحبة كبيرة تقسم لدوائر وحجر متعددة ويلاصقهما دائرة الحرم. الذي يسكنه عادة حرم الولاة فاختصنا الوالي بأحد أجنحة الدار واعتنى بفرشها بنفسه .... وصل الملك امان الله في جولة تفتيشية في اكناف ملكه والبعثة الأثرية الفرنسية بها في غمرة من الفرح على ما اكتشفت من أوان خزفية وجفان عدتها فريدة من نوعها وأخذ كبير الهيئة يسرد للملك تواريخها وأنواع دهاناتها وعصورها سرد العالم الفاهم الى العاديات. ففي ثاني الأيام اصطحب الملك الرئيس في جولة طويلة حتى بلغ به قوساً عظيماً من باقيات العهود السابقة وأظهر رغبة في الفرجة على عمق أساسه فأمر رئيس البعثة فعلته بالحفر عليه وفجأة انهار التراب وانكشف عن فجوة بها كثير من مثل ما اكتشفوه في اليوم السابق من الآنية والجفان الخزفية. جن جنون الرئيس فرحاً بهذه القطع الذي أخذ يسرد للملك تاريخها وطرازها فما تمالك ان ضحك الملك طويلاً وأمر فأحضروا بين يديه صندوقاً كبيراً من مثل ما وجد وقال لرئيس الهيئة كل هذا لك ما دمت شغفاً بمثل هذا الفخار وأزيدك ان شئت فإن بيوت فلاحينا مملوءة بهذه الآنية. انتفخت اوداج الأثري لما علم انها حيلة وقع بشباكها وان الأواني تلك التي لقيها في أساس القوس دفنت في الأمس باشارة الملك وقد ضحك الجميع كثيراً على هذه الدعابة البريئة. في اليوم الخامس أدب لي الجنرال محمد عمر خان مأدبة حافلة في حصون ده وادي البعيدة عن مزار سبعة كيلومترات وهي بلد لوحدها في عوالمها العسكرية وقلاعها الضخمة وثكناتها المتراصة بالجند. كنت في عالم لا يشبه ما تعودته تحيطه الشارات الحربية وآلات التدمير الضخمة. والمتفجرات متراصة من كل جوانبه وهذه كلها لا تتوافق وما يراه الناظر من صفاء السجية وحسن الطوية التي تحملها قلوب الضباط عادة. جلسنا مع اخواننا الضباط جلسة أنس ومباسطة وقد احتفوا بي احتفاء لي منه الوداعة والصراحة المتجلية في حركاتهم وكلامهم وقد كانت تتجلى على سيمائهم روح التضحية وكلهم يعرفون ما يتطلبه الوطن منهم في هذه الهنيهة الحرجة. وحصون ده وادي هي من منشآت الملك عبدالرحمن خان وقد كانت احدى معجزات الفن الحربي بسراديبها وخنادقها وأبراجها ومخابئ الذخائر فيها. وهي واحدة من حصون عدة في هرات وغيرها تحفظ نقاط اتصالها ببعضها بقلاع صغيرة تشكل خطاً حربياً لمواجهة الخطر الروسي فيما اذا حدثته نفسه مهاجمة الأفغان يوماً كما فعل من قبل. غير انها بالنسبة الى فن الحرب الحديث الذي تطور في السنين الأخيرة تطوراً ظاهراً أقلّ من أهمية لهذه القلاع إلا للاحتفاظ بخط الرجعة للجيش وايواء جند الحكومة بثكنات متينة. سألني أحد المشائخ من أئمة الجيش عن الاستقلال الذي أعلن في كابل. وما المراد منه طالما البلاد كلها مستقلة، وتدفع بريطانيا لها جزية سنوية اتقاء بطشها ولم تعرض لحملة انكليزية ولا خلافها. فقلت له يا سيدي الامام. ان الانكليز قد فرضوا على بلادنا شبه حصار لا ينفذ لنا من ورائه قبس مما بالعالم من النور ومن التمدين والتقدم. وقد اقتطعونا من صلب الكرة لنظل سياجا للهند التي تدر على بريطانيا مغانمها. وأعلنوا للعالم أجمع اننا جزء متمم للهند لا يرضون ان يعرفنا احد ولا يقتحمنا بمتاجره سواهم. مما جعل البلاد تعود القهقرى: بينما الأمم تمشي سراعاً الى الأمام. وأما الجزية التي تقول انهم يدفعونها لنا فهي جزء من مئات من الأموال التي يفرضونها على متاجرنا الذاهبة والآيبة الى البلاد. مع ان من أول حقوق الأمم المستقلة النقل والترانزيت الحر وهذا مع الأسف بيد الانكليز وتاجرنا يدفع ضريبتين للجمارك ضريبة الى حكومته وضريبة أخرى الى حكومة الهند وهذي من منافيات الاستقلال ولا يعلم ما نفقده في هذا الوضع الشاذ التي تركتنا به بريطانيا إلا من عرف ما بالعالم اليوم. قال الشيخ: وما بالعالم اليوم غير الكفر والالحاد؟ أعوذ بالله وكفانا الله شر هذه الأفكار. قسوت على الشيخ بنصحي وطلبته الى منزلي في الليل لأفهمه أغلاطه وما ينشره من أوباء بين جند عليه ان ينصحهم ويعظهم. وما خرج حتى بايعني على الخير والبر والوعظ بالجهاد .... وتركستان سوق كبيرة لتصدير جلود القره قولي المعروف بالعالم باسم استرخان يتغالى نساء الغرب باقتنائه معاطف ثمينة لهن. وهو الوحيد في الأرض لا يوجد منه إلا في بخارى والأفغان وقد تبلغ قطعة الجلد الصغيرة منه حتى الخمس ليرات ذهباً في أسواق لندن اذا كانت من النوع الذي استخرج من بطون أمهاته. قبل الولادة وأمثال هذه الجلود لا يضاهيها بالنعومة واللطافة .... وهي على ألوان منها الأسود الفاحم البراق ومنها الأزرق السماوي اللون ومنها الأحمر ،وقد اعتنت الحكومة من بعد الاستقلال لاصلاح النسب والاكثار منه حتى بلغت صادرات الجلد الى اسواق الفراء في الغرب أكثر من مليون جلد بيعت بأثمن القيم وقد كان قديماً تجار اليهود والهنود يشترونها من أيدي أصحابها بقيم زهيدة. ليرسلوها الى عملائهم في الهند وروسيا. ولا يعرف الأفغاني ما لهذه التجارة الرابحة من الفوائد حتى استقلت الأفغان وخرج سفراؤها الى الخارج فنبهوا حكومتهم الى هذه الثروة فانتقلت اسواقها بعد قليل من لوندرا وباريز الى كابل ومزار يبيع بها أصحاب المواشي جلود غنمهم في أسواق عامة من دون احتكار ولا سمسرة، وقد دفعت الحكومة عنهم الضرائب كافة وشاركتهم في نتاج الغنم حتى صارت تجبي لوحدها فوق المئة ألف جلد سنوياً. ويتقن التركستانيون حياكة النسيج الصوفي ومن أحسنه ما يسمى قاغمه شبيهاً بالعبايات الصوفية ويفضلها كثيراً بمتانته وكذلك تتقن المنسوجات الحريرية على ما عرف بالشرق. وأما الخيول التركستانية فهي من أجود الخيول العالمية وأجملها تقاطيع بعد العربية وخصوصاً الخيول التركمانية ولا تبارى بمتانة عضلاتها. وناهيك بجبال الأفغان امتحاناً عملياً على جودة نوع هذه الخيول التي استعارت من الغزلان رشاقتها. وتراكمة تركستان الأفغاني لهم عشق مفرط في اقتناء الجياد ويحسنون امتطاءها احسان العرب وعشقهم ولهم في كل عام أيام ميامن. يظهرون بها ضروب الفروسية والسباق. ومن أشهر ألاعيبهم خطف الشياه من حفر في الأرض في حال العدو على الجياد. وهذه تحتاج لمتانة وقوة عضل واجادة في الفروسية. كما ان لهم لعبة غيرها، إذ ينصبون في الأرض مسامير خشبية تبرز أطرافها قليلاً ثم يقتلعونها على رؤوس رماحهم عدواً بالحصان. وهذه أيضاً صعبة تحتاج لمراس وقوة وإذا اخطأ الفارس الهدف قد ينقلب عن حصانه رأساً على عقب. ولهم غيرها كثير من الأعيب ... الفروسية. كثيراً ما كانوا يستقبلوننا بها في ظواهر القرى التي نمر عليها .... سارعنا عائدين الى مزار للاشتراك في حفلة موسم الشقائق، وقد شيد الوالي لنا قسطاطاً يشرف على الساحة الكبيرة للمهرجان. وكانت الباحات غاصة بعشرات الألوف من الرؤوس المعممة والذقون المكدسة الكثة. وبدأ المهرجان عصراً بين لاعبي السيف والصراع على أنواعها. ومن أجودها لعبة تبارى بها بعض الرعاة في تربية معزهم على الوقوف فوق حافة كأس نحاسي ضيق. فكان السابق منهم من تطاوعه عنزته بسرعة في اعتلاء الكأس الصغير حتى لتبدو وكأن قوائمها الأربع واحدة تحفظ اتزان بدنها. وكان الوالي يفرّق على الفائزين بالألعاب بعض الهدايا. كان يوماً بهيجاً وغروباً طرياً تهالك في أحضان الليل الرقيق في الأفق. وابتدأت الألعاب النارية تشق سهامها كبد السماء يتفرج عليها ويستلذ مناظرها الانسان والحيوان. الا خلق واحد كان محروماً منها ولا يشارك هذه الجموع ملاذها هو الخلق النسائي المسكين القابع في ديجور قباب بيوته الزاوي في حلكة ازقته الضيقة المدفون وراء اسوارها المتجهمة مثقل الروح بالذل الذي تعوده مثقل الارداف بالشحوم التي نسحبها كسلة مثقل العقل بمخاوف الضرارة وفعل التمائم والرقي مثقل الصدر بمحاذير ما سيورده جهنم. مثقل القلب بهموم أخرى مثقل الجسم بكثرة الاطمار وثنياتها مثقل البطن بما حمل من سراويل فضفاضة كبيرة، تحز بسرته وتعيق حركته حتى لو رأى آدم قدماً مرأة فيما ترك في بيوت مزار لما ضلّ وربي وربما لما هوى ولكنه رأى العري رأى الجسم النضيد رأى الوجه النضير. رأى الصحة المغدقة. رأى السواعد المفتولة البضة. رأى الجمال والحنو والعاطفة فاستباه كل ما رأى. فولى قفاه جنان الخلد وترك ما بالسماء من سناء ومن بهاء ومن مجد. وركب هوادج المنى تحدوها وثبات قلبه وسبقني الحب تسيرها هينمات روحة الكلفة الشغفة يتوسد العاطفة من صدر حواء. فأين هي العاطفة والحنان واين هي تلك الهناءة الوادعة والفتنة المغرية؟ أفي حضن هؤلاء الدمى المزارية الباردة الجافة من كل بهجة وبشر ام في عيونهن المرسلات الجمود والكنود. أم في قلوبهن الخلية من كل العاطفة الجموح والطموح والظمأ الى الحياة. أم في قدودهن المصرورة المترهلة، التي شابهت ارتماءات القبور في البراري .... حواء ويك أينأنت تطلين الى نسلك، نسل الفتنة ... فالاغواء نسل الزهو والاغراء. لتري ما فعل الحجاب في طبائعهن الجامحة، حيث خلق منهن زكائب لحمية. لا تعي ولا تشعر ولا تتأثر. ولا تحس. افقدهن الحركة والبركة. وتركهن اشلاء مهشمة محطمة. بين يدي الاشتهاء الذي لا يمت للعاطفة بصلة ما فصرن أدلة الزمان يضرب بهن عز المشرق فينهار مقتولاً بسلاحه. اين عينيك يا حواء تنتصر للأنوثة. الملتاعة بما فرطت حتى صارت العوبة الغواية وامثولة الزراية .... وأنت أيتها الجدران المعتمة ويك ما فعلت بالغيد النضر وبالبنات البكر ممن القين حظوظهن الى اكنافك. ما هذه الوجوه المعفرة وما هذه المآقي الباهتة الكالحة وما تلك الانتفاخات التي جملتهن بها؟ ... صاح بي صائح الصيانة. أوهل نسيت العفاف ايها الشقي. يستحل أمثال هذه الأضاحي. ليتوج مفارق البنات اكاليله غالية ومن أعرق الصيانة والعفاف؟ صحت به بدوري ويك. أين الصيانة من القتل. وقد قتلتم بيئتنا النسائية وأورثتمونا نسلاً لا يمت الى الرجولة والبطولة بصلة .... ويك، عُج بي هنيهة على بيوت هذه البلد التي رميتها برمادك وألبستها تاج وهمك وأرني من خلال قسمات هذه الوجوه السقيمة مكامن الطهر من الرجال. الذين هم شذوا في شهوتهم حتى طرقوا اليها أبواباً لو كان الخيار لي لاخترت اغلاقها .... لا يا أيها العفاف الخداع تناولتنا بسمومك دون الغرب فتركت لهم المرأة حرة نقية قوية تلد الرجال وتنسل الأبطال. وأسقمتنا بفلسفتك فقتلت الأنوثة فينا في مهدها وتركتنا اسرى جهلها حتى استباحنا الغرب عبيداً وخولاً له .... أورثتنا أشلاء شعب يتضاءل نبوغه ويكمد خياله ويذوي تفكيره الا عن لهب في الذبالة ينير به ناحية من فروجه ليدفع عنها عاديات الأوهام التي تمثلها فيما يبدو من الأظفر والابهام من نسائه ثم يملي له شرهه الجنسي ان يتخذ على حساب القرآن أخداناً وخلاناً حيناً باسم الرقيق والمتعة. ومما ملكت الايمان وحيناً باسم النكوحات والتعدد من الزوجات .... انتهت خيالاتي الذبيحة فقمت الى القصر وأنا أحمل بصدري آهاتي الدامية، وقد بيتت لي سياط الأرق والسهاد، فقمت الى العصر وأنا أردد قائلاً: رحمك الله يا فيلسوف العرب أكبر يا ابن رشد العظيم يا من تنبأت للشرق مصيره هذا قبل مئات الأعوام وخشيت عليه يوماً كهذا .... رحم الله فيلسوف الاسلام الأكبر ابن رشد الذي اسشعر مقدار الخطر على الانسانية المسلمة من سحق الروح النسوية فكتب في كتب تلك الفلسفة الخالدة ... فقال "ان حالتنا الاجتماعية لا تؤهلنا للاحاطة بكل ما يعود علينا من منافع المرأة فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط وما ذلك الا لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءنا اتلفت مواهبها الفطرية وقضت على اقتدارها العقلي فلذا لا نرى بين ظهرانينا امرأة ذات فضائل أو على خلق عظيم. وحياتهن تنقضي كما تنقضي حياة النبات، فهن عالة على ازواجهن وكان ذلك سبباً في شقاء المدن وهلاكها بؤساً لأن عدد النساء يربو على عدد الرجال ضعفين فهن ثلثا مجموع السكان ولكنهن يعشن كالحيوان الطفيلي على جسم الثلث الباقي بعجزهن عن تحصيل قوتهن الضروري". سبعة أيام كوامل أقمناها في مزار في ضيافة الوالي محمد سرور خان الذي لم يألو جهداً في الحفاوة بنا حتى خلق لنا جواً من الراحة انساناً به جميع متاعب السفر. وكدت استسيغ الكسل شأن جميع من أراهم حولي. لولا واجب المهمة. 19 رجب يوم الأحد 1337 وكان عناق فقبل فوداع مع الوالي الذي خرج الى ظاهر البلدة للاشراف على معدات سفري بنفسه يبدل ركائب الأحمال بأحسن منها، وينتخب الادلاء من أبناء رؤساء القبائل التركية ممن لهم المام بالصحراء. ويفتش حرسه العسكري حتى يكون كله كامل العدة والسلاح. وقد ارفقني برئيس مضيفيه لمرافقتي وأهداني ثلاثة جياد مطهمة. لما استكثرتها قال انك ستحتاجها في بخارى بلد الأبهة والفخفخة .... وستجد في هذا الحمل بعض ما تحتاج لإهدائه الى بعض لناس في بخارى، وان احتجت الى كثرة فأرسل اعلمني. وتعانقنا ثانياً وسرنا نتبطن الجنائن الوارفة. مررنا بقرية تخته بول التي كان اعتمدها الملك أفضل خان لاقامته اثناء وجوده في تركستان لطيب هوائها وجودة مناخها ... وشاء ان يجعلها بلداً كبيرة وسورها بأسوار عريضة واسعة، الا انه لم يتحقق ظنه وماتت الفكرة بموته. ظهراً وصلنا الى بلخ وفطرنا في دار حاكمها واسترحنا قليلاً وسرنا على طريق ضيقة متعرجة على هضاب تأخذ برقاب بعضها البعض حتى آدينه مسجد مقر حاكمية شرشرك وهي آخر العمار وأول البيداء التركمنية.